الآخر مرت تحت نافذته على دراجتها فاستسلم ل"وهم عابر أن لا شيء حدث لها بتاتاً، انها كانت تركب على دراجتها ببساطة وتنتظر وصولي. لم تكن امرأة ذات ماضٍ أو حاضر مجهول". لكن آيريس مردوك التي كانت يومذاك في الرابعة والثلاثين ارتبطت بكثيرين وكثيرات قبل تعرفها الى جون بيلي الذي لم يحس بالرغبة الا عند بلوغه السابعة والعشرين. كان في الثامنة والعشرين عندها وقبل ان يتزوج الكاتبة والفيلسوفة الانكليزية - الايرلندية سألته اذا كان سمع عن "كل" الذين عرفتهم قبله. "نهض أشخاص مجهولون أمامي مثل موكب الملوك في "ماكبث" وبدوا كأنهم ينظرون اليَّ بفضول وقور أثناء مرورهم". مدّرس الانكليزية السابق والناقد البارز أصدر ثلاثة كتب عن زوجته ترجم اثنان منها الى الفرنسية أخيراً: "مرثاة لآيريس" و"آيريس مردوك، النهاية". أصيبت بخرف الشيخوخة في أواسط التسعينات فرفض ان يعتني بها أحد غيره لكن عجزه عن دخول عالم رفيقته السابقة أحبطه. تحدث عن "الأمنية البغيضة، التي كادت تكون قوة ملزمة احياناً، بأن أجعل الآخر يرى كم الأمور سيئة. بأن أجبرها على مشاركتي المعرفة لكي أخفف ما يبدو عزلتي. أعلّق اليوم على قتامة مستقبلنا فتبدو آيريس مرتاحة وذكية، وتقول: "ولكنني أحبك". جون بيلي ليس ضحية عجز زوجته الا بمقدار ادراكه، وجهلّها، هبوط احدى أبرز الكاتبات البريطانيات في النصف الثاني من القرن العشرين. عاشا في اكسفورد بعيداً عن أضواء لندن والصحافة، وكان كلاهما زريّ المظهر يجد فرحه في مشاركة الآخر البيت القديم الفوضوي والسباحة. نالت جائزة بوكر في 1978 عن "البحر، البحر" لكنها لم تسعَ الى ترويج نفسها بل اكتفت بالمزيد من الكتابة في جو منزلي عادي. من أسباب عشق أحدهما الآخر، يقول، ان كلاهما كان ساذجاً وبريئاً، وأن آيريس تحررت من المنافسة والطموح المهنيين. نسيت انها ألفت كتباً كثيرة بعد مرضها لتواضعها وغفولها عن ذاتها ككاتبة. يروي بمرح وصبر مصاعب الحياة وتغيرها اذ بات يشاركها مشاهدة برامج الأطفال قبل سن المدرسة، ويرضح لها عندما تصر على السباحة بجاربيها، ويفكر باستسلام انهما لن يستطيعا السفر ثانية بعد عودتهما من رحلة وازعاجها سائق الحافلة وركابها. انضمت مردوك 1919 - 1999 الى الحزب الشيوعي في الحرب العالمية الثانية ثم تركته بعد خيبة. شغلتها القضايا الاخلاقية وتأثير الخرافة في منح الحياة معنى، ورسمت شخصيات واقعية تجد نفسها في مواقف غير عادية. في "الجرس" الذي يراه كثيرون أفضل أعمالها تسعى جماعة انغليكانية الى تحسين حياتها لكن الصراع بين الجنس والدين يدمر كل محاولاتها. في "زمن الملائكة" يتحول كاهن يعمل في الأحياء الفقيرة الى عبادة الشيطان، وفي "المتمرن الطيب" يقرر رجل ان يكون خيّراً فيعتمد العفة ويهمل مهنته الأكاديمية الواعدة. أثار جون بيلي العجب عندما تزوج صديقة له ولآيريس بعد وفاتها بنحو سنتين، لكنه احتاج الى الرفقة في بيت مسكون بشبحها واستحقها. غض النظر دائماً عن خيانات زوجته المتكررة ووجد الفرح في مجرد وجود شخص آخر معه. في "مرثاة لآيريس" يقول: "انه لأمر رائع الهدوء ان أجلس في السرير بينما تغفو آيريس وتشخر بصوت خافت. فيما انا نصف نائم أحس أنني أعوم في النهر وأرى فضلات بيتنا وحياتنا، الجيدة منها والسيئة، تغوص ببطء في المياه المظلمة الى ان تضيع في الأعماق". كاتب لا يسلّي كشف أخيراً ان التفرج على اعدام امرأة قد يكون ساهم في تشاؤم الكاتب الانكليزي توماس هاردي وأدى الى اختياره الشنق لبطلة "تس دوبرفيل". في 1926، قبل وفاته بعامين، كتب الى