لو كان كولن باول بائعاً متجولاً لأغلقت الأبواب العربية في وجهه. فهو يطرقها عارضاً على أهلها بضاعة فاسدة او، على الأقل، مرفوضة منهم. يطالبهم باستقبال ايجابي لآرييل شارون وبالموافقة على تصعيد الضغط ضد العراق. وهو، فوق ذلك، يبدي استغراباً لرد الفعل لديهم ويكاد لا يصدق انهم يملكون وجهة نظر اخرى. لكن باول هو وزير خارجية اميركا. ان افضل صورة عما كان باول ينوي فعله هي تلك المنسوبة اليه في القاهرة. فهو حاول اقناع الرئىس حسني مبارك ان العراق يمثل خطراً كبيراً على مصر. واستعان، للبرهنة على ذلك، بتقرير منسوب الى الاستخبارات... الألمانية! وكان طريفاً ان صحيفة "هآرتس" الاسرائيلية تولت الرد على "مبالغات" هذا التقرير، ونسبت الى "مصادر عليا" ان الادارة الاميركية تعمدت تسريبه من اجل ان يساعدها ذلك في تغيير اجندة الاهتمامات في الشرق الاوسط. ولم تكتفِ الصحيفة بذلك. ذهبت الى تعداد المجالات التي يمكن العراق ان يكون ناشطاً فيها مثل الاسلحة الكيماوية المصنوعة من... الأسمدة! خاتمة كلامها برأي لخبير يجزم بأن العراق يملك بضعة صواريخ بعيدة المدى فقط، لكنه يفتقر تماماً الى الأجهزة اللازمة للتصويب. مهّد القصف قرب بغداد لجولة باول. وواكب ذلك تسريب عن تباين في الادارة الاميركية الجديدة بين رأي شديد الحماسة لاسرائىل والعداء للعراق، وآخر يريد معاودة النظر في الحصار من اجل استعادة الاجماع او شبه الاجماع الاقليمي والدولي، وامتلاك القدرة على التدخل الانتقائي في الأزمة العربية - الاسرائيلية على قاعدة الالتزام المطلق بأمن الحليف الاستراتيجي. وطرح، في هذا السياق، مصطلح جديد اطلق عليه اسم "العقوبات الذكية". لكن المرحلة الاولى من جولة باول تجعل السؤال ملحاً عن احتمال اصطباغ سياسة بهذه النظافة بالحد الادنى من الذكاء. ومع ذلك، نجح الوزير الاميركي في استلحاق نفسه وفي التسويق للفكرة القائلة بضرورة معاودة النظر في نظام العقوبات. حاول، في العواصم التي زارها، بلورة المعالم الاولى للسياسة الخارجية الاميركية في العهد الجديد. وضع، على الصعيد الفلسطيني، سقفاً شديد الانخفاض لطموحاته. فهو يكتفي، هنا، بوقف "العنف" وتخفيف الحصار على امل ان يكون ثمة مجال، ولو ضيق، من اجل الرهان على احتمال ان يعود الطرفان الى حوار ما، او الى تجديد الاتصال الذي قد يؤدي الى ابقاء مؤسسة التفاوض حية، بانتظار فرج او مفاجأة غير محسوبة. ولا ضرورة، من اجل ذلك، ان يكون المرء وزيراً لخارجية الدولة العظمى الوحيدة، والراعية المنفردة للمفاوضات، صاحبة النفوذ الأكبر على اطراف الصراع. ووضع الوزير، على الصعيد العراقي، هدفاً غائماً هو تطبيق عقوبات ذكية لا مضمون لها، حتى الآن، سوى الاعتراف بأن الجاري تطبيقه، حالياً، غبي. وهو غبي منذ فترة طويلة، باعتراف كثير من العواصم المعنية. عاد وزير الخارجية الاميركي الى واشنطن ليبدأ حملة صعبة لاقناع البيت الابيض والكونغرس بتحويل ما سمعه في العالم العربي من تعهدات وافكار، اضافة الى رؤيته لموضوع العراق، الى سياسة للادارة الجديدة بدلاً من تصريحات يدلي بها حول موضوع العراق. وسيواجه باول صعوبة كبرى في اقناع بعض الدوائر في البيت الابيض، تحديداً تلك القريبة الى نائب الرئيس ريتشارد تشيني ووزير الدفاع رامسفيلد. اما الصعوبة الأكبر فستكون في الدفاع امام الكونغرس عن سياسة الولاياتالمتحدة، في حال تمت مراجعتها في ملف الحصار في شكل يفسّر بوصفه ليونة تجاه صدام. معالم مراجعة العقوبات بالنسبة الى باول بدأت تتبلور، فهو يحاول ان يقايض ازالة العقوبات الاقتصادية بالتشدد في مراقبة التهريب على الحدود العراقية مع الدول العربية المجاورة وتركيا وايران، والتشدد على مراقبة برامج التسلح ومنع صدام من استيراد معدات قد تستعمل في صنع الاسلحة. لكن باول يدرك ان امتلاك صدام عائدات النفط خارج مراقبة الاممالمتحدة سيسمح له بالحصول على اسلحة. لذلك سعى الوزير اثناء جولته الى اقناع بعض الدول العربية بعدم تحويل عائدات النفط الى صدام مباشرة، بل الى الحسابات المصرفية الخاضعة لاشراف المنظمة الدولية. لكن بعض المصادر الاميركية يشكك بالتزام الدول العربية ذلك، لأن صدام يعطي الدول العربية نفطاً بأسعار مخفضة شرط ألا تحول العائدات الى الحسابات المصرفية التابعة للامم المتحدة. وفي حال قررت هذه الدول مراعاة باول فان العراق سيوقف تهريب نفطه عبرها، ويقوم بذلك عبر دول لا تخضع للتأثير الاميركي، مثل ايران. لعل رسالة باول الى المنطقة هي ان الادارة الجديدة، القليلة الرغبة في التدخلات الخارجية، ستكتفي بادارة الازمات مسلمة بأن "نافذة الفرص" العزيزة على قلب مارتن انديك مهددة بالاقفال. ويبدو ان ليس ضرورياً ان ينجح باول في حشد الادارة كلها وراء افكاره. كما ليس ضرورياً ان تبقى الازمات ذات توتر محدود تكفي ادارته. ان السياق الاجمالي للتطورات في المنطقة يوحي بغير ذلك.