«إنني مثل دون كيشوت، أمضيت كل حياتي راصداً تدفق الشر. بعد ذلك، في لحظات يأسي رحت أتساءل عما إذا لم اكن أنا نفسي قد أضحيت جزءاً من ذلك التدفق. ومع هذا مازلت أتوقّع من العالم أن يوفر لي فرصة المساهمة الحقة في فعل عكس ذلك...بيد أنني ألومه لأنه لم يعرف كيف يستخدمني». هذه العبارة التي ترد في احد فصول كتاب جون لوكاريه «الرحلة السرية»، هل يمكننا النظر إليها على أنها صورة نهائية للخيبة التي يبدو في كل وضوح أنها المآل الأخير الذي بلغته حياة الراوي، الذي لو تفرسنا قليلاً وقرأنا ما يرويه على ضوء ارتباطه بالأعمال التي نعرفها من قبل لواضع الكتاب، لأدركنا من فورنا انه ليس سوى الكاتب نفسه، ذاك الذي يعتبر ومنذ زمن طويل وريث غراهام غرين وسامرست موم معاً، وواحداً من أبرز الكتّاب الإنكليز ومن أوفرهم حظاً لدى القراء في أيامنا هذه. للوهلة الأولى قد يلوح لنا أن «الرحلة السرية» رواية أخرى من روايات لوكاريه المعروفة منذ «الجاسوس الذي أتى من الصقيع» إلى «البستاني الدؤوب» وما بعدها، مرورا ب «قوم سمايلي» و «الفتاة ذات الطبل» و «بيت روسيا» و «جاسوس خالص» و «بيت صغير في ألمانيا» وعشرات غيرها من نصوص جعلت لهذا الكاتب الكبير مكانته على مدى نصف قرن. غير أن استعادة هادئة لأعمال لوكاريه هذه وغيرها، سوف تربكنا لأننا سنجد انفسنا هنا أمام نصّ يبتعد عن الشكل الروائي ابتعاداً بيّناً، ليعود ويقترب منه نتفاً نتفاً، عبر فصول يشكل كل واحد منها، على الأرجح، خطوطاً أولية لعمل روائي مستقل، لكنها ترتبط ببعضها بعضاً عبر الراوي الذي يطالعنا هنا في لحظة متأخرة من حياته يجلس متذكراً مفاصل أساسية من مراحل عمله في أجهزة الاستخبارات الإنكليزية. ولا ننسينّ هنا أن المسألة مع لوكاريه هي دائماً مسألة التوغل في عوالم أجهزة الاستخبارات تلك وعملياتها وصراعاتها ولا سيما خلال الحرب الباردة. والحال انه إذا كان ثمة لقب ينطبق على جون لوكاريه وعمله، فهذا اللقب لا يمكن أن يكون سوى «روائي الحرب الباردة». وقد تبدى هذا واضحاً في روايته الأشهر والأقدم «الجاسوس الذي أتى من الصقيع»، لكنه تبدى أيضاً في معظم النصوص التي كتبها، على الأقل حتى زوال دول المنظومة الاشتراكية وانتهاء الحرب الباردة بشكلها القديم على الأقل. ومع هذا سيكون من الظلم لهذا الكاتب أن نتحدث عنه كمجرد كاتب للروايات الجاسوسية، حتى ولو اشرنا إلى قرابته مع موم وغرين. إذ يتعين ألا يغيب عن بالنا هنا أن القرابة بين لوكاريه وهذين الكاتبين الكبيرين، لا تقتصر على التشابه في المناخ العام والمواضيع، أو حتى في التاريخ الشخصي وفي الشخصيات التي تتمحور من حولها روايات الثلاث. إن ما يقرّب بين غرين وموم من جهة ولوكالريه من جهة ثانية، هو أن كلاً منهم على طريقته، اشتغل على رفع أدب التجسس من دائرة الأدب الشعبي الترفيهي والمثير، إلى دائرة الأدب الروائي الكبير. وحسبنا أن نقلّب صفحات أي رواية من روايات لوكاريه كي ندرك مقدرة الرجل ونصوصه على التوغل في جوّانية الشخصيات وعلى رفع المشاهد العادية إلى خانة اللحظات الخالدة. وكذلك على رسم تفاصيل صغيرة تعتبر عناصر أساسية في عالم يتكامل داخله مع خارجه، ولا يكف شخوصه عن طرح انفسهم وتاريخهم على بساط البحث. كل هذا كان على الدوام موزعاً في كتب لوكاريه. كان يشكل لحظات وعوالم رواياته ويملأ صفحاتها. ولئن كان الكاتب قد قام بمحاولة أولى لرسم توليفة لكل هذا، في اجمل لحظات روايته - الأكثر ذاتية على أية حال- «جاسوس خالص»، حيث وضع بطله (أناه/الآخر) مانغوس بيم في مواجهة ماضيه وأبيه وارتباكه وأسئلته حول ما فعله في حياته، كان من الواضح أن تلك المرحلة المبكرة من مراحل الحرب الباردة كانت لا تزال ابكر من أن تعطي الكاتب فرصة لطرح نهائي لإشكالية هذه «المهنة» وأهلها. ولئن كانت رواية «بيت روسيا» التي كتبها آخر أيام البرسترويكا، قد قفزت به خطوة أخرى وحاسمة إلى الأمام