لعل أكبر مؤشر الى رداءة هذا الزمن اننا اعتبرنا مجرد عقد قمة استثنائية وتفعيلها للقمة السنوية العادية انجازاً يستحق كل هذا التهليل والتكبير، بينما لا يتعدى هذا الأمر كونه الرد العربي الأدنى اللازم اشعاراً بأننا ما زلنا على خريطة هذه الكرة الأرضية بعدما بلغ استخفاف واشنطن بنا الذروة في كامب ديفيد الثانية عند تواطئها مع تل أبيب على مبدأي السيادة اليهودية على الحرم الشريف ووجوب تقسيمه بين اليهودية والاسلام، وعلى رفض حق العودة الذي كرسته المواثيق السماوية والدولية، والتزمته واشنطن منذ 1948، من دون ان تتكرم حتى باخطار سابق للقادة العرب الأصدقاء بذلك. وبديهي ان تعالج القمة العادية في الظروف العادية طيفاً من القضايا التي تهم جميع أعضائها، ومع تفهمنا للتمايز بين مهتمي القمة الاستثنائية والعادية، يبقى أن الأهم دوماً يسبق المهم، خصوصاً ان الظرف الذي تمر به الأراضي الفلسطينيةالمحتلة الجاثمة بين مطرقة الجيش الاسرائيلي وسكوت واشنطن على عملية خنق سادي لشعب بأكمله، هو ظرف غير عادي يستدعي عزماً وحزماً استثنائيين. لذلك على القمة المقبلة ان تولي الشأن الفلسطيني الأولوية على سائر ما أدرج في جدول اعمالها مع التركيز على الزوايا - المفاصل في هذا الشأن. ولا شك في ان على القمة، بادئ ذي بدء، ان تؤكد لواشنطن بلا لبس أو ابهام ان جدول اعمالنا غير جدول أعمالها، وانه مع ادراكنا وحشية صدام ونظامه وفداحة مع اقترف في الكويت وما عاناه ويعانيه الشعب العراقي، فإن همنا الأكبر هو غطرسة اسرائيل العسكرية ونزعتها الامبراطورية النابضة بالحياة وطموحها للهيمنة على مشرقنا، استناداً الى الدعم غير المشروط الذي تتلقاه من واشنطن ذاتها. ومن الخير في هذا الصدد ان نستذكر ان تركيز واشنطن الحالي على خطر داهم من صدام تحويلاً للانظار عن تل ابيب، ان هو إلا صيغة جديدة لاستراتيجية قديمة تعود الى الخمسينات من القرن الماضي، عندما طرح الغرب مشروعي حلف بغداد ومبدأ ايزنهاور تركيزاً على خطر داهم من موسكو تحويلاً للانظار عن اسرائيل والصهيونية. فما هي إذن الزوايا - المفاصل في هذا الشأن الفلسطيني؟ أولاً: أمّ الزوايا هي بلا شك الهوة السحيقة من فقدان الثقة بين شخص ياسر عرفات ومعظم العواصم العربية، فإذا لم تعالجها القمة المقبلة معالجة جذرية على أسس جديدة سيظل هذا الخلل الخطير ينخر في صميم العلاقة الفلسطينية - العربية مبدداً ومبطلاً أي جهد مشترك. مما سينعكس كارثياً على حرب الاستقلال الفلسطينية المستعرة والتي وصلت اليوم الى مرحلة الحسم. ومن الخير في هذا الصدد ان نعود بالذاكرة الى عام 1947 والى العلاقات الشبيهة بين شخص الحاج أمين الحسيني والعواصم العربية حينذاك، والى ما آلت اليه الأوضاع بسبب ذلك في فترة الحرب الأهلية الطاحنة بين الشعب الفلسطيني والقوات اليهودية قبل دخول الجيوش العربية النظامية فلسطين في 15 ايار مايو 1948. ليس هنا المجال للتأريخ للعلاقات العرفاتية - العربية في العقود الأربعة الماضية، ولكن علينا ان نشير الى دور أبي عمار في التورط الفلسطيني في الأردن ولبنان وفي الجفاء مع دمشق، كما الى موقفه من اجتياح صدام الكويت وما نتج من ذلك بالنسبة الى علاقاته مع عواصم الخليج. فضلاً عن اسلوب مزمن في ادارة الشؤون المالية لا يعترف بوجود مصطلحي "الشفافية" و"المحاسبة". فإذا أضفنا الى هذا وذاك نظرية "استقلال القرار الفلسطيني" المتعالية التي استلهمها في ديبلوماسيته الانفرادية مع تل ابيب وواشنطن تبين لنا نصيب أبي عمار من المسؤولية