شاندريكا كوماتارونغا إسم غير مألوف في الإعلام السياسي العالمي ربما لأن سري لانكا ليست لاعباً فاعلاً في السياسة الدولية ليتم تداول إسم رئيسة جمهوريتها باستمرار. لكن هذا لا يعني أن السيدة التي تتقلد الحكم في هذا البلد البعيد ليست مهمة، بل العكس، لأن قصة شاندريكا البالغة من العمر 55 عاماً مملوءة بالنضال والالتزام السياسي والاغتيالات في بلد يتصارع فيه التاميل والسنغاليون أوالسنهاليون منذ اعوام. فمن هي هذه المرأة التي يناديها شعبها السريلانكي باسم شاندريكا؟ إنها رئيسة الدولة التي تحيط بها حماية لا مثيل لها في أية دولة أخرى. يتطلب الأمر للوصول إليها اجتياز سبعة حواجز عسكرية. أسلاك صفر تعوق المرور في شوارع عدة من العاصمة كولومبو وتحولها الى أرض لا يطأها بشر. الحواجز المزروعة توقف حتى السيارات الرسمية وتفتشها باستمرار. وليست هذه الاحتياطات الأمنية من دون جدوى، إذ تعرضت الرئيسة شاندريكا كوماراتونغا منذ عام الى محاولة اغتيال فيما كانت تعقد اجتماعاً مع مسؤولين سريلانكيين، اذ أصيبت بثلاث رصاصات: واحدة منها لم يتم نزعها الى اليوم من يسار عنقها. والثانية لم تصل الى دماغها في أعجوبة. أما الثالثة فأتلفت عصب البصر لديها، ما أدى الى فقدها عينها اليمنى. تبدو شاندريكا شديدة الهدوء حين تخبر عن هذه الحادثة التي كادت تقتلها، لا بل إنها تبتسم معتذرة عن إعطاء تفاصيل طبية محددة، "إنني لا أتأفف البتة مما حصل، حظي كبير أنني بقيت حية". تدرك شاندريكا جيداً معنى الموت الفجائي العنيف، إذ اغتال راهب بوذي والدها رئيس الوزراء سولومون باندرانايكا عام 1959. كذلك تم اغتيال زوجها فيجايا كوماراتونغا عام 1988. وتابعت شاندريكا نضال عائلتها السياسي وانتخبت رئيسة للجمهورية عام 1994 معلنة أنها ستعيد السلام الى بلادها. وأعيد انتخابها عام 1999 إثر محاولة اغتيالها. وعلى رغم التهديدات التي تحيط بها، ومصالح الأطراف المستفيدين من استمرار الحرب فإن شاندريكا كوماراتونغا تتكلم بصراحة ومن دون مواربة أو خوف. ولا تهتم هذه السيدة القوية بشيء سوى مصير ولديها: إبنتها يازودهارا 20 عاماً وإبنها فيموكتهي 18عاماً، وحين كانت سيارة الإسعاف تقلها الى المستشفى وهي مصابة كانت تتساءل عما سيؤول اليه مصيرهما لو ماتت. لذا حرصت على تأمين مستقبلهما لئلا يتعرضا للعوز إن أصابها مكروه. وعملت شاندريكا التي يتابع ولداها دروسهما في إنكلترا على إبعادهما كلياً عن السياسة: "خدمت ثلاثة أجيال من عائلتي سريلانكا وأعتقد أن هذا يكفي". تنتمي عائلة باندرانايكا الى العائلات الأرستقراطية الحاكمة. ولدت شاندريكا عام 1945 قبل ثلاثة أعوام من نيل بلدها المسمى سيلان آنذاك استقلاله. استمرت الجزيرة خاضعة للحكم البريطاني طوال قرن ونصف القرن. ونشأ والد شاندريكا تحت الحكم البريطاني. لكن بعد الاستقلال إعتنق الديانة البوذية متخلياً عن الأنغليكانية، كما ترك اللغة الإنكليزية للغة السنهالية. ثم أقام حملة ضد الاستعمار الغربي معلناً أنه يساري. تقول شاندريكا: "لقد قدم أهلي تضحيات جمة في سبيل سريلانكا، ووهبوا أراضي واسعة للشعب، وسواء كنا مع سياستهم أم لا، لا يمكن إنكار أنهم كرسوا أنفسهم كلياً لبلدهم". منذ وصوله الى رئاسة الوزراء واجه والدها الصراع بين السنهاليين والتاميل. ويشكل التاميل الهندوس أقلية في البلاد وغالباً ما فضلهم المستعمرون الإنكليز موكلين إليهم المناصب الإدارية المهمة. من هنا نشأ الشعور بالغبن لدى السنهاليين البوذيين. واستفحل العنف بين الجماعتين منذ الخمسينات، ووصل الى حد الاغتيالات والنهب المتبادل. وفي 25 ايلول سبتمبر عام 1959 إغتال راهب بوذي سولومون باندرانايكا. وانتقل المشعل الى زوجته سيريمافو التي تولت منصب رئاسة الوزراء حين كانت شاندريكا في الرابعة عشرة من عمرها. كانت شاندريكا ترغب بدراسة الطب، لكن اغتيال والدها وتسلم والدتها السلطة جعلاها تعيش حال اضطراب انعكست سلباً على دراستها. ولم تتح