بعد مرور أكثر من 63 سنة على قبول إسرائيل دولة جديدة داخل أسرة الأممالمتحدة، طلب رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، قبول فلسطين عضواً في الأممالمتحدة، ثم ألقى خطابه في الجمعية العامة (23 أيلول – سبتمبر – 2011) وقدّم نسخة إلى الأمين العام بان كي مون، يسأله فيها دعم المنظمة العالمية قبولَ فلسطين دولة شرعية على حدود الرابع من حزيران 1967 عاصمتها القدس الشريف. ومع أن طلب أبو مازن لا يختلف من حيث ديباجته عن الطلب الذي قدمه أبا إيبان سنة 1947، إلا أن الاختلاف بينهما يبقى أعمق من كل تصور. والسبب أن إسرائيل هي أول دولة لم تكن موجودة على خريطة دول العالم قبل 1947، بل هي أول دولة توجد بقرار من الأممالمتحدة، وفوق أرض دولة أخرى كانت موجودة ومستمرة منذ مئات السنين. في ضوء هذا الواقع الذي ولد من رحم قرار التقسيم، لا بد من مراجعة حقبة الانتداب البريطاني على فلسطين، وما وفّرته من أرضية إدارية وسياسية مطلوبة لاستيعاب المهاجرين اليهود. وقد عبّرت صحف لندن يومها عن استيائها العميق من التزام الحكومة تنفيذ وعد بلفور. وحول هذا الموضوع كتبت جريدة ال «تايمز» (23 تموز/ يونيو 1922) افتتاحية عنوانها: «انتداب فلسطين». وهذا بعض ما جاء في الافتتاحية: «إن فلسطين ليست بلداً خالياً من السكان. وعدد سكانها كبير. لغتهم هي العربية. وحتى ما جاء في وعد بلفور فإنه يحتم على الإدارة البريطانية حماية هؤلاء السكان بالكامل. إن سياستنا وقعت في شكل خطير وغير محسوب، تحت تأثير الصهيونية السياسية في بلد مثل فلسطين يتمتع بموقع حساس في قلب العالم الإسلامي الناهض. كما أنه يقع على الطريق الاستراتيجي المؤدي إلى الشرق». وكتب رئيس الوفد الفلسطيني إلى لندن، موسى باشا كاظم الحسيني، رسالة إلى صحيفة ال «تايمز» جاء فيها: من المجدي إبداء وجهة النظر العربية المتعلقة بفلسطين: أولاً – إن العربي ليس معادياً لليهود، ففي الوقت الحاضر (أي مطلع سنة 1921) توجد 46 مستوطنة يهودية في فلسطين سمح لها بالنمو والازدهار من دون تدخل جيرانها العرب. وطبقاً للإحصاء الأخير فإن عدد اليهود لا يزيد على ستين ألف نسمة من مجموع عدد السكان البالغ ثمانيمئة ألف نسمة. ولم يسبق لليهود أن أظهروا سياسة عدوانية نحونا إلا بعد إعلان وعد بلفور. ثانياً – في 14 تشرين الأول (أكتوبر) 1918، أصدر اللورد اللنبي بلاغاً جدياً طمأن فيه الشعب الفلسطيني بأنه لن يتخذ أي إجراء بصدد وضع فلسطين من دون الأخذ برغبات هذا الشعب واستشارته أولاً. ونحن من جهتنا نتساءل: هل هناك فرق بين وعد وآخر؟ واحد للصهيونية من النوع المقدس الذي يتوجب الإيفاء به، وآخر للعرب لا قيمة له! ثالثاً – في مؤتمر كارل سباد حدد الدكتور وايزمان ما يعنيه بلفور ب «الوطن القومي اليهودي». وهو إيجاد ظروف في فلسطين تمكننا من استقبال خمسين إلى ستين ألف مهاجر سنوياً وتوطينهم على الأرض، وتوفير الظروف الملائمة لهم حتى تصبح فلسطين يهودية مثلما أميركا هي أميركية وبريطانيا هي بريطانية. رابعاً – قدم الدكتور وايزمان تفسيره للمادة الثانية من صك الانتداب بالقول: يجب أن تصبح يهودا