عن الحال الراهنة من دون ان نعفي سائر الفرقاء العرب من مسؤولياتهم. وما دام أبو عمار صاحب القرار الفلسطيني الرسمي فلا مندوحة للقمة من التعامل معه، بيد ان الأمل ان يكون اكتشف لنفسه حدود قدرته على المناورة والتأثير بمفرده في واشنطن بالذات، بعدما انقشع سراب "العلاقة الحميمة" بالبيت الأبيض، وتجلت حقيقة صداقة بيل وهيلاري له وللسيدة سهى، وبعدما أحكمت اسرائيل "قبضتها الخانقة" عليه وعلى الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة. فعسى ان يكون، بعد كل هذا، قد أدرك وهو في المصطلح الانكليزي "الحيوان السياسي" Political Animal الأمثل، ان القضية الفلسطينية أكبر منه، وان الشعب الفلسطيني بالأمس واليوم وغداً في اشد الحاجة الى ظهيره العالم العربي بأسره للثبات أمام أعظم خطر يواجه فلسطين العربية منذ الحروب الصليبية، والمتمثل في الحلف الضمني بين السلطان الاميركي والحركة الصهيونية. وعليه، فلا بد من مصارحة وجدانية في كواليس القمة المقبلة، تجمع القادة من القاهرة والرياض ودمشق وعمان تؤول الى مقايضة صريحة موثقة فحواها دعم عربي مالي وديبلوماسي جماعي مستمر منتظم على مستوى التحدي يقابله تنسيق ديبلوماسي وشفافية فلسطينية سياسية ومالية منهجية مستمرة. وفي حال تعذر الاتفاق على ذلك، لا يكون ثمة بديل من مصارحة الدول العربية لشعوبها، بما في ذلك الشعب الفلسطيني، بمصدر الإشكال ومورده ووجوب معالجة ذلك جماعياً قبل فوات الأوان. فالفرد، مهما عظم قدره وأياً كان لا يعلو على الوطن، ومصلحة الوطن لا تتلازم دوماً مع مصلحة الفرد. ولعل خير شاهد على ذلك ما حصل حتى للظافر المنتصر ونستون تشرشل عند انتهاء مهمته بانتهاء الحرب العالمية الثانية. ثانيا: إرساء العلاقات الفلسطينية على أساس الميثاق الفلسطيني - العربي الجديد الذي ذكرنا يُسهل نسبياً معالجة القمة لسائر زوايا الشأن الفلسطيني، على افتراض صحة قولنا أن الحائل دون المعالجة العربية الجدية لهذا الشأن انما مبعثه فقدان الثقة بأبي عمار وبسببه هو، وليس الاستكانة العربية لطروحات واشنطن ولندن وضغوطهما. ومما لا شك فيه ان الزاوية الثانية للشأن الفلسطيني على سلم أولويات القمة انما هي الدعم العربي المالي المستمر المنتظم على مستوى تحدي الطرف الآخر. وحتى نضع مبلغ البليون دولار الذي أقرته القمة الاستثنائية والذي لم يتوافر في الصندوق الى الآن سوى نحو 300 مليون دولار في سياقه الصحيح لا بد لنا من الاشارة الى ان ما تلقته اسرائيل من الولاياتالمتحدة لوحدها في العقود الأربعة الماضية هو في حدود 6 بلايين دولار ونيف سنوياً نصفها من الحكومة الاميركية ذاتها والنصف الآخر من الجالية اليهودية الاميركية. ويتكون النصف الآخر من بليون دولار من التبرعات المعفاة من الضرائب، وبليون دولار من ريع مبيع سندات اسرائيل في اميركا، وبليون دولار من استثمارات شركات ورجال الاعمال اليهود الاميركيين في اسرائيل. وعليه لا يزيد ما اقرته القمة الاستثنائية كتدبير استثنائي واحد أوحد من قبل مجموع الدول العربية على ثلث ما درجت الجالية اليهودية الاميركية لوحدها البالغة 6 ملايين نسمة فقط على تقديمه روتينياً سنة بعد سنة منذ 1967. وعلى افتراض ان حجم ما أقرته القمة الاستثنائية والبطء في تحويله انما يعود الى العلة إياها - أي فقدان الثقة بأبي عمار - فالأمل ان يعاد النظر بالسرعة اللازمة في ما هو مطلوب فعلاً من دعم عربي مالي منتظم ومستمر على مستوى التحدي، اثر زوال العلّة. ومع ذلك، فإن اقرار القمة الاستثنائية