بينما تتوارى المعارضة السورية الخجولة والمتلعثمة تحت طبقات الكلام الرتيبة والخائبة قد يسأل سائل: ماذا خلفت المعارضة الجنينية هذه في اللغة اليومية المتداولة؟ فبعض الحوادث، إذا ارتقى الى مرتبة الحادثة، لا يترك أثراً مرئياً أو مباشراً في سلسلة الحوادث اللاحقة والتالية زمناً ووقتاً. ولكنه يُدخل على لغة التداول والتعبير والتأويل معاني لم يسبق دخولها على هذا النحو، أو يُغيِّر مرتبة بعض المعاني والكلمات قياساً على مرتبتها السابقة والمستقرة. وعلى هذا، قد تحفظ النظرة الجامعة والخاطفة الى المطارحات والمناقشات السورية في "الديموقراطية" و"الإصلاح"، في أثناء نصف السنة المنصرم، أضداداً ونقائض ونظائر وأشباهاً متصلة، لا ينفك بعضها من بعض. فتنهض دولة القانون والمساواة والحقوق والانتخابات والحريات بإزاء دولة الثورة وشرعيتها وقطيعتها. ويقوم المجتمع المدني وحقوقه قيداً على الدولة المتسلطة والمنفردة بالسلطة والرأي والمنافع. وتوجب "الفسيفساء" الاجتماعية والأقوامية والمذاهبية حقوقها ومطاليبها بحيال حكم يتلفع بموجبات "الدولة القومية" الواحدة والمناضلة والمهددة بالامبريالية والصهيونية والعولمة، ويتذرع بهذه الموجبات الى قمع الحقوق والمطاليب الأهلية والمحلية، ويصمها بالتفرقة والتجزئة والعمالة. لا جديد والحق أنه ليس في المعاني المتصلة والمتضافرة هذه، ولا في اللغة والمقالات التي تُسلِكها في بيان وعبارة، ما ينبئ بحادثة أو حركة طارئة أو جديدة تمخضت عنها الحياة الاجتماعية والعلاقات السياسية والثقافية السورية. فكأن هذه المقالات، مقالات المعارضة أو التحفظ؟ ومقالات الحاكمين الحزبيين، تصدر عن مصدر واحد، وترد مورداً واحداً. فلا يختلف بين المقالات والأخرى إلا تقدير معاني الألفاظ ومصداقها: تريدون إلغاء حال الطوارئ؟ إنها اسمية ولا يعمل بها" تريدون الحرية؟ إنها ركن من أركان الحزب الحاكم، ولكل مجتمع حريته ومفهومه عنها" تريدون الكثرة الحزبية؟ الجبهة الوطنية التقدمية مؤتلفة من سبعة احزاب وقد تأتلف من عشرة" ولا فرق بين حرس قديم مزعوم وحرس جديد" تريدون انتخابات حرة؟ الشعب السوري كله بايع الدستور وبايع الرئيس وبايع مجلس الشعب" تريدون محاسبة حكم الحزب الحاكم؟ لا تجوز المحاسبة إذا أنكرتم العقود الثلاثة المستقرة والآمنة المنصرمة التي عصمتكم من الجزائر والصومال ولبنان؟، وإنكاركم يبطل انتسابكم الى الثقافة، ويبطل الانتساب الى الثقافة وإلى الوطن أغفالُكم الدور القومي الذي اضطلعت به "سورية" أي "شعبها" ورئيسها وحزبها وجيشها وأمنها... وهذه مطارحة في المرآة. فلكل قول نظيره وعدله المكافئ. ويرد القول على القول رداً حرفياً ومساوياً ومبطلاً. فيذوي القول المتحفظ في قول اصحاب السلطان وردهم وتأديبهم على نحو ما يذوي الصوت في صداه الهارب. ووَسِع مقالات اصحاب السلطان كسر شوكة المقالات المتحفظة واستتباعها، بقدر قليل من العنف المباشر. وقد يكون مرد الأمر، على ما أحسب، إلى صدور مقالات التحفظ عن مقدمات مقالات أهل القوة والسلطان، على ما مر. فليس في بيانات المتحفظين ومقالاتهم غير الموقع