مَن يزور معرض القاهرة الدولي للكتاب هذا العام يلحظ أن هناك توتراً ما، بل ان رماداً يغطي جباه المثقفين... يلاحظ ان هناك رفضاً لما يحدث من تداخل بين الأدوار، ويجد كثيراً من المثقفين يقتعدون المقهى الثقافي وأولئك الذين قادتهم خطاهم الى داخل المعرض للاطلاع على أحدث الكتب، فيما هناك من أخذ على نفسه عهداً ألا يتحرك بتاتاً في اتجاه المعرض فلزم داره... وثمة من شارك في فاعليات ثقافية موازية في مقهى "ريش" بعيداً من الوزارة وثقافتها، كما يقول بعضهم. حدث هذا عقب التفاعلات التي اعترت الساحة الثقافية قبل إقامة المعرض حين تمت مصادرة ثلاث روايات اعتبرت مخلة بالقيم مما حمل وزير الثقافة على إقالة كل من علي أبو شادي رئيس هيئة قصور الثقافة ومحمد كشيك مدير النشر وأحمد أبو العلا المسؤول عن النشر. وتضامناً مع حرية التعبير سارع كل من: جمال الغيطاني وابراهيم أصلان ومحمد البساطي وكمال رمزي بتقديم استقالاتهم مكتوبة... وتحرك المثقفون في اصدار بيان يدين الحجر على حرية التعبير وجمعت التواقيع وأعلن المثقفون المصريون أنهم سيقاطعون فاعليات معرض القاهرة للكتاب في حال ثبات الوزارة على موقفها... هذه التحركات الاحترازية لم تغير الوضع كثيراً وأصرت الوزارة على الاستمرار في الاجراءات التي اتخذتها بمصادرة الروايات الثلاث وفرض رقابة على الكتب. وللمرة الأولى يتم سحب مجموعة كبيرة من الكتب قبل عرضها داخل المعرض. وازاء هذين الموقفين... أين يقف المثقف المصري؟ وماذا سيفعل في حال استمرار الوزارة على موقفها؟ بعض المثقفين المصريين يرى ان مثل هذا التصرف سيغيّب دور مصر الريادي في مجال الحريات على المستوى الاقليمي. وبعضهم يرى أن الموقف "خلط" بين السياسي والأدبي وأنّه مجرّد غيمة وستجلوها الأيام المقبلة. فموقف الوزارة كان يستهدف تهدئة الوضع وامتصاص حال الفوران. فيما تشاءم بعضهم وأكد أن مصر ضُربت ثقافياً وفُتحت أبوابها لكي تهاجر أقلامها المبدعة بحثاً عن مكان آخر. وهنا آراء بعض المثقفين حول ما يمكن أن يفعل المثقفون المصريون في حال اغفال الوزارة مطالبهم. يقول الروائي ابراهيم عبدالمجيد: "ما يحدث الآن لا يمت الى الأدب بصلة. فالمسألة ان هناك تياراً سياسياً يتخذ من الأدب أداة هجوم على الدولة. ولأن الأدب أضعف حلقة يمكن تهشيمها والدخول الى الدولة من خلالها بحجة حماية الأخلاق ورفع شعار الاصلاح نجح مستخدموها في إحداث الأثر الذي سعوا من أجله...". والملاحظ أن الهجوم أصبح مكرساً ضد الرواية وغيب هؤلاء المهاجمون ان الرواية جنس أدبي مفتوح يجسد الحياة في كل تفرعاتها وتناقضاتها. والرواية في العالم هي جنس وسياسة وحب... وهي تقدم شخصيات منفعلة ويائسة وبائسة ومن خلال تحركها في فضاء النص تقول مونولوغات داخلية وأموراً حياتية عدة قد يعتبرها البعض نوعاً من التجديف ويعتبرها آخرون سخطاً أو غضباً أو ألماً. ومن خلال هذه التعبيرات الفنية اتخذ البعض منها وسيلة للضغط على الدولة ونجحوا في بث الذعر في وزارة الثقافة أو على الأقل جعل الوزارة تتراجع عن موقفها. وقد اتخذت - الوزارة - اجراءات يمكن أن نعتبرها اجراءات وظيفية عبر اقالة بعض المثقفين المسؤولين من الشأن الثقافي. لكن المشكلة ان، بعد هذه الاجراءات، حدث نوع من الخطاب السريع والمتواتر كرد فعل على ما يحدث من غير أن تكون الوزارة منتصرة للمستقبل. وغدت تصريحات وزير الثقافة مغضبة للمثقفين. وظهر لي ولغيري ان الموضوع ليس مرتهناً للصدف، بل ان القضية أكبر من الوزير نفسه. وما حدث كان انذاراً لحال جديدة في الثقافة المصرية، هذه الحال أينعت عن حال انزعاج. وهذا الانزعاج لم يكن