المعركة التي يخوضها المثقفون المصريون مع وزارة الثقافة بلغت مرحلة من "التأزم" بات من الصعب حيالها الرجوع الى نقطة الصفر. فالمثقفون الذين يرفضون أن يكونوا وقوداً في أتون السياسة لم يكتفوا بإصدار بيانات الاستنكار بل باشروا في التحرك الثقافي والمقاطعة الفعلية عطفاً على الاستقالات التي توالت قبل أيام. وتنادى الكثيرون من أجل احياء تظاهرة أدبية "معارضة" في موازاة معرض القاهرة للكتاب، ودعا البعض الى عقد مؤتمر ثقافي لمواجهة المؤتمر الذي تزمع الوزارة على عقده. تصعب العودة إذاً الى حال من المهادنة ما دامت الوزارة غير قادرة على التراجع عمّا قامت به من اقالات و"محاكمات" صورية ومصادرات، وما دام المثقفون عاجزين بدورهم عن الصمت والإذعان والخضوع، وقد أدركوا انهم يحاربون على جبهتين: جبهة وزارة الثقافة وجبهة الجماعة الإسلامية. ولعلّ البيان الذي وقعته مجموعة بارزة من المثقفين المصريين يعبّر خير تعبير عن عمق الأثر الذي تركته البادرة السلبية التي قامت بها الوزارة في حقّ الكتّاب والمثقفين. فعبارات مثل "البطش المادي والمعنوي" و"التنكيل الفكري..." و"السلوك القمعي" تذكّر ببعض البيانات التي كان يوقعها المثقفون في ظلّ الأنظمة العسكرية. والمعجم الذي تتداوله الوزارة والجماعة الإسلامية جهاراً وتلميحاً ينتمي أيضاً الى معاجم الأنظمة التوتاليتارية التي تهاوت قبل سنوات. الإِبعاد، الاتهام، الاقالة، المصادرة، الردع، التحقيق... جميعها مفردات لا تنتمي الى معجم الأنظمة الديموقراطية ولا علاقة لها بعالم الثقافة والأدب. وإذا كان من حق وزارة الثقافة كمؤسسة رسمية أن تعترض أخلاقياً على نشر بعض الروايات فهي كان في امكانها أن تصادرها بصمت وهدوء، ما دامت المصادرة حقاً من حقوقها. ولكن أن تعمد الى محاكمة موظفيها والى ادانتهم واقالتهم أو ابعادهم فهي انما تحاكم وتدين وتقتل وتبعد أهل الأدب والثقافة. فمعظم هؤلاء الموظفين هم من خيرة الكتّاب والأدباء وينبغي على الوزارة ان تحميهم وأن تصون حريتهم وكرامتهم. ولكن ها هم ككتّاب ومثقفين يقعون ضحايا على "مذبح" أزمة سياسية كان من الممكن أن تنشب... على انهم رفضوا أن يقعوا بسهولة ضحايا تلك اللعبة السياسية بل شاؤوا ان يواجهوا السلطة ثقافياً حتى وان كانت المواجهة صعبة وخطرة. وأياً تكن التهم الموجهة الى الروايات الثلاث التي طلب أحد النواب الإسلاميين الإحاطة في شأنها فإن الوزارة التي خاضت سابقاً معركة "الوليمة" وخرجت شبه منتصرة، تدرك أنّ "خطر" هذه الروايات لن يتجاوز دائرة النخبة الأدبية خصوصاً ان أصحابها هم من الكتّاب الهامشيين وغير المعروفين. وتدرك الوزارة جيداً ان الكلام عن "خطر" الأدب وعن اساءته الى الرأي العام ومسّه بالأخلاق... هو مجرّد كلام خاوٍ وغير حقيقي. فمتى كان الأدب يملك هذا الرواج وهذه القدرة؟ وهل الأدب قادر حقاً على امتلاك السحر الذي تمارسه وسائل الإعلام الحديثة وهي تغزو المنازل وسواها؟ كيف ستنتهي المعركة التي اندلعت بين المثقفين ووزارة الثقافة في مصر؟ هل من مثقفين لم يُضحّ بهم بعد؟ هل من كتب تستحق أيضاً أن تصادر وتمنع؟ هل من تهم لم تُطلق بعد؟ الأسف كل الأسف أن يحصل ما حصل في القاهرة، هذه العاصمة التي شرّعت أبوابها أمام المثقفين العرب وأمام الثقافات العربية والآداب العربية! الأسف أن تتوقف تلك "السلاسل" الأدبية التي استطاعت حقاً ان تصالح بين الأدب والقراء وأن تروّج الكتب كالأرغفة وأن تساهم في نشر الثقافة كما يجب أن تنتشر. وكم سعى الكثيرون من الأدباء العرب ان ينشروا كتبهم في القاهرة عبر تلك "السلاسل" القادرة ان توصل أدبهم الى قراء يجهلونهم ويودّون ان يتواصلوا معهم. الآن بات بعض الأدباء المصريين يبحثون عن ناشرين عرب هرباً من جحيم الرقابة والمصادرة والردع... وفيما يبدي بعض المثقفين ارتياباً من خاتمة هذه "الكارثة" التي قد توقع المزيد من "الضحايا" لا يتوانى بعض المسؤولين عن خوض المعارك الهوائية على طريقة دون كيشوت! تُرى هل يمكن تخيل صورة للقاهرة بعيداً عن ذلك الصخب الجميل، صخب المطابع، وبعيداً عن رائحة تلك الكتب، رائحة الورق الأصفر والدافئ؟ هل يمكن تخيل صورة للقاهرة خارج المعترك الثقافي؟