صديقة عن مارتا براون التي قتلت شريكها الأصغر منها بعشرين عاماً بعد خياناته المتكررة. "اذكر شكلها الرقيق أمام خلفية السماء وهي معلقة في المطر الضبابي، وأذكر كيف حدّد فستانها الأسود الحرير الخفيف شكلها وهي تلتف نصف دائرة ثم تعود". في الرواية التي كتبها بعد خمسة وثلاثين عاماً تقتل تس شريكها وأبا أطفالها ألك دوبرفيل فتعاقب بالاعدام. كان هاردي في السادسة عشرة عندما بدأ يتدرب عند مهندس معماري، واذ قصد يوماً عمله الجديد شاهد الجمع حول المشنقة فشق الطريق الى الامام ليشاهد الحدث جيداً. لكنه ما لبث ان أحس بالخجل من سلوكه مطاردة المشهد حتى آخر حياته. انتحار معلمه اثر أيضاً في حياته وأدبه اذ كان متشائماً ورفض الاعتقاد بقدرة البشر على التحسن في زمن التفاؤل والايمان العميق بالتقدم. شكّك في الدوافع البشرية وانعكس قتام روحه على اعماله فقال نقاد انه "لا يسلي" أو انه شاعر أساساً لا روائي، وان أسلوبه أخرق وعقدته غير منطقية، فضل هاردي الشعر لكنه اضطر الى كتابة الروايات المتسلسلة في الصحف لكي يكسب رزقه بعدما نصحته زوجته باهمال الهندسة والتركيز على الكتابة. نشر ديوانه الأول في عقده السادس، وشكا من اضطراره الى تزويد حلقات الرواية بحدث أسبوعي، أمر أضّر بها فنياً. لكن رواياته بقيت منسجمة على رغم تعقيدها، وبقي هو من القلائل الذين كتبوا الشعر والنثر على المستوى نفسه من الجودة. افتقرت المواقف والعقدة لديه الى الواقعية لافتتانه بالشخصيات والقاء الضوء عليها في شكل رمزي أو مجازي. مع "بعيداً عن الجمهور المسعور" حقق النجاح الذي يعرف كل كاتب معه انه وصل، لكنه بقي يحس بالمرارة لفشله في التفاهم مع النقاد. أشار هؤلاء الى ان ابطاله لا يتطورون فاهتم عند كتابة "محافظ كاستربريدج" بتطور بطله. واذ امتدحوا واقعية ماري آن ايفانز المعروفة بجورج اليوت قرأ هاردي رواياتها وأعجب بها لكنه وجدها تتمسك بالعادي وترفض الصدفة وضربات الحظ التي لا تخلو الحياة منها. أما القتام فمن عناصر الجاذبية في الأدب وإن شاء سوء حظ هاردي ان يمشي في التيار المعاكس لزمنه المتفائل ظاهراً. انتشرت يومها فلسفة أوغست لوكونت الوضعية التي تعنى بالوقائع وتبني يقينها عليها وحدها، لكني هاردي رأى الانسان فريسة قوى مظلمة مجهولة وحياته مثيرة للحيرة، وأحب ان يجعل "القلب والمعنى الداخلي" واضحاً للناظر، رفض اليقين المسيحي الفيكتوري ولم يقبل ألوهة المسيح علماً انه أحب الكنائس وموسيقاها والقوامس فيها ورأى ان الدين، بما يعنيه من اجتماع، يجب ان يبقى في زمن انهيار الايمان الكوني. يعرض في بريطانيا منذ فترة فيلم "الادعاء" المستند الى "محافظ كاستربريدج" التي كانت أفضل روايات هاردي المأسوية. توفي في 1928 عن ثمانية وثمانين عاماً فدفن رماده في "نافذة الشعراء" في كنيسة "وستمنستر آبي" الشهيرة، أما قلبه فدفن مع زوجته الأولى التي توفيت قبله بستة عشر عاماً. عود الى بدء بعد ربع قرن على نهاية زواج ضد القانون تجد أليس ووكر نفسها قادرة ان تتحدث عن بدايته وتقول شيئاً جميلاً عنه. في الستينات التقت محامياً شاباً يهودياً في حركة الحقوق المدنية للسود وتزوجته في 1967 عندما كان الزواج بين السود والبيض مخالفاً للقانون. تتذكر الرغبة التي جمعتهما عندما قدمت له قرناً من المثلجات كانت تناولت بعضه فوضع فمه على الجهة التي أكلتها. تتحدث في كتابها الأخير "التقدم يحدث بقلب محطم" عن "زواج سحري من رجل غير عادي انتهى بطلاق اقل من سحري". تسميه "الحبيب" وتقول انهما اجتمعا بعد عشرين عاماً