أختم سلبيات حركة الترجمة العربية بالإشارة السريعة إلى سلبيات عدة باقية. أولاها أن حركة الترجمة العربية تقوقعت، على امتداد عقود متتابعة، في مجال معرفي واحد، أو مجالات معرفية متقاربة في دائرة العلوم الإنسانية والاجتماعية. ويسهل على أي مراقب لحركة الترجمة أن يلحظ استمرار التركيز على الآداب والإنسانيات والعلوم الاجتماعية. ولا يزال المترجِم العربي مشغولاً بترجمة الأعمال الأدبية أو الدراسات المتصلة بها في الأغلب الأعم، وهو وضع ترتّب عليه ضمور حركة الترجمة في مجالات مغايرة من المعرفة الإنسانية، وعلى رأسها مجالات العلوم التطبيقية وما يتصل بها من معارف وعلوم بينية لا تتوقف عن التولّد أو التقدم. وذلك أمر يتناسب وهامشية العلم في ثقافتنا، ويقدم الدليل غير المباشر على أن العلم لم يصبح إلى اليوم مكوّناً أساسياً من مكونات ثقافتنا، ومصداق ذلك أننا لا نزال نتحدث عن الثقافة بمعزل عن العلم، كما لو كان العلم غير الثقافة، وكما لو كانت الثقافة يمكن أن تقوم من دون العلم. وترتب على ذلك الوضع نقص لافت في إعداد المترجمين الأكفياء في مجالات العلوم وعدم الاهتمام بالتخصص في الترجمة العلمية، أو تدريس تقنياتها النوعية ضمن برامج دبلومات أو شهادات الترجمة التي تمنحها أقسام اللغات في الجامعات العربية أو كلية الألسن المصرية. ولولا بعض الجهود الفردية المتناثرة التي يقوم بها بعض رجال العلم المهتمين بالثقافة العامة، وإشاعة الثقافة العلمية في المجتمع، لكان الكتاب العلمي المترجم نسياً منسياً في ثقافتنا. ولا أدل على القصور في ترجمة الكتب العلمية من الرجوع إلى "الثبت الببليوغرافي للأعمال المترجمة" في مصر، في الفترة من سنة 1956 إلى سنة 1967، حيث نجد أن النسبة الأكبر تقع على الكتب الأدبية التي بلغ مجموع المترجم منها ألفاً وخمسمئة وتسعة عشر عنواناً 1519 يلحق بها عدد ألف وثلاثمئة واثنين وعشرين 1322 في مختلف فروع العلوم الإنسانية والاجتماعية، وذلك في مقابل أربعمئة وتسعة وخمسين 459 عنواناً في العلوم التطبيقية والطبية والزراعية والصناعات والتكنولوجيا. وهي نسبة تكشف عن تدنّي نسبة الكتب العلمية المترجمة في ثقافتنا العربية المعاصرة. أعني هذه النسبة التي لم تتحسن كثيراً إلى اليوم. فمن بين عدد مئتين وخمسين كتاباً مترجماً في المشروع القومي لم يخص العلوم سوى عدد لا يصل إلى الرقم عشرة، وهو عدد بالغ الدلالة على افتقار ثقافتنا الى المترجمين الأكفياء في الثقافة العلمية، وبالغ الدلالة كذلك على غلبة الآداب والفنون والعلوم الإنسانية والاجتماعية على أنشطة المترجمين. وقد قُدِّر لي أن أشارك هذا العام والعام الماضي في تقويم أعمال دور النشر المختلفة في مصر، ضمن مسابقة يقيمها اتحاد الناشرين المصري، فلاحظتُ ارتفاع معدلات الترجمة في الكتب العلمية، والإقبال على ترجمة كتب الحاسوب وبرامجه المختلفة، فضلا عن ترجمات لبعض فروع العلوم الحديثة، وهذا في ذاته يمثل مؤشراً إيجابياً على طريق الاهتمام بالترجمات العلمية، وذلك جنباً إلى جنب الاهتمام بالترجمة الآلية في العلوم خصوصاً، فضلاً عن إنجازات الأقطار العربية التي اهتمت بتعريب الطب وبعض العلوم الموازية. ولكن ذلك كله لم يصل بعد إلى درجة المتغيرات الحاسمة التي تقوم بتعديل النسب الإحصائية، أو تغييرها كيفياً، فلا تزال النسبة الأعلى هي نسبة العلوم الإنسانية الاجتماعية. وأتصور أنه آن الأوان لتحقيق التوازن بين المعارف الإنسانية في المجالات العلمية والفنية والفكرية والإبداعية، حيث لا تتركز الترجمة على مجال معين، بينما تظل بقية المجالات بعيدة من دائرة الاهتمام. ولن يحدث ذلك إلا بالتخطيط لترجمة كتب العلوم الطبيعية المتخصصة، وترجمة الكتب التي تتولى تبسيط العلوم أو تشيع الثقافة العلمية، وذلك جنباً إلى جنب تشجيع المترجمين على المضي في هذا المجال غير المطروق، وحثّهم على ذلك بكل ما يمكن من وسائل التشجيع والحفز. وينجم عن هذا الهدف، في تقديري، تغيير برامج الترجمة في معاهدها المختلفة لتستجيب إلى الانفجار المعرفي الذي تتزايد آثاره في العالم كله، وإلى حتمية الاهتمام بترجمة العلوم التقليدية والعلوم الحديثة جنباً إلى جنب، ومن ثم وضع برامج جديدة لتأهيل المترجمين المدربين في التخصصات العلمية التي ما زالت