إستمتنا لتعليمهم اللغة العربية... أو استمتنا ليستمروا في تعلم العربية... ثم، وفي الحالتين، رحنا نستميت لكي يحافظوا على ما كانوا تعلموه من هذه اللغة قبل ان نغادر البلاد... ثم ها نحن مستميتون لكي يستمروا في التحدث الينا، أو في ما بينهم، بالعربية. من دون أي لزوم، يبدو الأمر احياناً تراجيدياً... تراجيدياً لنا، نحن الأهل. لكن وبما انه بلا لزوم، يتحول كوميدياً لهم، هم الابناء. يرون في اصرارنا على العربية سمة جديدة يضيفونها الى سمات تعلقنا بأهداب عالم مضى، بفولكلور يشبه اصرارنا على ان الكشك، حين يحزّ البردُ العظامَ مساءً، لا مثيل له على وجه الأرض، ولا منافس لمنافعه التي لا تحصى. عظيمة طبعاً اللغة العربية... يجيبون، لكن لمَ كل هذا التشنج؟! نرى في الإجابة ما نخشاه تماماً... إنهم، وهم ينطنطون بين اللغات وأنصاف اللغات وأرباعها، ينظرون الى العربية كغيرها... واحدة من عديدات. لسان من الألسنة يستخدمه خلق الله في منطقة ما من العالم. - الأم؟ أعني اللغة الأم؟ ما سمعته وأنت رضيع ثم وأنت طفل هناك؟ - آه، طبعاً. عظيمة اللغة الأم... نحن نتكلم اللغة الأم في ما بيننا الآن أليس كذلك... هذا أبعد ما تستطيع الوصول اليه في نقاش كهذا. إنه لن يرافقك الى أبعد من نقاش يعنيك انت... خاصة وأنك تُثقله كثيراً بجدية غير مفهومة، وتبدو من تعابيرك نوايا ونوازع قد تذهب بك حدّ اللجوء الى علوم مبهمة واعتباطية للاستنجاد بها كعلم النفس وما شابه... انه بالفعل نقاش يعنيني. لقد تركتُ البلاد بعد ان صنعتُ اكثر من نصف ما يصنع الانسان في النصف الأول من حياته. وهو تركها وهو دون العاشرة. ولغتي الأم هي كل ما صنعته وصنعه الناس من حولي هناك في التناغم. ولغته هو كانت كل ما صنعه الناس من حوله دون ارادته فغادر البلاد قبل ان يتكلم بقول له. انه اكثر حريةً مني بكثير، لذا يصعب علي فهم ذلك... انني ممن اعتقدوا أنك بحاجة الى بيت واحد حين تغادر بيتك وكل الأمكنة التي تتكلم اليها وتتكلم اليك. وان للأغراض التي تركتها خلفك اسماء تنتمي الى المقاطع الصوتية نفسها. وابني يرى ان للاغراض التي نغادرها اسماء لا تنتمي الا الى الافواه التي تقولها. لذا أنا أكتب وهو يرسم. حين تمغصه بطنه أغني له - كما حين كان طفلاً صغيراً - الرندوحة التي تعلمتها من أمي، وهو يحب ذلك كثيراً. انه لا يتهجأ اسمه مراراً بالفرنسية مثلي وكأن من يسمعني لن يسمع. وهو يوقّع اسمه بالعربية لأن الخط أجمل، كما يقول. أصحوا احياناً في عمق الليل فأجده سهراناً امام شاشة الكومبيوتر. أسأله ماذا تفعل؟ فيقول لي: "تشات"، اي انه يتحادث مع شبان مثله - عبر الانترنت - من كل بقاع الأرض... وبأسماء مزورة لا تتحول حقيقية الا بعد "صداقة ما" وعبر بريد شخصي، وتبقى سرية. أجلس قربه، يساعدني في فك الشيفرة. أو الكتابة السريعة المشفرة التي تختصر الكثير من الحروف، فتُكتب الكلمة كما تلفظ وتختصر الجمل الى حروف. مثلاً: ban بدل burn وA.S.L? بدل السؤال عن العمر والجنس والمدينة. انها عموماً اللغة الانكليزية مطعمة بلغات اخرى كثيرة ومبسطة في تراكيبها وألفاظها بحيث يسهل فهمها والتخاطب بها الى حد بعيد جداً. - هل هذه هي اللغة الكونية الجديدة، لغتكم؟ أسأله فيجيبني بسرعة: طبعاً لا... انها لغة "التشات". ثم أجده يبتسم فيما محادثه يكيل الشتائم للعرب، وهو من جهته يهدد بحرق الجنس الأبيض!. وحين أنبري للرد، بحمية وبعقلانية، على "سوزبوز" النازي، وللرد على ابني بأن حضرته أيضاً أبيض، أُصبح فجأة ثقيلة الدم ساذجة ومن تراث آخر. فالنازي السويدي قد يكون جارنا صاحب الدكان العربي اللطيف في الشارع المحاذي، وهو غارق في الضجر، وفي المزاح الذي يجعله يهاجم السويدي من داخل جلده ليجعله مكروهاً واكثر نازية وبشاعة، أو لمجرد انه غارق في الضجر... أنت تتكلمين عن نقاش والأمر مجرد "تشات"! ثم وجدته مرة يتحادث مع صديقه الأحب باللغة نفسها، بين باريس ولبنان، وعبر اسميهما المستعارين... وحين استفسرت قال ان اللبنانيين هم الأكثر ادماناً على التشات على الاطلاق. قلت لنفسي: يغادر البلاد ايضاً هؤلاء الذين لم يغادرها أهلهم. يغادرون أثقال المعنى واللغة الأم، الى خفة الاسماء المستعارة، الى بلاد ال"تشات" التي لا يكدر سماءها غيمة.