قرأت مقال الأستاذ ياسين رفاعية في "السبحة"، المنشور في "الحياة"، يوم الأحد في الرابع من آذار مارس عام 2001، واستوقفني قوله: "السُّبْحةُ لغوياً، و"المسبحة" باللهجات الدارجة، تراث عربيّ إسلامي". وتبين، بالبحث والتنقيب في المصادر، أن ثمة خطأَيْن شائعين يتصلان بهذه الأداة الشائعة في العبادات وفي التسلية على حدٍّ سواء: الخطأ الأول: تخطئةُ من يقول بفصاحة المفردة "مسبحة" والإصرار على اعتماد "السبحة" لفظاً دالاً عليها لا يجوز أن نتعداه" والخطأ الثاني: ان منشأ السبحة إسلاميٌّ. في الخطأ الأول نرى أنّ من غير الجائز الوقوف عند حدود ما سجلته المعاجم في أي أمر يتصل بعربيتنا الفصيحة، وجواز ذلك يأباه المنهج الوصفي في درس اللغة، أية لغة، وربما كان الإصرار على "التمترس" بالمعاجم احدى وسائل الحرب على العربية" إذ هو يعطل فيها، وفي الناطقين بها، حيويتها وقدرتها على التوليد وبراعتها في الاقتراض. و"السبحة" كلمة صحيحة فصيحة طبعاً، وهي اسم مصدرٍ من الفعل "سبَّح" المضعَّف العين، وجاءت كذلك من طريق التوليد. فهل "المِسْبحة" خطأ لغوي؟ نحسب أنْ لا، إذا نظرنا في أنّ السبحة آلة، وفي أسماء الآلة كثير مما جاء بوزن "مِفْعلة"، كَمِزْولة، ومِقْصَلة، ومنفضة، وهكذا... ثم إنها جاءت بهذا الوزن في كلام عربي لا شك في فصاحته" قال أبو نواس وهو معاصر للخليفة الأمين: 193 - 198 ه/ 808 - 913 م، يخاطب مِنْ سجنِه الوزير ابن الربيع: "أَنْتَ يا ابْنَ الرَّبيعِ ألزمتني النُّسْكَ، وعوَّدتنيه، والخيرُ عَادَهْ فَارْعَوَى بَاطِلي، وأقْصَرَ حَبْلي، وتبدَّلْتُ عِفَّةً وزَهَادَهْ المَسَابِيحُ في ذراعي، والمصحفُ في لِبَّتي، مَكَانَ القِلاَدَهْ". فهذه "المسابيح" جمع تكسير ل"المسبحة" لا "السبحة"" بذلك اجتمعت لصحة "المسبحة" ثلاثة شروط: انها بزنةٍ من أوزان أسماء الآلة وهذا شرط قياس" وأنها استعملت في كلام الفصحاء" وانها شائعة في كلامنا اليوم، وهذا ما عنيناه عند الإشارة الى المنهج الوصفي. فيا حبذا لو اعتمد الكتاب لفظ "المسبحة" تسهيلاً على القراء، واعترافاً بحيوية العربية، ولأن الكلمة عربية شائعة فوق انها عربية. وأما القول بأنَّ المسبحة تراث عربيٌّ إسلاميّ، فالأصوبُ منه القول: إنها تراث عالمي صار جزءاً من التراث العربي الاسلاميّ، ولا ضير في ذلك على العرب والمسلمين" فالأمم تعطي وتأخذ. تحدث صاحب مجلة "لغة العرب" البغدادية، الأب أنستاس الكرملي العدد الثامن، في شباط - فبراير 1913 عن نشأة المسبحة فقال إنها "قديمة في ديارنا"، ورأى ان "أول من استعملها في الشرق الأدنى اليهود، فإنهم كانوا يسمونها "ماه بركوت" أي "المئة بركة"، وذلك لأنهم كانوا يسبحون بها الله مئة تسبحة. ولما ظهرت النصرانية أخذها المسيحيون عنهم، ثم جاء الاسلام فاقتبسها الحنفاء من النصارى منذ العصر الأول" من الدعوة. ويبدو لنا أنَّ استعمال المسبحة في التسبيح لله عز وجلّ لا يختلف في مرماه عند المسلمين عن استعمال الضغط على الأصابع" فالمراد تسبيحات بمقدار معين، بغض النظر عن الوسيلة، وذلك عملاً بأمر الرسول عليه الصلاة والسلام، رداً على من سأله: "تسبحون، وتحمدون، وتكبرون، خلف كل صلاة، ثلاثة وثلاثين"" وهذا ما يفسر لجوء من لا