حركة الترجمة ضعيفة فيها إلى أبعد حد. وأتصور أنه لا يمكن فصل هذه السلبية عن سلبية أخرى تقترن بها، وتتصل بما لا نزال نعانيه إلى اليوم من عدم ترجمة الأصول المعرفية التي لا تزال بمثابة الإطار المرجعي في الثقافة الإنسانية المعاصرة. ولست في حاجة إلى تأكيد وهم عملية حرق المراحل الثقافية، أو البدء بالنتائج من دون المقدمات، أو إغفال الأصول الكبرى في ثقافات العالم. فعلى الأصول بنيت الفروع، ولا معنى للنتائج في غيبة المقدمات، فضلاً عن أن للإنسانية تراثها الذي يتمثل في "كتب عظيمة" لا يمكن تجاهلها في حركة حقيقية للترجمة. وموسوعة عالمية مثل موسوعة ال Great Books مهمة في هذه الدائرة خصوصاً أنها تقدم لنا أصول المعرفة الإنسانية من وجهة نظر القائمين عليها. ويمكن أن نبدأ منها، ونكملها بما يؤكد انتسابها الى العالم كله، ذلك لأنه حتى هذه الموسوعة المهمة لم تخلُ من رواسب تحيز نزعة المركزية الأوروبية، سواء في اختيار كتبها أو التنبيه إلى مكانتها في تاريخ الإنسانية التي تُختزل في المركز الأوروبي - الأميركي. وتتصل هذه الملاحظة الأخيرة بما لا ينفصل عنها من عدم متابعة الإنجازات الجديدة بالترجمة، على امتداد العالم كله، بما في ذلك الدائرة الأوروبية - الأميركية. ولا تخفى على أحد أهمية هذه المتابعة من حيث إنها تضع القارئ في القلب من حركة الإبداع والفكر العالميين، وذلك على نحو يصل بين القارئ العربي وهموم الثقافة العالمية المعاصرة كلها، أو يضيف إلى خبرات هذا القارئ ما يجعل من وعيه وعياً معاصراً بكل معنى الكلمة. وأحسب أن إحدى مشكلاتنا الثقافية في هذا الجانب، ومن ثم إحدى خصائص وضعنا الثقافي، أننا لا نُقبل على ترجمة التيارات المحدثة في العالم إلا بعد انسحابها من بؤرة الصدارة في بلادها الأصلية. ولنأخذ ترجمة البنيوية على سبيل المثال، فنحن لم نبدأ في ترجمتها إلا بعد انحسار الأضواء عنها في موطنها الأصلي فرنسا، وتحوّل الاهتمام عنها منذ 1968 . ولا ينبغى أن أختم ملاحظاتي عن سلبيات حركة الترجمة العربية من غير الإشارة إلى خطورة الترجمة عن اللغات الوسيطة. وتلك صفة سلبية بارزة في حركة الترجمة الحديثة والمعاصرة، خصوصاً في اللغات الهامشية، أو غير المعروفة. وقد اعتدنا على ترجمة الكتابات الروسية والإيطالية والإسبانية واليونانية، بل الكثير غيرها من لغات العالم المختلفة عن طريق لغة وسيطة، هي اللغة الإنكليزية بالدرجة الأولى، أو اللغة الفرنسية بالدرجة الثانية. ويرجع ذلك بالطبع إلى قلة عدد المتخصصين في اللغات غير الشائعة في ثقافتنا، والتي ليس لها هيمنة الإنكليزية أو الفرنسية. ومهما كانت الفائدة الأولية لهذه الترجمات في التعريف الاستهلالي، خصوصاً على مستوى البدايات، فإنها تظل محاطة بالشكوك من حيث قيمتها. أولاً لعدم دقة المترجم الوسيط في أحيان كثيرة، وتصرّفه بالحذف أو الاختصار في أحوال مماثلة. وثانيها أن كل ترجمة هي فعل من أفعال التفسير والتأويل، شأنها في ذلك شأن أداء اللحن الموسيقي الذي يبقى هو في "النوتة" الخاصة به، ولكنه يبدو مختلفاً ما بين أوركسترا وأخرى، سواء في أسلوب أداء العازفين الذي يوجهه المايسترو، أو التأويل الذي يدفع المايسترو إلى إبراز هذا المعنى النغمي أو ذاك نتيجة فهمه خصوصاً للحن المعزوف. وكل ترجمة من هذا المنظور عملية تفسير وتأويل بالمعنى الفردي أو المعنى الجمعي. أعني المعنى الذي يتصل بالفرد الذي يفهم على هذا النحو أو ذاك، ويؤدي فهمه أداء تفسيرياً يختلف عن أداء غيره. وذلك أمر يتصل بالمترجم نفسه، من حيث تكوينه الفكري وانحيازه الأدبي وميله الأسلوبي، وذلك على نحو تتباين به ترجمة مترجم عن غيره، وتختلف ترجمة العمل نفسه من عصر إلى عصر باختلاف أذواق المترجمين ومناحيهم في الترجمة. أما المعنى الجمعي فهو يتصل بالثقافة نفسها، ووعيها أو لا وعيها الجمعي الذي يتجلّى بكيفية مخصوصة في الأفراد الحاملين لها والفاعلين فيها. وغنيّ عن الإبانة أن إنطاق الآخر بلسان الأنا يعني إخضاع الآخر لنبرة اللسان الخاص بهذه الأنا وطرائقه المتميزة في الأداء، ومن ثم جذبه إلى دائرة إبداعها الثقافي، وتأويله بحسب الأبنية الشعورية أو اللاشعورية التي تنطوي عليها ثقافة الأنا، والتي تميزها أو تتميز بها في كل مرحلة من مراحل تاريخها المتغير.