مبلغ بليون دولار من حيث المبدأ وتولي البنك الاسلامي للتنمية الاشراف على انفاقه، وتأسيسه صندوقي الاقصى والانتفاضة ومجلس أعلى للصندوقين للاشراف عليهما... هي خطوات ايجابية في الاتجاه الصحيح، على رغم بطء تحرك هذه الآلية وضرورة انشاء مكتب لها داخل فلسطين لاحكام التنسيق بينها وبين السلطة في ضوء الميثاق الجديد الفلسطيني - العربي المقترح. وبديهي ان أعلى أولويات الدعم المالي هو الاسراع في تعويض الجسم الفلسطيني مما لحق به من قتل وتشويه وتمزيق ودمار بسبب تدابير اسرائيل القمعية في بنيته البشرية ونسيج مجتمعه واقتصاده العام - اي المدد العاجل. بيد ان مهمة الدعم العربي المالي تتعدى المدد العاجل الترميمي وحتى المتوسط المدى، وتتطلب استراتيجية عربية جماعية بعيدة الأمد وطويلة النفس تقوم على مشروع "مارشال عربي" على مستوى التحدي الماثل ليوازي هذا الدعم في أثره الدعم الاميركي الرسمي واليهودي لاسرائيل، ويخلق حقائق ميدانية تقابل حقائقهم، ويهدف تالياً الى خفض تبعية الاقتصاد الفلسطيني للاقتصاد الاسرائيلي الى أدنى درجات التبعية الممكنة، ليزيل اكبر وصمة عار على جبين هذه الأمة التي تتمثل في اضطرار 130 ألف عامل فلسطيني الى ذل الخدمة يومياً في مزابل اسرائيل ومستعمراتها في الأراضي المحتلة! ان "مشروع مارشال عربي" على هذا النطاق يتعدى كونه مدداً عاجلاً أو متوسط المدى ويتطلب رأس مال يفوق بأضعاف مبلغ البليون دولار الذي اقرته القمة الاستثنائية، لكنه الوحيد القادر على اقناع واشنطن وتل ابيب بجدية الحرص العربي الجماعي على عروبة ما بقي من فلسطين. وهو تدبير لا طاقة من دونه للشعب الفلسطيني وحده ان يجتاز المرحلة المقبلة من حرب استقلاله، سواء استمرت الانتفاضة غير السلمية أو تحولت حركة عصيان مدني سلمي في مواجهة ما يخطط له شارون وزبانيته من يمين اسرائيل ويسارها. ثالثاً: الزاوية المفصل الثالثة في الشأن الفلسطيني هي زاوية العمل الديبلوماسي العربي - الفلسطيني المشترك. ومن الخير ان نعالجها تحت عنوانين اثنين: قمة كامب ديفيد الثانية، والمشروع العربي المضاد. أ- كامب ديفيد الثانية: تولى كلينتون، نيابة عن باراك، تحوير حقيقة ما جرى في القمة تنفيساً عن غضبه واحباطه لفشلها، ولهثاً وراء أصوات يهود نيويورك لمصلحة زوجته في انتخابات الكونغرس. وساهم كلينتون بذلك مساهمة بارزة في خلق انطباع عالمي بأن ما عرض على الفلسطينيين بالنسبة الى القدس واللاجئين والحدود انما كان سدرة المنتهى في المعقول، والسخاء والتسامح الاسرائيليين، وانهم برفضهم هذا العرض ولجوئهم الى الانتفاضة تخلوا عن المسار السلمي، وحنثوا بتعهداتهم في مدريد وأوسلو، واختاروا العنف سبيلاً لهم، خلافاً لالتزام اسرائيل النهج السلمي التفاوضي. ولقد رسخت، طبعاً، الدعاية الصهيونية هذا الانطباع، وجذرته. مما يفسر غالباً ردود فعل أوروبا الغربية الخافتة حيال تدابير اسرائيل القمعية للانتفاضة، واستمرار الادارة الاميركية الجديدة في التغاضي عن هذه التدابير. والمفارقة الكبرى ان مبالغة كلينتون في مديح سخاء صديقه باراك كانت من أهم أسباب فشل هذا الأخير في انتخابات الكنيست. نعم، كان في مقترحات كلينتون وباراك في كامب ديفيد بعض الايجابيات، منها: تبديل اسرائيل لموقفها العتيد من "وحدة" القدس، والانسحاب من معظم قطاع غزة، وتموضع قوات دولية في الدولة الفلسطينية، وعودة الاغوار ولو لاحقاً، وزمن انسحاب معظم القوات الاسرائيلية من الضفة... ولكن في مقابل هذه الايجابيات كانت هناك سلبيات خطيرة