جاء في كتاب "معجم البلدان" لياقوت الحموي: "مدينة تدمر قديمة مشهورة في برية الشام: بينها وبين حلب خمسة أيام وسميّت بتدمر بنت حسان ابن أذينة وهي من عجائب الأبنية، موضوعة على العمد الرخام. وزعم قوم انها مما بنته الجن ونعم الشاهد على ذلك قول النابغة الذبياني: وخيّس الجنّ إني قد أذنت لهم/ يبنون تدمر بالصفاح والعمد". قال اسماعيل القسري: "كنت مع مروان بن محمد آخر ملوك بني أمية حين هدم حائط تدمر فأفضى به الهدم الى جرف عظيم فكشفوا عنه صخرة فإذا بيت مجصص كأن اليد رفعت عنه تلك الساعة وإذا فيه سرير عليه امرأة مستلقية على ظهرها وعليها سبعون حلَّة، واذا لها سبع غدائر مشدودة بخلخالها، وإذا في بعض غدائرها صحيفة ذهب مكتوب فيها: باسمك اللهم! أنا تدمر بنت حسّان، أدخل الله الذلّ على من يدخل بيتي هذا، فأمر مروان بالجرف، فأعيد كما كان ولم يأخذ ممّا كان عليها من الحلي شيئاً، قال: فو الله ما مكثنا على ذلك الا اياماً حتى أقبل عبدالله بن علي فقتل مروان وفرّق جيشه واستباحه وأزال الملك عنه وعن أهل بيته. وفتحت تدمر صلحاً وذاك ان خالد بن الوليد مرّ بهم في طريقه من العراق الى الشام فتحصنوا منه فأحاط بهم من كل وجه فلم يقدر عليهم فلما أعجزه ذلك وأعجله الرحيل قال: يا أهل تدمر والله لو كنتم في السحاب لاستنزلناكم ولأظهرنا الله عليكم ولئن لم تصالحوا لأرجعنّ اليكم اذا انصرفت من وجهي هذا ثم لأدخلن مدينتكم حتى أقتل مقاتليكم وأسبي ذراريكم فلما ارتحل عنهم بعثوا اليه وصالحوه على ما أدوه له ورضي به". وكتب عدنان البني يصف تدمر: "وعن بعد تبدو واحة تدمر الخضراء، تحتمي من الشمال والغرب بسلسلة من الجبال وتفتح صدرها الى الشرق والجنوب نحو الصحراء الواسعة، تحيط بها غوطة واسعة من الزيتون والنخيل والرمان، ترسم بخطوط عميقة وزاهية أجمل اللوحات وأندرها في العالم، تطوّقها كإكليل من الغار يزين جيد الاطلال والأعمدة الذهبية وأبراج الأسوار والمدافن ومعبد "بل". لعل الاساس الجغرافي لتدمر هو نبع ماء عند معبر جبلي اضطراري، في مكان القلب من بادية الشام. وخلق واحة خضراء أصبحت مكان استراحة للقوافل بين العراق والشام حيث تنتقل البضائع بين الخليج العربي وبلاد فارس والبحر الأبيض المتوسط. وكان هذا الموقع الممتاز ملائماً جداً لقيام تجمع بشري مهم منذ أقدم الأزمنة العصر الحجري القديم. وورد ذكر أحد التدمريين في نصوص الألف الثانية قبل الميلاد، في أحد الرقم الآشورية القديمة. وذُكِرَ التدمريون ومدينتهم تدمر في رقيمين من مدينة ماري وذكرت تدمر في رقيم كشف في مملكة ايمار على الفرات وفيه أول طبعة ختم تدمري معروفة الى الآن. ونوّهت بها حوليات الملك الآشوري تفلات فلاصر الأول. تدمر والرومان: عندما كان القائد الروماني سلوقوس نيكاتور يؤسس في نهاية القرن الرابع قبل الميلاد مدن انطاكية واللاذقية وأفامية وسلوقية، كانت تدمر مدينة عامرة استقرت كبقية الامارات العربية البتراء، حمص وإمارة الايتوريين في لبنان. وقد ذكر المؤرخ إبيان في حوادث 41 ق. م. "أن كليوباترا عادت بحراً الى مصر وأرسل مارك انطونيو فرسانه الى تدمر وأمرهم بنهبها إرضاء لهم، إذ ليس لديه ما يلوم عليه التدمريين، الا سياستهم المستقيمة، فهم تجار يبتاعون من فارس منتجات الهند وبلاد العرب لبيعها للرومان". ولم تكن هذه الحملة موفقة، اذ أخلى أهل تدمر مدينتهم وأسرعوا في عبور الفرات بأرزاقهم وأخذوا عبر النهر يصلون فرسان انطونيو بسهامهم المشهورة. أما المؤرخ بلين الأكبر، فيذكر ان "تدمر مدينة تمتاز بموقعها وغنى أرضها وطيب مائها، فيها البساتين وتحدق بها الرمال الممتدة من كل الجهات وقد عزلتها الطبيعة عن بقية العالم وجعلها قدرها قائمة بين امبراطوريتي الرومان والفرثيين. وكل منهما يفكر بها أول ما يفكر منذ أن يبدأ النزاع بينهما". وكان من مصلحة الطرفين، على رغم تخاصمهما، تنشيط طريق الصحراء المختصر عبر تدمر. ولم تعرف المدينة حامية رومانية معسكرة فيها حتى النصف الثاني من القرن الأول الميلادي، فكانت تحمي نفسها وتؤمن طرق البادية ومصالحها اعتماداً على قواتها الخاصة من الرماة التدمريين الشهيرين من مشاة وخيالة وهجانة. وكان لتدمر قبل إلحاقها بروما نظام حكم يقوم على وجود مجلس للشيوخ ومجلس للشعب شأن المدن الاغريقية. وكان للعشيرة دور مهم، ولم يتغير هذا النظام بعد الوصاية الرومانية عليها. وعندما ألحقت تدمر بروما صارت مدينة محرومة من استقلالها، تدفع الجزية وتتحكم بها ارادة ممثل عسكري، يساهم في اتخاذ القرارات المهمة. ويبدو ان تراجان 98-117م هو أول من أسس فرقة نظامية تدمرية مساعدة في الجيش الروماني وأقام حامية فيها، لأنه أراد ايصال حدود الامبراطورية الى دجلة والخليج العربي، عبر الطرق الموصلة الى تدمر. وكانت اهميتها عظيمة في الدفاع عن الفرات. ومرّ بها الامبراطور هادريان، حوالى العام 129 واستقبل استقبالاً حافلاً فمنحها لقب المدينة الحرة، وهذا اللقب يخولها سن الضرائب وجبايتها بنفسها. وأصبحت تقرر وتحكم وتستقل في القضايا البلدية باسم "مجلس الشيوخ والشعب". مما جعلها تسيطر على كل الطرق التجارية في الشرق بين مصر وجزيرة العرب وأوروبا وفارس والهندوالصين. وأصبحت حلقة أساسية في طريق الحرير، بين الصين والعالم الروماني. فازدهرت اقتصادياً وأكملت بناء معابدها وحسنتها ووسعتها معبد بل، معبد نبو، معبد بعل شمين، معبد اللات. وأنجزت بناء السوق العامة وأضافت اليها ملحقاً واسعاً وبدأت بانشاء الشارع الرئيسي ونصبت له البوابة المعروفة بقوس النصر. وتتوزع أطلال المدينة على مساحة تزيد على 10 كلم مربع وكان يحيط بها سور قديم يحتوي في داخله على معابد وبيوت وأسواق ومنشآت معمارية ومالية وتذكارية. وتأثر التدمريون بالمخطط المعماري الشطرنجي الذي انتشر في العهد الروماني لإعطاء مدينتهم مظهراً عالمياً لا يقل روعة عن جمال روما وانطاكية والاسكندرية. وتزوج الامبراطور سبتموس سيطيروس من الأميرة الحمصية جوليا دومنا، ابنة كاهن الشمس ورزق منها الامبراطور القادم كراكلاّ الذي منح عام 212 تدمر لقب "المعمرة الرومانية" وهو لقب يساويها بروما في اعفائها من دفع الضرائب. في القرن الثالث الميلادي تصبح تدمر امارة سورية ذات حكم ذاتي وموالية مبدئياً للرومان. وفي عام 258 يصبح أذينة حاكماً لولاية سورية الفينيفية، بعد ان رد الفرس الساسانيين الى ما وراء نهر الفرات وأصبح ملك ملوك الشرق القائد العام للجيوش الرومانية في سورية. وكان يتصرف كامبراطور للشرق ويعمل وفق مصالح تدمر التجارية. وزحف على بلاد الساسانيين الذين كانوا احتلوا أطراف دجلة والفرات لخنق تجارة التدمريين، في محاولة لردهم عن طرق التجارة التدمرية. وفي هذا الظرف