مرة أخرى كياناً سياسياً ووطناً يهودياً. إن الصهانية موجودون في فلسطين لإعادة تكوين الوطن القومي اليهودي. ودعم هذه الرؤية، الدكتور ايدر، رئيس اللجنة اليهودية في القدس، عندما أدلى بشهادته أمام لجنة التحقيق في اضطرابات يافا. قال حرفياً: «لن يكون هناك إلا وطن قومي واحد في فلسطين. كما أن لن تكون هناك مساواة في الشراكة بين اليهود والعرب، ولن تكون هناك إلا السيادة اليهودية حالما يتزايد عدد هذا الشعب بما فيه الكفاية». بعد انقضاء قرن تقريباً على إعلان وعد بلفور، رفض بنيامين نتانياهو قبول طلب محمود عباس إدخال الدولة الفلسطينية بين مجموعة الأسرة الدولية المؤلفة من 193 دولة، وحجته أن حدود 1967 لم تكن حدوداً نهائية، وإنما خطوط هدنة. واستعان رئيس وزراء إسرائيل بثلاثة الآف سنة من التاريخ ليذكر يهود الولاياتالمتحدة بأن اسم نتانياهو يمثل الامتداد لحزقياهو ويشعيا هو، وأن تطبيق القرار 242 يعني تخلي دولة اليهود عن عاصمتها الأبدية الموحدة «أورشليم». ومن أجل تثبيت فكرة العاصمة الموحدة لدولة اليهود، قرّر نتانياهو قبل مغادرته إلى نيويورك، المصادقة على بناء 900 وحدة استيطانية جديدة. وحرصت حكومته على توزيع الوحدات الاستيطانية على عدد من مستوطنات القدسالمحتلة بهدف فرض أمر واقع ينسف مشروع محمود عباس. ولم يكن هذا القرار مخالفاً لاتفاقيات جنيف الرابعة التي تمنع نقل مواطنين تحت الاحتلال... بقدر ما كان مخالفاً لرؤية الرئيس أوباما الذي قال في القاهرة إن المنطقة لن تعرف الاستقرار من دون قيام دولة فلسطينية. هذا الأسبوع أحيل طلب الرئيس الفلسطيني على لجنة خاصة بغرض دراسة شروط الاعتراف بالدولة التي رفضت قرار التقسيم (الرقم 181) الصادر عن الجمعية العامة في 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 1947. يومها كان كميل شمعون يتناول طعام العشاء إلى مائدة رئيس مجلس إدارة سيتي – بنك في نيويورك. ولما انتهت الجلسة بالتصويت على قرار تقسيم فلسطين أصدر شمعون بياناً قال فيه: «لقد ورثت الأممالمتحدة مهمة عصبة الأمم بهدف نشر السلام ومنع الحروب. والمؤسف أن قرار التقسيم فتح باب الحروب على مصراعيه في الشرق الأوسط»، وهذا ما حصل عقب حرب التوسع والتهجير سنة 1948. ولما حصلت إسرائيل على الاعتراف الدولي، أصدر أبا إيبان كتاباً بعنوان «شاهد شخصي»، روى فيه سلسلة الاستعدادات التي سبقت هذا اليوم التاريخي. وذكر في معرض مراجعة تلك الحقبة، أن الأممالمتحدة طلبت لجنة خاصة لدرس شروط قيام دولة مستقلة أسوة بسائر الدول. واختير إيبان مع ديفيد هورو يتز ليكونا عضوين في اللجنة التي سميت «لجنة يونسكوب». وبعد التداول والنقاش قدمت اللجنة اقتراحها إلى الجمعية العامة مع تفسير مستفيض خلاصته: «إن نزاعاً يصعب كبح جماحه انفجر بين جاليتين داخل دولة صغيرة. وليس بين هاتين الجاليتين أي أرضية مشتركة. ذلك أنهما تختلفان في الدين واللغة والثقافة والحياة الاجتماعية وطريقة التفكير والسلوك والطموحات الوطنية. وإذا كان من الصعب أن يحكم أي فريق منهما بالعدل والمساواة كل فلسطين الموحدة... فلماذا لا يحكم كل فريق جزءاً من