وضخمة منها: تكريس حق السيادة اليهودية على جزء من الحرم الشريف، وتقسيم الحرم، وبقاء معظم القدسالشرقية في أيد اسرائيلية، ورفض اسرائيل القاطع حق العودة، والسماح لحوالى 50 - 100 ألف لاجئ فقط من أصل 4 ملايين ونيف بالعودة على اساس "لمّ الشمل" فقط، وبقاء قوات مراقبة للجيش الاسرائيلي في الضفة، ورفض اسرائيل مسؤولية التعويض عن مدن اللاجئين وقراهم واملاكهم المنهوبة، وكون ما يبدو انها نسب ضئيلة من الأراضي الفلسطينية 4 - 6 في المئة تضمها اسرائيل مركزة حول القدس، بحيث يتعذر على العاصمة الفلسطينية الاتصال المباشر بجبل نابلس شمالاً، وبجبل الخليل جنوباً، مما يبطل قابلية الدولة الفلسطينية للحياة الطبيعية، وحق الجيش الاسرائيلي في العودة الى الضفة عند الطوارئ، وحق سلاح الطيران الاسرائيلي باستعمال المجال الجوي الفلسطيني أيام السلم، ووجوب اسقاط كل الحقوق الفلسطينية التاريخية والمعنوية والقانونية كجزء لا يتجزأ من الصفقة. هذه هي قسمة ضيزى التي رفضها أبو عمار وكان على حق تام في رفضها. ب - المشروع العربي المضاد من بديهيات العمل الديبلوماسي انه لا يكفي اثبات الحق ودحض ادعاءات الخصم القانونية والتاريخية، فالرأي العام العالمي، والدولة أو الدول المخاطبة سعياً وراء كسب تأييدها، تحتاج الى معرفة تفاصيل الحل المنشود حتى تكون على بينة مما هو مطلوب منها تأييده. وكلما كان الحل المطروح واضحاً ومعقولاً زادت نظرياً امكانات تأييده، ولمعت صورة الطارح. وقد طرح باراك في كامب ديفيد مشروعه "الواضح" و"المعقول" من خلال كلينتون مما أكسب مشروعه المزيد من "الوضوح" و"المعقولية" المستمدتين من رئيس الولاياتالمتحدة نفسه. وفوجئ الطرف الفلسطيني، كما يبدو بالطرح الاسرائيلي - الاميركي، ولم يكن مستعداً لطرح مقابل، فكان هذا من أهم أسباب تنفير كلينتون منه. ولم يكن ثمة مبرر لأن يفاجأ الطرف الفلسطيني في كامب ديفيد، كما لم يكن من مبرر لعدم وجود مشروع فلسطيني واضح ومعقول مضاد، فالقضية الفلسطينية ليست ولم تكن بنت ساعتها. فإذا كان أبو عمار على حق في رفض ما طرحه كلينتون وباراك فإن اللوم يقع عليه لأنه لم يطرح مشروعاً معقولاً مضاداً. ولم يقتصر التقصير الفلسطيني على هذا، ذلك انه لم يقم بأي محاولة جدية اعلامية عالمية لشرح أسباب رفضه طرح كلينتون - باراك. علماً بأن السيدين محمود عباس واكرم هنية قدما لاحقاً الى الرأي العام العربي روايتين تفصيليتين لما حدث. بيد ان مخاطبة الرأي العام العربي لا تحل محل مخاطبة الرأي العام العالمي، وبخاصة الغربي منه. وهكذا قطف الطرف الفلسطيني الثمار المريرة ثلاثاً: من تفرد الطرف الاسرائيلي بطرح ما بدا انه مشروع "معقول" و"واضح"، تميز الطرف الفلسطيني عن خصمه بعدم طرحه مشروعاً مضاداً، وفشله في ايصال وجهة نظره الى العالم. ولا تقف خطورة هذا الأمر عند هذا الحد، ذلك انه على رغم شروح أبي مازن وهنية، فثمة عواصم عربية ما زالت غير مقتنعة بها. بل قد يكون بعضها نقل تحفظه هذا الى واشنطن وغيرها من العواصم الاجنبية مما يزيد من وهن وجهة النظر الفلسطينية ديبلوماسياً وعالمياً. وعليه فإن على رأس واجبات القمة بالنسبة الى العمل الديبلوماسي العربي المستقبلي ضرورة جلاء هذا الأمر جلاءً تاماً حتى ينطلق المشروع العربي المضاد من قاعدة صلبة تستند الى التفاهم والتنسيق المحكمين بين السلطة الفلسطينيةوالعواصم العربية الفاعلة. أما عن تفصيل المشروع العربي المضاد فلنا قول في مناسبة لاحقة ان شاء الله. *امين سر مؤسسة الدراسات الفلسطينية.