في طرحه أسئلته القلقة والمحيرة، بخاصة انه كتبها بعدما صار في وسعه أن يزور موسكو كما يشاء وبدعوات رسمية حتى، فإنه ظل في حاجة إلى مسافة زمنية أخرى قبل أن ينتقل من أسئلة القلق إلى يقين الخيبة. وهذا ما فعله يومها (1990) في «الرحلة السرية» - أو «الحج السري» كما تقول حرفية العنوان الإنكليزي-. لقد اشرنا أعلاه إلى أن هذا الكتاب لا يمكن اعتباره رواية. ونضيف هنا انه اقرب إلى أن يكون «زيارة» يقوم بها الراوي - بيم، أو لوكاريه نفسه ، أو حتى كما يدعوه الكتاب، نيد الذي سبق لنا أن التقيناه في «بيت روسيا»-. وما هذه الزيارة سوى رحلة في ذكريات نيد الذي نجده هنا على وشك التقاعد وقد صار مديراً لمدرسة للعملاء. وهو يستقبل ذات يوم زميله القديم جورج سمايلي، بطل العديد من روايات لوكاريه القديمة، حيث دعاه لإلقاء محاضرات على طلاب المدرسة في عام تخرّجهم. وبين الحين والآخر يلتقي نيد أيضاً زميله القديم استرهازي ليستعيدا معاً فصولاً من حياة سمايلي الذي يعتبرانه أسطورة في عالم الأجهزة الذي يعيش الاثنان لحظاتهما الأخيرة فيه. وهما خلال جلساتهما يستذكران خيانة المدعو بيل هايدون (لعله كيم فيلبي!) لوطنه كما خيانته لسمايلي في العلاقة التي يقيمها مع زوجة هذا الأخير. هكذا خلال فترة تلك المحاضرات، وهو على عتبة الكهولة والتقاعد، وإذ يستعيد علاقته شبه المقطوعة مع جورج سمايلي، يروح نيد عبر فصول الكتاب متجولاً بين ذكرياته مستعيداً حكايات ومغامرات كان سبق لنا أن مررنا ببعضها في روايات أخرى للوكاريه: من هامبورغ إلى موسكو (السيرك) إلى ميونيخ إلى الشرق الأقصى إلى بيروت. اجل بيروت ومنها إلى صحراء النقب في فلسطينالمحتلة. ونيد يزور بيروت في الفصل الثامن من الكتاب حيث كلّف مرة من قبل المخابرات البريطانية بتعقّب مناضلة ألمانية تعمل مع المقاومة الفلسطينية، بغية الحصول على معلومات حول عشيق سابق لها كان ارلندياً مناضلاً. وهذه المغامرة تقود نيد إلى فندق الكومودور في شارع الحمرا في بيروت والذي يقدمه الكتاب كوكر للتجسس وعشّ للصحافة الغربية خلال الحرب الأهلية. وانطلاقاً من الفندق الذي يبدو انه لا يغادره، يصف لنا لوكاريه، ودائماً على لسان نيد، أجواء القتال والقصف والخطف، وعلاقة الصحافة وأجهزة المخابرات بكل ذلك، بل انه يرسم لنا أيضاً عبر مكالمات هاتفية، ذهنيات الناس في بيروت خلال الأحداث العاصفة وقد أحاط الموت بهم من كل الجهات. فهل يعثر نيد على الفتاة المنشودة؟ أبداً.. لأن الإسرائيليين كانوا اسروها خلال إعدادها عملية كان يفترض أن تتم في أثينا. وهكذا إذ يكتشف نيد هذا الأمر يتجه إلى النقب. وتحديداً إلى سجن النساء هناك حيث يلتقي الفتاة، فيكون اللقاء والرحلة بالنسبة إليه فرصة تدفعه إلى التأمل ولو الموجز في القضيتين اللبنانية والفلسطينية، بتعاطف واضح لكنه يتسم ببرودة حقيقية. إذ لا ننسينّ هنا أن نيد عميل للمخابرات. والعميل لا يمكن عواطفه إلا أن تكون مكبوتة وباردة.. وهو لا يمكنه أن يكون حميماً إلا حين يغوص في ذكرياته طبعاً، أو حين توصله ذكرياته عن العمليات إلى النتيجة الدائمة نفسها: الفشل والخيبة. والحقيقة أن كتاب جون لوكاريه (اسمه الأصلي دافيد كورنويل وولد العام 1931 لأب كان نصاباً محترفاً) الذي نتناوله هنا،إذا كان له من موضوع محدّد فإن هذا الموضوع إنما هو موضوع الخيبة. فهنا لا انتصارات ولا بطولات واهية. هنا يقف الفرد أمام مصيره، سواء كان هذا الفرد إنساناً عادياً أو مناضلاً صاخباً أو عميل استخبارات أو كولونيلاً في الجيش الإسرائيلي، أو حتى عميلاً مزدوجاً انتهى الأمر به إلى الافتضاح. أو كان «أسطورة حية» (مثل جورج سمايلي)، أو «جاسوساً خالصاً» (مثل لوكاريه نفسه!) أدى ما عليه ثم جلس ذات يوم في عز رضاه الظاهر عن نفسه، وانتصاراته المعلنة، يتساءل حزيناً قلقاً لماذا تراه فعل ما فعل خلال حياته وما جدوى ذلك كله؟ [email protected]