موجهاً ضد وزير الثقافة وحده مقدار ما هو موجه الى الجماعات التي ركبت الأدب واتخذته وسيلة للهجوم على حضارة البلد من أجل تحقيق مكاسب سياسية. فالمشكلة الحقيقية ليست مع وزير الثقافة، فهو تلقى ضربات عدة وخاض حروباً صغيرة مع هذه الجماعات. ويبدو انه اصابه الارهاق من كثرة المواجهات. ومشكلة هذه الجماعات انها تنظر بعين واحدة وعلى هذا التيار ان يعود الى الحقائق، فهو يعمل في السياسة، وعليه ألا يتخذ وسائل تحريفية لتحقيق أغراضه وألا يعمل على خداع العامة من خلال الأدب. فالفنون لا تفسد المجتمعات، بل على العكس إنها تعلي من شأن الروح وتساعد الانسان على العيش وفق اطار حضاري متقدم، كذلك تساعد الانسان على تحمل شرور الحياة. فالفنانون شخصيات موهوبة منحها الله مقدرة على خلق اجواء جمالية في حياتنا، فلماذا السعي الى تشويه هذا الجمال؟ ويقلل ابراهيم عبدالمجيد من الثورة التي أثيرت حول الأعمال المثيرة للجدل قائلاً: "ان الهجوم الذي اتخذ من بعض الروايات منطلقاً هو هجوم على مجموعة من الشبان الصغار يكتبون للمرة الأولى، فلماذا لا يصبرون عليهم؟ عادة، الانسان في بداية حياته يكون أكثر حرارة وأكثر اندفاعاً وربما لو صبروا عليهم لتحولوا الى فلاسفة أو دعاة سلام كغاندي مثلاً. وكان من الممكن أن يكونوا رجال دين فلا أحد يعرف المستقبل. والاجهاز على الشباب في الأدب يمكن أن يوازيه اجهاز في مناحي الحياة. ومعنى هذا أن هذا البلد سيكون بلا مستقبل. والاجهاز على الأدب يعني أيضاً ان يكون هذا البلد بلا خيال والأمة التي بلا خيال يمكن القضاء عليها". ويرى ابراهيم عبدالمجيد ان مشكلة مصر ليست أدبية، بل تتعلق بشؤون الحياة المختلفة قائلاً: "الحقائق كلها تقول ان المشكلة في مصر ليست في الأدب ولكنها في الحياة الاجتماعية ذات الصبغة الصعبة المتمثلة في الحال المالية وفي عدم توافر فرص عمل وفي تأخر سن الزواج والعشوائيات وفي عدم وجود شقق للناس... هذه هي المشكلات الحقيقية التي لو أخذنا بها نأخذ بيد الوطن. وأنا أتصور ان النائب الذي يهتم بقراءة رواية الخير له أن يهتم بالشارع الذي يسكن فيه بالدائرة التي ينتمي اليها، لأن قراءة الرواية محصورة في كتاب وقلة من الناس يقرأون. ولو طبق على القراءة قانون الاكتفاء كما يطبق على القنوات الفضائية لما حدث ما حدث. فالقناة التي لا تتماشى مع ذوقك تقوم بإغلاقها، وكذلك الرواية اذا وجدت انها لا تتماشى معك تقذف بها بعيداً من غير اثارة كل هذه الزوابع... والسؤال: من الذي جعل هؤلاء ينتدبون انفسهم نواباً عن الناس في اختيار الأعمال الأدبية التي تجب قراءتها؟ فالقارئ ليس له نائب. والكتاب الذي لا يعجب القارئ لن يشتريه ولكن مثل هذه الزوابع تخلق سوقاً للكتب الفاسدة. هؤلاء يسعون الى مكاسب سياسية، والمشكلة ليست أدبية واعتقد ان تكرارها سيخلي مصر من المبدعين ويجعل الكتاب مضطرين للهجرة بغية نشر انتاجهم الابداعي خارج مصر. في هذه الحال فإن الخاسر الوحيد هو مصر. أما الحل الأمثل لمواجهة موقف الوزارة لو استمرت في مساندة تيار ضد آخر فهو أن يهجر المثقفون المصريون الوزارة ويغادروا بأدبهم الى الخارج. أما القاصّة عفاف السيد تتوقف عند الظاهرة قائلة: "هناك مجموعة من التساؤلات المطروحة حول بعض الاشكالات التي تحدث بين المثقفين ووزارة الثقافة. والمشاهد من الخارج يظن ان المسألة قائمة بين الوزارة والمثقفين. لكن حقيقة الأمر أن ما يحدث ليس بين الوزارة والمثقفين ولكن بين المثقفين والوزارة كطرف والجماعات الاسلامية كطرف ثان. وعمق الانفصام الحادث بين الوزارة والمثقفين هو رد فعل الوزارة على أفعال تقوم بها