تقف المخرجة الإيرانية رخشان بني اعتماد على رأس قائمة أبناء جلدتها في حقل التجريب السينمائي. ولها لمستها القوية في مقاربة قضية المرأة في بلدها عبر تحقيق أشرطة شخصية غلبت عليها النزعة النسوية. وإذ امتلكت صوت المؤلف السينمائي بكثير من الاجتهاد والصبر، فان ذلك يمكن تلمسه عبر لغة تعبيرها البصرية. بعد أتمام دراسة الدراما، عملت رخشان في كتابة النصوص السينمائية لتنتقل مباشرة الى ميدان الفيلم الوثائقي. وما زالت نفحة تلك التجربة حاضرة بقوة في اشتغالاتها، سواء في رسم شخصياتها بكل أرثها الأجتماعي، او في تتابع حركات هؤلاء ضمن الحدث السينمائي. فظلت مخلصة لقضايا المجتمع المغيبة او المركونة خارج إطار الصورة الرسمية، معيدة طرح الأسئلة الحارقة من دون فقدان سوية الرأي. وتعتقد رخشان ان رهان السينمائي هو في خلق المعادل البصري لما يزخر به الواقع من مشكلات وقضايا معقدة. وشريطها الجديد "تحت جلد المدينة" لا يختلف عن أعمالها السابقة مثل "خارج الحدود" 1988 و "الكناري الأصفر" 1989 و"نرجس" 1992 و"الوشاح الأزرق" 1995 و"سيدة شهر آيار" 1998. بعد منع السلطات الرسمية لها، ها هي رخشان اليوم تنفض غبار السنوات عن قصة "توبة"، التي أحبتها كثيراً، وتنجزها سينمائياً. في هذا العمل تسلط الضوء على يوميات عائلة مسحوقة تقطن في إحدى الضواحي الجنوبية الفقيرة في طهران، وتلعب الأم "توبة" الشخصية المحورية في حياة عائلتها، فهي تعمل وترعى زوجها الهرم والمقعد، وتعقد الأمل على ابنها الكبير عباس، ويعزز ذلك أحساسها بأن أبنها الصغير وأخته الطالبة سينأيان بمستقبل مختلف. "الحياة" التقت "سيدة السينما الإيرانية" على هامش "مهرجان فجر" السينمائي، وكان الحوار الآتي: وضعت على لسان الأم "توبة" في نهاية شريطك الأخير صرخة مدوية ورسالة احتجاج عبر قولها "لمن ستعرضين شريطك؟"، وهو استعارة لعنوان فيلم وثائقي سابق لك. هل تلك الصرخة نابعة من خيبة ام من عجز تلك المرأة عن تبديل مصيرها؟ - الأثنان معاً. السؤال الأساسي لتلك الشخصية، او أمثالها، هو هل ثمة أمل بتبديل الشرط الأجتماعي والأقتصادي المعيشة تفاصيله كل يوم من دون جديد؟ وهل تفضي يومياتهم الى جديد يرمم خسارات الحياة؟ لذا جاءت الصرخة عالية وممزوجة بمرارة من ضاقت بهم السبل وأغلقت أمامهم فرص العيش اللائق. أما أستعارتي عنوان شريط وثائقي سبق ان نفذته عن حال المرأة، مثلما قلت، فهي لإعادة توكيد حضور ذلك السؤال الحارق عبر طرحه من جديد، خصوصاً ان أحوال الفئات الأجتماعية التي تنتمي اليها "توبة"، وغالبية سكان المناطق الفقيرة، لم تتبدل كثيراً بل زادت بؤساً وشقاءً. ما تبحث عنه "توبة" ليس العزاء او التعاطف الوجداني من مشاهد، ربما لا يختلف وضعه عن وضعها كثيراً، بل إسماع السلطات الحكومية بوجعها الذي تحمله مع بداية كل يوم جديد بكبرياء وصبر. لكنك سبق ان طرقت هذا الموضوع في مجمل أفلامك وبمستويات مختلفة، حتى غدت قضية المرأة شغلك الشاغل، كأنك المعنية الوحيدة بمشكلاتها خصوصاً أنك أخترت نموذجاً طبقياً بعينه. فاذا أستثنينا شخصية "سيدة شهر آيار"، كم كانت الصورة السينمائية موفقة في تلمس وجع تلك النسوة؟ - تأخذ القضايا الأجتماعية الحيز الأكبر من اهتمامي، وما شاهدته من شخصيات، سواء في شريطي الأخير او في ما سبقه، كلها نماذج حقيقية مأخوذة من صميم الواقع، لذا عمدت الى تصويرها كما هي من دون تزويق او ايهامات، عدا بعض التعديلات التي يتطلبها الشريط السينمائي سواء في إيقاعه او في بناء حبكته الدرامية. فقضية المرأة في بلد مثل إيران ربما هي مفتاح حل قضايا كثيرة عالقة، وهذا لا يعني ويجب الا يفهم انني أقدمها في معزل عن قضايا أشد سخونة وأكثر الحاحاً. فأنا أنظر الى وضع المرأة ضمن وحدة العائلة، وبمقدار ما هي تعنيني في قول رأيها واتخاذ قرارها وضمان حقوقها، اضع قضيتها، في الوقت نفسه، ضمن معادلة وشروط أجتماعية تكبل الرجل مثلما تكبلها. فرهان السينمائي يبقى دائماً في قدرته على خلق معادل بصري لما يزخر به الواقع اليومي من قضايا وصور تبدو ملتبسة ضمن فهم يضع الأولويات في مكانها وينتصر لتلك الشخصيات المغيبة من الهم العام والصورة الرسمية في موقفه الفني. وضمن هذا السياق أردت ان أقرأ خلفيات هذه الشخصيات والفرص المتاحة أمامها، وهي قليلة او معدومة في بعض الحالات. لذا تركت لشخصيات الفيلم حرية الحركة، الحرية في حيزها الطبيعي، وفي تلمس ممكناتها من دون تكبيلها في النص المكتوب. دراما لذا أخترت عائلة أجتمعت فيها كل عناصر الدراما، الأم "توبة" تعمل في معمل للنسيج لإسناد عائلتها مالياً، وأبنها الكبير "عباس" يعمل في معمل للخياطة، وأخوه طالب ومثله أخته الصغرى، فيما كان الزوج هرم ومقعد وحبيس الدار؟ - كتبت هذا النص قبل سنوات، وحمل عنوان "توبة"، فأحببت تلك الشخصية، لكنني، ويا للأسف، لم أحصل على موافقة الشروع في تصوير قصتها. بيد انني قررت نشر السيناريو في السنة الفائتة، وأجريت بعض المراجعات والتعديلات عليه حتى يتماشى مع زمن اليوم، ما زاد في اقتناعي بتصويره. فعلاً تجد في ثنايا يوميات تلك العائلة كل التناقضات وانكسارات أحلام العوائل الفقيرة المشابهة لها. فعمل "توبة" لا يكاد يسد سوى الجزء القليل من حاجة عائلتها، ومن دون ضمانات الاستمرار او الراحة تحت وقع مطالبات العمر، ومثلها ابنها عباس. صحيح انه يعمل، لكننا لا يمكن ان نحدد عنواناً لوظيفته. فهو مرة سائق وأخرى وسيط ويطالبه أقرباء صاحب المعمل بانجاز أشغالهم وقضاياهم المعلقة. أردت الترميز ومن خلال "عباس" الى ان الوظيفة، أياً يكن مرددوها المالي، ومن دون عنوان، تشي بفقر اقتصادي تلتبس فيه المواقع وتقتل المهن. ربما كانت الدراسة هي المخَرج المقبول والمعقول، ولكن هل تعرف ان مليون طالب يدخل الجامعة كل سنة وقلة منهم يكملون تحصيلهم الدراسي؟ نعم هناك حال من الاحباط والانكسار العام، وهو ما يوفر للدراما عناصرها الأساسية. أعود الى شخصية "عباس"، فقد كان يدور في فلك أمه وعائلته من جهة، وتداعب خيالاته أحلام الاقتران بشابة ليست من مستواه والسفر الى الخارج من جهة أخرى، هل ثمة تناقض بين طرفي هذه المعادلة؟ - لم يكن ل"عباس" قدر آخر سوى ما هو مبذول. فهو عاشق، وهذا من حقه كشاب يحلم بالاقتران بفتاة المخيلة، لكنه يدرك ان طبيعة عمله لن تضمن له مواصلة الشوط. ولو أضفنا الى ذلك الفارق الطبقي بينه وبين تلك الشابة لوصلنا الى نتيجة غلق ممكنات المغامرة المتاحة أمامه، وان كل محاولاته ستذهب سدى. ومع هذا فهو أناني يريد كل شيء لنفسه ومثالي في آن. يأخذ عائلته الى المطعم ويسرف عليها ويغرقها بالهدايا بطريقة، ربما، لا تليق بمركزها الأجتماعي. كان يعتقد ان ذلك سيكسبه حظوة اجتماعية، وضمن هذا المنحى كان مقتنعاً بأن الدراسة هي مفتاح الحل السحري لشقاء موروث، لأنه حُرمها، لذا تراه يضغط على أخيه على الافادة من تجربته. بمعنى آخر كانت محاولات "عباس" تصب في مسعى توفير حياة جديدة، وما حلمه بالسفر سوى رهان لا يجد في حياته بديلاً أقوى منه لفتح صفحة وبداية جديدتين، وهنا يتصادم الحق الطبيعي وشروط الواقع المجهضة. وهل حلم "عباس" بالسفر الى الخارج هو الحل المطروق لمن هم في عمره؟ - مثلما ذكرت، فإن "عباس" كان مثالياً يجتهد في توفير مستلزمات عائلته، الا انه وصل الى اقتناع شبه أكيد ان أستمراره في هذه الدورة لن يفضي الى شيء، لذا وضع كل رهانه الشخصي في السفر علّه يكون المنقذ. أقول إن ما طرقه "عباس" يلجأ اليه كثر من الشباب ومن هم في عمره او أصغر، بعدما ضاقت بهم مشاريعهم وممكنات الواقع الشحيحة. لكن رهافة "عباس" مع محيطه جعلته قاسياً على أخيه؟ - نعم، وهذا بالضبط ما كان يتنازعه داخلياً من صراع نفسي ومزاجي. ثمة لقطة يتحدث فيها مع أخيه ويقول له: لا أريد ان يكون مستقبلك مثلي، ولا اريد ان يكون مستقبل أختك مثل أختها الكبرى. بمعنى انه كان تواقاً الى ان يكون لأخويه مستقبل غير مصيره هو. وجدت في شريطك صوراً قوية، منها شخصية الأم "توبة"، ومربكة مثل هرب فتاة الجيران وحالات الأدمان؟ - حال الأم لم تكن أستثناءً لحضور المرأة الإيرانية. في المشهد الحياتي العام وقوتها، فهي أم تقليدية لكنها عازمة الحفاظ على تماسك أسرتها في مقابل تضحيات قاسية. اما ظواهر هرب الفتيات من عوائلهم او إدمان تعاطي المخدرات، من قبل الأحداث، فهي من الحالات اليومية الموجودة وانا لم أقحمها في سياق الفيلم، بل هي واحدة من النتائج المنطقية التي تدفع الفئات الأكثر حساسية ورهافة الى الوقوع في شباكها. وهل مثل هذه الظواهر مستحدثة نتيجة اليأس والأحباط، مثلما أشرت في كلامك؟ - لا، بل انها موجودة وتتفاعل وتأخذ أشكالاً وصيغاً مختلفة، لكننا اليوم نتكلم عليها علناً، فالأزمة تقرع النواقيس وتهدد المجتمع.