النظير لموقع المتسلطين. وتشتمل على النظيرين و"النقيضين" عباءة السعي المشترك في غايات واحدة يتقاسمانها هي القوة والعزة القوميتان، والدولة المتماسكة والمجتمع المتآلف، والحداثة أو التحديث من غير ألم ولا وجع ولا خروج من النفس على ما أومت ورقة "الاتفاقات"، "الحياة" في 25 شباط/ فبراير. خارج التخربة فلغة بيانات التحفظ ومقالاته هي لغة غُفل من كل تجريب أو اختبار، فردياً أو اجتماعياً كان هذا الاختبار أو هذا التجريب. ولذا فهي لا تنضح بمعنى غريب عن اللغة الغُفل أو عن معانيها السائرة والمتعارفة. وليس ردها الدائم والرتيب الى خطاب الولاية الرئاسية، وتعليقها آمالها وتحفظها على الخطاب العتيد، مراوغة محضاً ولا تقية خالصة. ومحاولة المتحفظين نسبة تحفظهم، ونسبة مواد هذا التحفظ وبنوده وحججه الى جزء من الطبقة الحاكمة وأهل القوة سموه حرساً جديداً تارة، ونهج الإصلاح تارة أخرى، قرينة جلية على اشتراكهم وهذه الطبقة في مقدمات واحدة، وفي أفق واحد. فلا يجد فرج بيرقدار جواباً عن قول "عذّابه" له ان الاتحاد السوفياتي انهار، تثبيطاً لعزيمته، إلا السؤال عن صفة الحكم السوري الثابتة والباقية. فهذه بتلك، وهذه نظير تلك. وينبغي ألا يكون هذا الحال غريباً ولا عجيباً. فالعقود الأربعة الخالية اقتلعت من المجتمع السوري، ومن جماعاته وعلاقاته ومبانيه، ما يقوم بأود لغة حية ومتجددة. واجتثت العقود هذه ما يقوم به اختبار فردي أو مشترك لا يتداعى هذياناً فقيراً أو خطابة مقلوبة. ويقع قارئ الرواية السورية أو بعض أعمالها، كتبها حيدر حيدر أو كتبها حنا مينة أو ممدوح عدوان أو نبيل سليمان، على نماذج من الهذيان الفقير والخطابة المقلوبة هذين. فتغلب على الأعمال ذهنية مستوية وجامعة، من غير دراما ولا فرق داخليين، ومن غير واقعة تعصى الإحاطة ولا حادثة تندرج فيما سبقها وتنقطع منه في آن. وينم فقر الإحالات التاريخية الى وقائع سياسية واجتماعية سورية، واستنكاف البيانات والمقالات عن أضعف تأريخ، ينم الفقر والاستنكاف هذان بانقطاع ثقافي وتاريخي يؤدي بالمقالات الى الانفكاك من كل تراث. فعلى نحو ما لا يتصل ظهور مقالات التحفظ وبياناته ببادرة اجتماعية أو سياسية أو ثقافية بادر إليها جماعة من السوريين أو بادر إليها أفراد، وابتدأوها على وجه من الوجوه - غير كتابة البيانات والمقالات - لا ينتسب مضمون المطالبة السياسية اليوم الى مناقشات ومطارحات سابقة. فلا سند ديموقراطياً أو ليبرالياً سورياً لمطاليب اليوم وحاجاته المفترضة، لا في حركات سياسية أو اجتماعية سورية، ولا في منجزات أو هيئات ولدت عن يد مثل هذه الحركات. ولا سند ديموقراطياً أو ليبرالياً في كتابات وأعمال فكرية أو فنية شعرية أو مسرحية، موسيقية أو غنائية... - سورية وطنية. فيبدو الكتّاب السوريون، اليوم، خاوي الوفاض من كل ما قد يساعد مجتمعاً معاصراً على تدبّر هيئاته وعلاقاته السياسية والاجتماعية المرجوة والمزمعة وتناولها ومناقشتها. وحين يستقوي أهل السلطان والقوة، رداً على المطاليب الديموقراطية العامة والنمطية، بتراثهم القومي، ورعايتهم وحدة الدولة