فلسطين؟». مفوّض الأممالمتحدة استند إلى منطق اللجنة ليخرج بالاقتراح الآتي: عن طريق التقسيم فقط يمكن هذا النزاع أن يجد التعبير الشافي لشعبين يستطيعان أن يأخذا مكانهما كدولتين مستقلتين في المجتمع الدولي ومنظمة الأممالمتحدة. في ضوء هذا الاقتراح، إضافة إلى دعم الدول الكبرى، صدر قرار التقسيم (181) عن الجمعية العامة (29 تشرين الثاني 1947) الذي منح الشرعية ذاتها لقيام دولة عربية. بقي السؤال المحير المتعلق بدوافع شن حرب 1948 عقب صدور الموافقة على قبول إسرائيل دولة شرعية داخل الأممالمتحدة؟! المؤرخون يفسرون هذه الدوافع بمنطق الغزاة الأميركيين الذين نكلوا بالسكان الأصليين من الهنود الحمر، وأجبروهم على الفرار. وفي «الكتاب الأسود» الذي أشرف على إعداده في بيروت، سليمان الشيخ رئيس قسم الدراسات في منظمة فلسطين لحقوق الإنسان، كامل المعلومات عن أهم المجازر الإسرائيلية. وقد ارتكبت عن سابق تصور وتصميم بأمر من ديفيد بن غوريون الذي شجع عمليات طرد السكان من طريق القتل والإرهاب والنسف والتدمير. ويكفي أن نذكر أن عدد سكان حيفا سنة 1948 كان يزيد على 75 ألف نسمة لم يبق منه سوى ثلاثة الآف لضرورات تتعلق بتشغيل الميناء. ومثل هذا المخطط تعرضت له مدينة يافا القريبة من تل أبيب. ولما بلغت أصداء مجزرة دير ياسين، يهود الولاياتالمتحدة، بعث العالم ألبرت أينشتاين ببرقية إلى القيادة الإسرائيلية يستوضح منها عن مصير السكان الأصليين. وجاءه الجواب عبر الشعار الذي ابتكره يسرائيل زنغويل، القيادي الصهيوني الإنكليزي، وفيه يقول: «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض». والثابت أن عمليات الطرد والقتل والتهجير اشتدت واتسعت بسبب اقتراب موعد الخامس عشر من أيار (مايو) 1948. أي موعد انتهاء خطة احتلال المساحات المخصصة لإسرائيل وفق قرار التقسيم. الكاتب الأميركي الشهير غور فيدال، اكتشف سبباً إضافياً مهماً، خلاصته أن هاري ترومان، قرّر خوض معركة الرئاسة سنة 1948. وفوجئ خلال إحدى جولاته الانتخابية بمتبرع صهيوني ينفحه نقداً وعدّاً مليوني دولار حملها له في حقيبة. ويعلق فيدال على تلك الواقعة بالقول: لهذا السبب تغاضى ترومان عن المساحات الإضافية التي احتلتها إسرائيل بهدف توسيع رقعة أرضها، وكان سكوته بسبب الرشوة الضخمة التي حصل عليها. طريقة الابتزاز التي مارستها قيادة إسرائيل على ترومان سنة 1948، يكررها نتانياهو مع الرئيس أوباما من طريق الابتزاز السياسي. علماً أن أوباما وعد العالمين الإسلامي والعربي في خطبة القاهرة بانبلاج فجر جديد يطل من أميركا جديدة، كما وعد الفلسطينيين بإقامة دولة مستقلة بعيدة عن مرارة الاحتلال واللجوء. وبسبب الرغبة في تجديد ولايته، وتوقعاته بدعم «اللوبي اليهودي»، ألقى في الجمعية العامة خطبة أذهلت كل المستمعين بمن فيهم محمود عباس. ذلك أنه تبنى كل الحجج الإسرائيلية المطروحة ضد الاعتراف بدولة فلسطينية، وادعى أن دولة اليهود تواجه خطراً وجودياً أثقل من أعباء نكبة فلسطين! بقي أن نذكر أن استطلاعات الرأي في الولاياتالمتحدة، ترجح فوز أي مرشح جمهوري ضده. * كاتب وصحافي لبناني