الجماعات الاسلامية. وقد اختل رد فعل وزارة الثقافة واتسم بالعشوائية، فهو رد فعل غير منظم أو مدروس. فما حصل حين تقديم طلب الاحاطة في مجلس الشعب ترك خللاً في تلقي المسؤولين في الوزارة لطلب الاحاطة في شكل مبالغ فيه لدرجة ان الذي قدم طلب الاحاطة - جمال حشمت - قال في تصريحاته للصحافة والتلفزيون: "لم أكن أتوقع أن يكون رد الفعل بهذه الصورة حتى كان رد الفعل متجاوزاً للتوقعات...". ورد فعل الوزارة أضر بالثقافة وخدم الجماعات الاسلامية. فالوزير تصرف نيابة عن الجماعات وانحاز لموقفها وضرب الثقافة فارضاً رقابة على الكتب وأقال بعض المسؤولين عن الثقافة. وهذا من حقه لأنهم موظفون في الوزارة التي ترأسها، لكن الاقالة كانت متعسفة. واعتراض المثقفين ليس على الاقالة وإنما لاتخاذه موقفاً معارضاً لمفهوم الثقافة والحريات والنهج الديموقراطي عبر ايقاف نشاط النشر وفرض رقابة على المنشور وسحب الكتب ومصادرتها وسحب الروايات الثلاث التي كانت محل الخلاف وقد تم تقويمها عبر المنهج الاخلاقي الجاهز بينما كان من المفترض أن تقوّم نقدياً. ولكن النقاد انسحبوا وتخلوا عن واجبهم مؤثرين السلامة. وهذا يترك ازمة حرية تعبير وأزمة حوار بعيداً من المواقف السياسية ضد طرف. ولعلّه يؤدي الى الانغلاق". وتضيف عفاف السيد: "ان موقف المثقفين في حال ثبات الوزارة على موقفها هو اللجوء الى المقاطعة، وبدأ بعض المثقفين بمقاطعة فاعليات معرض الكتاب. وان تلك المقاطعة ستستمر حيال الأنشطة الثقافية التي تشرف عليها الوزارة ورفض النشر من خلال الوزارة واللجوء الى دور النشر الخاصة". وتؤكد عفاف انه "تم تكوين جماعات من المثقفين بهدف جمع مبالغ مالية لإصدار الكتب من خلال النشر الخاص وخارج اطار الوزارة. فالفترة المقبلة ستكون حاسمة في العلاقة بين الوزارة والمثقفين". وتختتم قائلة: "أنا غير قادرة على ان أتصور وزارة تعمل على قمع مثقفيها وتفرض رقابة على حرية التعبير وحرية الابداع، وهي بهذا تفرغ الوزارة من المثقفين". وتتهم الوزارة بأنها قامت بإحلال السياسة محل الثقافة "وهذا دور غير مطمئن". الفنان التشكيلي عادل السيوي يرى أن القضية في الأساس تمثل أزمة حوار وفرض الرأي الواحد ويؤكد لو أن هناك مساحة من الحوار لما حدثت تلك الزوبعة. فالأمر يقوم على تجهيل المجتمع من خلال فئة تدعي انها تمتلك الحقيقة المطلقة، لكونها تمثل اداة ضغط فهي استطاعت أن تحقق بعض المكاسب...". ويرى السيوي "ان الأمر لن يطول على هذه الحال لأن معطيات الحياة تسير وفق التعدد والاختلاف وأن المنجز التكنولوجي لن يمنح أحداً امتلاك وجهة نظر واحدة...". وكان أعضاء نادي القلم الدولي الفرع المصري أصدروا بياناً استنكروا فيه ما حصل ويحصل وجاء فيه: "نحن الأعضاء في نادي القلم الدولي الفرع المصري إذ هالنا ما يتواصل في الساحة الثقافية المصرية والعربية من نيل بحرية الابداع والتفكير، واهدار لحقوق المبدعين البديهية، واجراءات تقوم بها السلطات الثقافية الرسمية في مصر والبلاد العربية، في سياق استدراج المثقفين الى معارك مفتعلة بمصادرة أو منع أو حجب للابداعات الأدبية والثقافية وملاحقة للمبدعين انصياعاً لضغوط سياسية وزعماً بحماية المجتمع او الحفاظ على مفهوم معين "للحياء العام" و"الأخلاق"، في الوقت الذي تقوم اسرائيل بأعتى ممارسات الارهاب واغتصاب حقوق الشعب الفلسطيني... إننا ندين بكل قوة هذه الاجراءات، وندعو كل الأطراف الى تسييد الحوار في سياق حرية كاملة غير منقوصة مستندة الى العقلانية ومقابلة الحجة بالحجة، ونؤكد ان تقويم الأعمال الأدبية هو من شأن النقد الأدبي وله معاييره الخاصة".