السورية ومحافظتهم عليها وبصمودهم وتصديهم القوميين، فإنما هم يستقوون فعلاً وفكراً أو مقالاً بالتراث الوحيد الذي يبدو أن السوريين يعرفونه ويقرون به تراثاً جامعاً ومقبولاً. فما خلا ربط "المحافظات" الكبيرة، وهي كانت "دولاً"، بعضها ببعض، وجمع دمشق وحمص وحماه إلى حلب الشمالية العراقية والتركية الميول واستبقاء الجنوب الحوراني وجبال الساحل في كنف البلاد السورية - في انتظار استعادة اللواء السليب والأقضية الأربعة اللبنانية - لا كيان سياسياً للدولة ولا مناط لها غير كيانها ومناطها هذين. وكيانها هذا حزبي، ومناطه على الهوية المهددة على الدوام بالتفكك والتناحر والعمالة لتركيا والعراق والأردن وفلسطين وإسرائيل ومصر و... لبنان أو لما ومن وراء لبنان. ومجتمع هذا شأنه، وعلى هذا إجماعه المضمر أو المعلن، وانقاد لمن عرَّفوا هويته هذا التعريف مدافعة التفتت عقوداً - مثل هذا المجتمع لا يتوقع ان يتداول في أمر عقده السياسي، وهيئاته ومراتبه، وعلاقات أجزائه وتقاليدها، أو في أمر أفراده وحقوقهم ورعاية هذه الحقوق وحمايتها. فما قد يقع عليه اللبنانيون تلقائياً من مواد ثقافتهم السياسية، يعصى السوريين ورودُ مثله فكيف ببلوغه. ولعل حمل بعض ما جاء في البيانين السوريين الأولين على بيان المطارنة الموارنة في أيلول/ سبتمبر 2000 من القرائن على خلو الثقافة السياسية السورية من حجج تحتج بها وترجع إليها أو تسوغ مشروعية مطاليبها. ففي الأثناء كتب الكتّاب السوريون في آداب المقاومة والتحرر والاشتراكية والعقل والثورة والتوحيد القومي، وفي نقد التراث والدين والوسطية والاحتكارات والرساميل الأجنبية. وهؤلاء الكتّاب هم أصحاب البيانات والمقالات المتحفظة، اليوم. فلم يبق وقت ولا بقيت طاقة يُصرفان في وصف الوقائع السورية، مجتمعاً وسياسة وثقافة، و"تحريرها" على المعنى الأدبي وتعبيرها العبارة أو العبارات المناسبة. وبعض من كتبوا في الوقائع هذه، ولا أحسب أنهم وقعوا البيانات العتيدة ولا انتصروا لها، استعجلوا "إصعاد" السلطة من تحت على مذهب نسبوه الى بعض الفرنسيين وأقروا "الفوق" على استيلائه وعلى شرعية هذا الاستيلاء. وفي كل ما كتب تحفظاً عن "الدولة" ومنها، والإطلاق في هذه المسألة جائز، لم يتحفظ أحد باسم معيار أخلاقي أو باسم حكم من احكام العمل. فلم يَدِن كاتب متحفظ حادثة أو جملة حوادث، أو سياسة برمتها، إدانة تستظهر بمعان خلقية أو بحكم خلقي.فتمسك المتحفظون بما يسمونه ربما منطقاً تاريخياً أو سياسياً. وهم يحسبون انهم ملزمون بتمييز منطق التاريخ والسياسة من منطق الأخلاق وأحكام العمل. فإذا لم يميزوا ودانوا ما فعله بشر ببشر ولا يليق فعله ببشر، ضحايا أو جلادين وقتلة، خافوا ألا يُحملوا على محمل الجد. وهذا على خلاف معارضي الدولة الشيوعية الأنظمة. فالمعايير الخلقية، أو الحكم بالجواز أو بالتقبيح تقبيح ما لا يجوز، كانت مصدر قوة. فهي جزء من خارج التسلط والاستبداد، وبعضٌ من خارج السياسة. والمتحفظون يحسبون أن السياسة هي الكل، ولا خارج لها. فأهل التحفظ وأهل السلطان والقوة يدينون بهذا الدين. * كاتب لبناني.