لو لم تصدر "الصراط" في يافا، عام 1933 حيث قطع المشروع الوطن القومي اليهودي شوطاً بعيداً... لربما كانت تمحورت افتتاحياتها على الشأن الديني كما كان حال مجلة "المنار" لمحمد رشيد رضا، التي صدرت في القاهرة. صحيح ان الشيخ القلقيلي ضمّن كل عدد من جريدته أبحاثاً ومقالات وأخباراً دينية إسلامية، ولكن معظم افتتاحياته تناولت الحركة الصهيونية وخطرها على وطنه الصغير فلسطين... والأصغر يافا. تحت عنوان "قحة" قال صاحب الجريدة ورئيس تحريرها في افتتاحية العدد الصادر في 11 كانون الثاني يناير 1938 "ان الصهيونيين، وهم حتى اليوم لا يملكون من فلسطين ملكاً عادياً غير القليل، ما يزالون في تخيلهم ان فلسطين جميعها في قبضة يدهم، وانها تراث انتقل اليهم من آبائهم، فهم يملكون تقرير مصيرها". لذلك كان حتمياً "ان يبقى حقنا وباطلهم يتصارعان حتى يغلب أحدنا الآخر". لمن ستكون الغلبة في الجولة الأخيرة؟ الشيخ القلقيلي متفائل عبر قوله في الافتتاحية: "اذا كنا على يقين بأن الحق والحقيقة غالبان، والباطل والوهم مغلوبان، فإنا واثقون من ان فلسطين لن يسودها ويسيطر عليها غيرنا". ولكن تفاؤل عبدالله القلقيلي السياسي والوطني، لم يشمل العلم والأدب. بل انه كان في ذروة التشاؤم عبر مقالته "فلسطين مقبرة العلم والأدب" المنشورة في غزة شباط فبراير 1938. وكيف يمكن ان يتفاءل وقد رأى ان العلم والأدب لا يضيعا "في بلد ضيعتهما في فلسطين، فهما فيها أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام". والكاتب يقرر ذلك ليس بالمقارنة مع البلدان الأوروبية التي كان أدباؤها وعلماؤها ملوكاً غير متوّجين، بل مع علماء مصر والشام والعراق وأدبائها. وبنتيجة المقارنة تتركز الصورة القاتمة على الشكل الآتي: "يعود الى فلسطين العالِم أو الأديب بعد ان كدّ في تحصيل العلم والأدب، فلا يمضي بضع سنين حتى يموت علمه في صدره ويجمد فكره في مقرّه، إذ لا يجد سبباً من أسباب حياة العلم فيها. ذلك ان أسباب حياة العلم. الدولة والسلطان. والدولة في فلسطين أعجمية من انكليزية ويهودية". طبعاً، لم تكن تلك المرة الوحيدة التي انتقد فيها القلقيلي الدولة المنتدبة بريطانيا العظمى. وندر ان خلا عدد من الصراط من النقد اللاذع باتجاه الإدارة الانكليزية في فلسطين والحكومة البريطانية. ولكن تنفيذ وعد اللورد الانكليزي بلفور من أجل إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، لم يقتصر على جهود الانكليز، بل شمل البيت الأبيض الأميركي وسائر البيوت الأميركية الرسمية وبخاصة مجلس الشيوخ. قال القلقيلي في افتتاحية 5 نيسان ابريل 1938 ان أميركا "تعنى باليهود وتعطف عليهم. فهي إذا رأت دولة تضطدهم هاجت وماجت وبذلت نفوذها لتخفيف وكشف العذاب عنهم، وليس ما نراه في أميركا من كره لإلمانيا في الحقيقة، إلا من أجل اليهود". ويضرب مثلين على التحيّز الأميركي، أولهما "قدوم وفد مجلس الشيوخ الأميركي الى فلسطين بدافع من اليهود و... توسط الحكومة الأميركية لدى الحكومة البريطانية طبقاً لرغبات اليهود". ويختم الكاتب افتتاحيته بالاستدراك الآتي: "ان عرب فلسطين وسورية حينما استُفتوا، اختاروا أميركا، إذا لم يكن بد من الانتداب عليهم". ويذكر ان الاستفتاء المذكور جرى في مطلع العشرينات من القرن الماضي، وأجرته لجنة "كنغ - كراين" الأميركية، حيث شمل لبنانوفلسطين والأردن وسورية. وكان موضوعه استقلال الأقطار الأربعة ووحدتها. تعددت آراء النخب التي تم استفتاؤها حيث طالب بعضها بالاستقلال التام، فيما طالب البعض الآخر، وهو الغالب، بالانتداب البريطاني أو الفرنسي أو الأميركي. ولكن ضمن اطار محدود ولفترة قصيرة. لذلك بقيت توصيات لجنة كنغ كرايت حبراً على ورق، لأن الدولتين المنتدبتين بريطانياوفرنسا، قد بدأتا تمارسان نهجاً استعمارياً قبل الاستفتاء بعامين" من هنا سرّ رفضهما الاشتراك بالاستفتاء. وعلى الرغم من معركة ميسلون غير المتكافئة واستشهاد وزير الحربية في حكومة فيصل الأول يوسف العظمة، حيث ظهرت فرنسا خلالها وكأنها الأشرس في رفضها للاستفتاء الأميركي... فإن الرفض البريطاني كان الأعمق والأشمل، لأنه كان يستهدف توفير المناخ الملائم في فلسطين لتحقيق الوطن اليهودي. وبالمناسبة، فليس صحيحاً ما يقوله القلقيلي من ان عرب فلسطين قد اختاروا أميركا كدولة منتدبة. ذلك ان معظمهم اختار بريطانيا. شارك بعض الكتّاب المتطوعين في تحرير الصراط. لعل المشاركة الأطرف تمثلت في مداخلة السيدة فريدة يوسف قطان التي كانت "احدى ضحايا داهش" على حد تعبير القلقيلي في العدد السابق نفسه إذ يقول صاحبه: "كنا نشرنا كلمة لمُنا فيها الصحف التي تروّج لألاعيب الرجل المعروف بداهش، وأشرنا الى قصة سيدة كان لها ثروة قد توصل داهش اليها فتبددت". ومما قالته فريدة ان داهش ارسل الى ولدها نصري المقيم في السودان "بكتاب يقول فيه انه ميت ولكنه حي بالروح، لذلك يستصرخه بالمروءة ان يترك أعماله التجارية في السودان، وان يأتي الى القدس ليقرأ له تعويذة فيرجع الى الحياة. وصدّق نصري هذا الدجّال الفظيع، فترك شغله وجاء الى فلسطين ليحيي هذا المشعوذ الميت. وكانت نتيجة ذلك ان يقع في الشرك ويفقد أمواله". وكشفت الكاتبة الاسم الحقيقي لداهش وهو "سليم موسى الياس الغشي، السرياني، الذي يدعو نفسه الدكتور داهش وهو لقب انتحله اعتباطاً لتسهيل أسباب دجله". ويذكر ان الدكتور داهش استقر في لبنان، وأصبح له أتباع، منهم شقيقة زوجة رئيس الجمهورية الشيخ بشارة الخوري، وتوفي خلال السنوات الأولى للحرب الأهلية التي اندلعت في العام 1975. ويعود الفضل لفريد قطان حول تحديد هوية وطنه، اذ كان الاعتقاد السابق انه من اصل ايراني. * كاتب لبناني.