من الخصام في عيد الشكر قبل أربعة أشهر، وان اللقاء كان جميلاً لأنه "عندما يبدو العالم الذي كنا نبنيه كأنه يختفي نحتاج الى التذكر كيف كانت الرؤية أصلاً علماً انها كانت رؤية جيدة". كان المارة يرمونهما بنظرات كالرصاص عندما سارا معاً في الشارع لكنهما كانا منيعين من اذاها. تخشى ان تكون بلادها تتقهقر بدلاً من أن تتقدم في مجال العلاقة بين البيض والسود وتقول: "نحن أمة خائفة، محطمة القلب، وبعضنا يريد العودة الى وهم السلامة في لون الجلد والمال والخمسينات". توضح ان البيض الأثرياء قد يرغبون بوضع شبيه بالخمسينات عندما تجمعت الاقليات في أحياء محددة ونالت أجوراً منخفضة: "على السطح كانت الأمور براقة وحرة للغاية، ونظرت بقية العالم الى أميركا بشوق". أوائل السبيعنات جعلت ووكر 57 عاماً الدراسات النسائية مادة جامعية في الولاياتالمتحدة، لكنها بقيت تعيش في عوز الى ان كتبت "لون الأرجوان" الذي حوله ستيفن سبيلبرغ الى فيلم جلب لها اليسر. كتابها الأخير قد يكون آخر مؤلف لها اذ تشعر ان عودتها الى علاقاتها مع الجنسين توصلها الى خاتمة الدائرة. ريبيكا ووكر، ابنة أليس من مل ليفنثال، كانت أصدرت كتاب "سوداء، بيضاء ويهودية" قبل أشهر صوّرت فيه والدتها أمرأة نائية أنانية تغيب عن ابنتها أشهراً عدة وتتركها تنشأ وحدها من دون رعاية أو نصح. كانت في الرابعة عشرة عندما حملت فلم تعلّق أمها بشيء واكتفت بالذهاب معها الى طبيب أجهضها. أدمنت على المخدرات وأحست نفسها بلا جذور وهي تنتقل كل سنتين بين منزل والدتها وبيت والدها الذي تزوج ثانية من أمرأة يهودية مثله. كانت فتاة سوداء فقيرة مع امها وأخرى بيضاء غنية مع والدها على ان البعض اعتقد انها مربية اخوتها من ابيها، ورغبت هي في قتل زوجته لشعورها ان عليها الاختيار بين والدتين. مزدوجة الميول الجنسية مثل والدتها وتريد تبني الأطفال مع صديقتها السحاقية من دون ان تهتم بأثر التجربة عليهم. الصحوة قد يشتاق الانكليز الى سمايلي لكن جون لوكاريه لا يفعل. الممثل ألك غينيس "شفاه" منه اذ انه لا يستطيع ان يكتب عنه من دون ان يفكر بألك وصوته. بطل "الجاسوس الذي دخل من الصقيع" فتن تلامذة المدارس برفضه ان يكبر وصراعه مع المؤسسة، بعد كتب الجاسوسية اراد ديفيد جون مور كورنويل كتابة الأدب ويقول النقاد انهم يحبون كتابته الأخرى، لكن المرء يحس انهم يغصبون أنفسهم على الحب. أصدر "البستاني الدائم" في أواخر 2000 ويقول اليوم انه تأثر بصديقة فرنسية عملت في الاغاثة في افريقيا عند رسم شخصية تيسا البطلة الانكليزية التي تتحدى شركات الأدوية المتعددة الجنسية فتعاقب بالاغتصاب والقتل. مقال لوكاريه عن ايفيت بييرباولي التي قتلت في حادث سيارة وهي في الواحدة والستين لم يشعرني بالتعاطف معها أو ينجح في جعلها بطلة مأسوية وان بطريقة عصرية. بدا لوكاريه كأنه يستخدم حيلة لزيادة مبيع كتابه الجدلي الذي يهاجم الشركات الكبيرة بعنف. الكاتب السبعيني عمل جاسوساً لبلاده ويرتد اليوم على المؤسسة كأبطاله ليفضح القمع الذي مارسته "الديموقراطية الغربية" في العالم الثالث. "كانت حياتي مشوشة وأشبه بخط متكسر أحياناً، وانه لعزاء متأخر ان اكتشف ما الذي يهمني". بطلة "البستاني الدائم" تتابع حربها بعد موتها عبر زوجها، الديبلوماسي الانكليزي الذي يعمل في كينيا وينتصر عندما يفضح استخدام شركات الأدوية الأفارقة لتجربة عقاقيرهم. الرواية أساساً، يقول لوكاريه، عن شخص يقوم برحلة داخلية ويجد معنى اخلاقياً خلالها. ماذا لو فضح ما عرفه خلال عمله كجاسوس؟