الدقيق يقتل أذينة وهيروديان ولي عهد حمص في ظروف غامضة. زنوبيا ونهاية المملكة التدمرية بعد موت أذينة، كان وهب اللات بن أذينة من زنوبيا صغيراً، فتولى مقاليد الحكم تحت وصاية أمه التي راحت تنفذ مخططاتها الاقتصادية والسياسية والحربية بهدوء وحزم. كانت زنوبيا شديدة الطموح، شجاعة وجميلة، متفتحة العقل، تتحدث التدمرية واليونانية والمصرية بطلاقة وضمّت الى بلاطها الفيلسوف اليوناني لونجين وأسقف انطاكية بولس الشميساطي. يصفها مؤرخو الرومان بأنها كانت سمراء، عيناها سوداوان ومنهما يشع بريق رائع، أسنانها كاللآلئ، تتحدث بصوت رنان قوي وتخطب بجنودها معتمرة الخوذة. وتركب العربة الحربية وقلما تعتلي السرير المحمول، وتمتطي الجواد في معظم الأحيان، وكثيراً ما كانت تمشي على قدميها 3 أو 4 أميال وهي تتدرب مع الجنود. تحتمل الشمس والغبار وتصطاد في الأحراش والجبال. انها أنبل نساء الشرق وأكثرهن جمالاً. وأدركت زنوبيا ان الفرصة حانت، فالبرابرة يهددون الامبراطورية الرومانية، والنزاع على السلطة داخل الامبراطورية كان حاداً، ومصر مهددة بالقراصنة. فأرسلت قائد الجيش التدمري زبدا لاحتلال مصر، ثم اعلنت موقفها صراحة، حين اتخذت لقب "أوغست" وسكت عملة في سورية والاسكندرية لا تظهر فيها صورة الامبراطور الروماني أورليان. ثم ارسلت جيشها الى الأناضول فوصل حتى مضيق البوسفور. وبامتلاك مصر وسورية والبوسفور، وضعت تدمر كل منافذ طرق المواصلات البرية والبحرية مع الشرق الأقصى تحت سلطتها. وهذا ما أزعج روما التي فقدت المصادر الرئيسة لتموينها. وبعد ان وطد أورليان عرشه الجديد وأمن حدود امبراطوريته على الدانوب، سار بجيشه من اتجاه الشرق حتى وصل الى الأناضول، ما جعل القوات التدمرية تنسحب الى انطاكية وتخوض فيها معركة خاطفة، غير حاسمة، سهلت الطريق للجيش التدمري بالانسحاب الى سهل حمص استعداداً للمعركة الفاصلة. وتقول المصادر الرومانية: "عندما دق نفير المعركة انهزمت خيالة أورليان ولكنها لم تتبعثر فكانت لخفتها تتجمع وتتعب الخيالة التدمريين بسرعة مناورتها". وحصلت مقتلة كبيرة بين الطرفين وتراجع الجيش التدمري يحتمي بأسوار حمص، وهناك عقدت زنوبيا مجلساً حربياً. واتفق المجتمعون على الانسحاب الى تدمر ودخل أورليان حمص وغنم ما تركته زنوبيا من عتاد وتجهيزات وأموال ثم لحق بزنوبيا التي كانت تحشد القوات وتحكم آلات الدفاع فوق أسوار المدينة وتهيئ مهرة الرماة حتى في المدافن البرجية. وحاصر أورليان المدينة. وعندما طالت عليه الحرب رد على تهكمات شيوخ روما بقوله: "ليتهم يعرفون أي امرأة أقاتل؟ وماذا سيقول التاريخ عني اذا غلبتني زنوبيا؟". ويروى ان زنوبيا قررت ان تقصد سابور ملك الفرس الساسانيين بطلب النجدة ووصلت الفرات وقد طاردتها مجموعة من فرسان الرومان ومنعتها من الوصول الى الضفة الأخرى فأسرت وأعيدت الى معسكر أورليان. وخرج التدمريون مستسلمين في خريف 272 ودخل الجيش الرومانيالمدينة الجميلة الغنية ووضع يده على غنائم كبيرة وفي حمص قتل بعض القادة والشيوخ من التدمريين وأعوانهم، ومنهم لونجين مستشار زنوبيا وزبدا قائد جيشها. وفي طريق أورليان الى روما، ثارت تدمر وقتلت الحاكم الروماني والجنود الذين يشكلون الحامية الرومانية واستجابت مصر لهذه الثورة واعترفت بتدمر مرة ثانية وهددت روما بالمجاعة لانقطاع