لها علاماتها المدرسية التقدم لامتحان الطب فتحولت الى دراسة العلوم السياسية ونالت منحة للدراسة في باريس وهي المولعة بأحداث الثورة الفرنسية. ونالت بعدها دكتوراه في موضوع إقتصاد التنمية. وفي أيار مايو عام 1968 شاركت في الحركة الطالبية التي عمت باريس: "لم أكن يسارية متطرفة بل كنت تقدمية في اليسار المعتدل لكنني تحمست لهذه الحركة الشبابية التائقة الى التحرر من التقاليد الاجتماعية الجامدة". بعد عودتها الى سري لانكا قررت تكريس حياتها لخدمة بلدها، "علمني أهلي أنه يجب أن نكرس عملنا للشعب. لكنني كنت أرفض دوماً ممارسة السياسة فعملت موظفة في وزارة الزراعة. جلت في الأرياف واحتككت بالناس وصرت اعرف همومهم". عندما خسرت والدتها الانتخابات عام 1977 إستقالت من وظيفتها وتزوجت بعد عام الممثل الأكثر شهرة في الجزيرة فيجايا كوماراتونغا. معه أسست حزباً جديداً يساري الميول. لكن فيجايا اغتيل قبل ان يبدأ مستقبله السياسي. وبينت التحقيقات أن متطرفاً سنهالياً إرتكب الجريمة. بعدها هاجرت شاندريكا مع ولديها الى لندن. لكن الحزب الذي أسسه والدها طلب منها العودة بإلحاح: "ترددت طويلاً قبل أن أقبل". وبعد عودتها عام 1991 أسست تحالفاً جديداً هو "إتحاد الشعب" مسانداً للحزب الذي أسسه أهلها، وهذا التحالف ربح الإنتخابات التشريعية في آب اغسطس عام 1994. وصارت شاندريكا رئيسة لمجلس الوزراء في كانون الأول عام 1994 ثم انتخبت رئيسة للجمهورية، ثم تسلمت والدتها منصب رئاسة الوزراء في سابقة عالمية لبلد تقوده سيدتان. "لو عاد بي الزمن الى الوراء لاخترت ان أكون رسامة أو راقصة أو عازفة بيانو ولكنت سعيدة. إن ثقل الرئاسة على ولدي وأصدقائي لا يحتمل. أعمل يومياً حتى ساعات الفجر الأولى ولا أجد وقتاً للاهتمام بأي شخص. لكنني أحب مواجهة التحديات. وصلت الى السلطة والاقتصاد منحط، كذلك التركيبة السياسية والاجتماعية. كان عليّ بناء كل شيء، قليلة هي البلدان التي تواجه هذه التحديات: النقص في الديموقراطية، إرهاب الدولة، والحرب بين طرفين داخل الدولة". الحرب الدموية وضعت المتطرفين التاميل في مواحهة الجيش. وتعمل شاندريكا على وضع حدّ لهذه المواجهة. تحدت السنهاليين مانحة صلاحيات أوسع للأقلية التاميلية، واليوم تواجه تحدي تعديل الدستور ونيل موافقة ثلثي اعضاء المجلس النيابي، وهي تحتاج في ذلك الى موافقة 17 عضواً من المعارضة السنهالية. "إننا في مرحلة حرجة، تقول شاندريكا. الحكومة بذلت جهدها لإعادة بناء الجسور بين التاميل والسنهاليين، ولتغيير عقلية الأكثرية السنهالية. واتخذنا زهرة اللوتوس البيضاء رمز النقاء والحقيقة شعاراً لحركتنا في كل القرى السنهالية، وفسرنا للناس أن السلام لا يأتي إلا عبر المفاوضات وإقرار الدستور الجديد. إنها المرة الأولى التي نلمس تجاوباً من السنهاليين. كما قمنا بتبادل زيارات في المدارس بين الطلبة التاميل والسنهاليين". لكن العقبة تبقى في المتطرفين التاميل الذين يشترطون إقامة دولة مستقلة في شمال البلاد. قامت شاندريكا بمفاوضات شاقة معهم منذ وصولها الى السلطة، بقيت من دون جدوى. "بدأوا يسخرون منا، كانوا يتسلحون سراً أثناء المفاوضات ليخرقوا اتفاق وقف إطلاق النار عند أية فرصة". وبناء على طلبها يقود المفاوضات اليوم ديبلوماسي نروجي. والمتطرفون التاميل هم من دبروا عملية اغتيال شاندريكا، اذ اطلقت عليها النار امرأة مدججة بالقنابل قبل أن تفجر نفسها. "يستخدم الإرهابيون النساء لأنهن لا يخضعن لتفتيش الشرطة. إنهم يخطفون الفتيات اللواتي لا تتجاوز اعمارهن الثانية عشرة الى مخيمات حيث يتم إخضاعهن لغسل دماغ قبل استخدامهن كقنابل بشرية". تؤمن شاندريكا بأن ثمة مؤامرة جديدة تهيأ لاغتيالها وتتقبل هذه الفكرة المخيفة بهدوء. "إذا رضخت للموت أعجز عن العمل". وفي مكتبها المتواضع حيث تتكدس الملفات، تلاعب الرئيسة كلبها الوفي القادر وحده على أن يوفر لها جواً من البهجة والشعور بأنها إنسانة عادية.