يحمل مسبحة الى التسبيح مع الضغط على سلاميات الأصابع وعقدها وفق الحساب الآتي: في كل يد أربعة أصابع ذات سلاميات ثلاث، إضافة الى الإبهام وهي ذات سلاميتين، ومجموع سلاميات أصابع اليدين ثمان وعشرون، يضاف اليها سلاميات إبهام وسبابة، فيكون المجموع ثلاثاً وثلاثين، يستعملها المصلي وهو يردد: "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم"، أو يستعيض عن الأصابع بمسبحة فيها هذا العدد، أو بمسبحة ذات تسع وتسعين خرزة، وهو العدد المعادل لعدد أسماء الله الحسنى كما ذكر الأستاذ ياسين رفاعية في مقاله. ونحن نرى أن المسبحة عند المسلمين لا تتسم في ذاتها بأية قدسية" فهي مجرد آلة ووسيلة، ولو كانت مقدسة لتشدد رجال الدين في منع استعمالها إلا مع الوضوء، ولتشددوا أكثر في منع استعمالها في التنجيم والتبصير. حتى ان المسبحة مرت في طور من تاريخها عند العرب المسلمين لم تكن فيه مدعاة للاحترام كما نفهم من رواية نقلها عن مصادره المستشرق السويسري آدم متز، في كتابه "الحضارة الاسلامية في القرن الرابع الهجري"" إذ "قال الأصمعي لخلف الأحمر: أما ترى ما جاء به ابن دأب من الحجاز والشوكري من الكوفة؟ فأجابه بما يحط من قدر علمهما، بأن قال: "إنما يروي لهؤلاء من يقول: قالت سِتِّي، ويدعو ربه من دفتر، ويسبح بالحصى، ويحلف بحياة المصحف، ويدع "حدثنا" و"أخبرنا" ويقول: أكلنا وشربنا" المجلد الثاني، ص 113-114، والتسبيح بالحصى هنا إشارة الى استمرار عادة نشأت مع نشأة الاسلام وهي التسبيح بالحصى ونوى التمر، وإن كنا نستبعد أن يكون المسلمون الأوائل جاهلين كيفية نظم الخرزات في خيوط، ما داموا عرفوا القلائد والعقود المنظومة، وهذه أشار اليها الشعر الجاهلي بكثرة. ويقول آدم متز ان الدارمي المتوفى عام 255 ه./ 869 م. ذكر في سُنَنِهِ "قوماً كانوا يقعدون في المسجد على هيئة حلقات، ينتظرون صلاة الصبح، وفي أيديهم حصى صغير، وكان لكل حلقة إمام يقول لهم: قولوا: الله أكبر مئة مرة، ثم سبحان الله مئة مرة، وكانوا يعدون ذلك بالحصى الذي في أيديهم، فمرَّ بهم شيخ، فقال لهم: أَوْلى بكم أن تعدوا ذنوبكم" المصدر نفسه، ص 114. ثم إن آدم متز يؤكد عدم احتفال العلماء بالمسبحة بين القرنين الثالث والخامس الهجريين، فيقول، مستنداً الى رسالة القشيري: "وكان حظ السبحة من قلة التقدير من جانب العلماء والمثقفين في القرن الثالث الهجري أقل من حظ الذكر نفسه، فكانت لا تُرى إلا في أيدي النساء أو مدَّعي الصلاح" وقد رأى أحد الصوفية في يد الجنيد سيد الصوفية المتوفى عام 297 ه./ 909 م. سبحة، فقال له: أنت مع شرفك تأخذ بيدك سبحة؟". ثم ينقل عن طبقات السبكي "ان السبحة تُذكر باعتبارها من أهبة النساء الصوفيات في القرن الخامس الهجري" المصدر نفسه، ص 116-117. وها هي السبحة أو المسبحة في أيامنا من أهبة النساء والرجال على السواء، ومن أهبة الصالحين وأهبة مدعي الصلاح، وحسبها شرفاً انها آَثَرُ هديةٍ يقدمها العائد من الحج، بغض النظر عن قيمتها المادية، أكانت مصنوعة من حجارة كريمة، زم كانت مصنوعة من بلاستيك. وكان الأستاذ رفاعية دقيقاً في الحديث عن أنواع المسابح وحجارتها وقيمها المادية، فلم يترك زيادة لمزيد. * كاتب في شؤون التراث الشعبي.