الطرق من جديد، ولكن اورليان الذي علم بخبر الثورة، عاد فوراً ودخل تدمر وتركها نهباً لجنوده يسلبونها ويوقعون بها التدمير. ولم يقتل أورليان زنوبيا بل وفرها لموكب النصر في روما، اذ اقام فيها موكباً لم يسبق له مثيل، سار فيه الجنود وأعضاء مجلس الشيوخ والوحوش الضارية والأسرى من مختلف الشعوب. وبينهم كانت زنوبيا تسير مثقلة بمجوهراتها، مقيدة بسلاسل الذهب في عنقها وأطرافها. وضم الاستعراض العربة التي كانت الملكة أعدتها لتسير بها في موكب الظفر الى روما. الفن التدمري تجلت في الفن التدمري الروح السورية كخط عام أساس وعند وصول الرومان تأثر المخطط العمراني للمدينة بهم. واستقى من الفن اليوناني الذي استشرق سابقاً، فأصبح مخططها رومانياً - يونانياً. وكذلك التيجان والأعمدة وبعض التفاصيل الأخرى وبقيت الآثار الفنية كالزخارف والتماثيل والمنحوتات الدينية والصور الجدارية خاضعة أساساً لقواعد الفن السوري القديم، كالتوجه الى الامام والاعتماد على الخطوط الواضحة والتشديد على الوجود الروحي لكل شخص بمفرده في كل ترتيب فني وعدم الاهتمام بالتأليف الدراماتيكي لكل موضوع على حدة. ويعتبر النحت من أبرز آثار الفن التدمري. وما سهل مهمة النحاتين التدمريين قربها من جبال تدمر الغنية جداً بأنواع من الحجر الكلسي. واكتشفت مئات من التماثيل التي كانت تتوزع في شوارع المدينة ومعابدها وميدانها وفوق اعمدتها التذكارية، تخلد المقدمين بين التدامرة من شيوخ قبائل ورؤوس قوافل وأعضاء مجالس شيوخ وموظفين كبار وقادة وكهنة ومن بينهم أباطرة وقادة رومان. وتوضع بأمر من مجلس الشيوخ والشعب. وتجسد النحت الديني في مشاهد رموز منفردة أو مجتمعة ومشاهد التقدمات الدينية ومشاهد المتعبدين في أوضاع مختلفة. وبذل الفنان التدمري جهده في تمييز معبوداته القديمة واخراجها بأكثر ما يستطيع من جمال وقوة وجعلها احياناً تسوق العربات الحربية وتلبس الدروع وتمتطي الجياد والإبل وتشرع الرماح وتتمنطق بالسيوف وترمي السهام وتسير في مواكب أو تقف صفوفاً. وعلى يمين الشارع الطويل يبلغ طوله 1250 متراً تقع الحمامات ولها مدخل تتقدمه اربعة أعمدة غرانيتية جلبت من مصر وتتألف من الاقسام المعروفة: البارد والدافئ والحار وقاعة مثمنة الشكل تتوسطها فسقية مثمنة لترطيب الجو الجاف. وتلحق بها باحة للرياضة والاجتماعات. وعند القوس في الرواق الجنوبي يقع المسرح الذي بني على شكل نصف دائرة أوركسترا تحف به مدرجات. وأمام الاوركسترا تقع منصة التمثيل، اضافة الى مجلس الشيوخ المبني على شكل مستطيل، له مدخل جميل وباحة ذات أروقة مرقوعة على أعمدة. وفي الميدان تعقد الاجتماعات العامة في السلام والحرب وتتم المبادلات التجارية. وللميدان احد عشر مدخلاً ويتألف من باحة مربعة مغلقة تحيط بها الأروقة الداخلية التي كانت تحمل السقوف الخشبية. وفي الباحة الخارجية منصة كانت تستخدم للخطابة أو لأغراض الاعلان التجاري. وفي زاويته الغربية قاعة للولائم وخلفه بعض الأفران لصناعة الزجاج والفخار. وفي عام 1881 وجدت اللوحة الحجرية المعروفة باسم القانون المالي التدمري 480 - 175سم مكتوبة باللغتين اليونانية والتدمرية ومؤرخة يوم 18 نيسان ابريل 137. وحددت فيها مقادير المكوس التي تجبى في تدمر ومنطقتها لصندوق الدولة وهي موجودة حالياً في متحف الارميتاج Ermitage.