أما وقد فاز شارون، ولم يعد لأي بكاء مستتر على الأطلال مغزى سوى ضرورة استخلاص العبر للمستقبل هذا في حال بقي التفاوض وسيلة فلسطينية استراتيجية لحلّ الصراع، فإن إعادة ترتيب وتشكيل السياسات الفلسطينية لمواجهة الوضع الإسرائيلي الجديد أصبحت ضرورة تقتضيها المصلحة الوطنية. ومن نافل القول أنه كلما قام الجانب الفلسطيني بمهمة إعادة تحديد وتوضيح السياسات بسرعة وكفاءة ومهنية، واتباعها بدقة وإحكام من دون بلبلة وتخبط، كلما أصبح تخطي شارون إمكان أيسر وأسرع. يفترض من أجل صياغة سياسات فعالة للتعامل مع شارون أن يتم الانطلاق من نقطة استيضاح المحددات الأساسية التي يتوقع أن تحكم المشهد السياسي الإسرائيلي الجديد. ويبرز من هذه المحددات أربعة رئيسية: - أولا، أن الحكومة الإسرائيلية الجديدة ستكون ذات برنامج "سلام" يميني، بغضّ النظر إن كانت حكومة مقلصة تتشكل من أحزاب اليمين فقط، أو حكومة وحدة وطنية يدخل ضمنها عناصر من حزب العمل. ومعنى ذلك أن لآءات شارون المعلنة ستمثل حدود التوجه الإسرائيلي الجديد تجاه عملية التسوية السياسية مع الفلسطينيين، بدون أدنى التزام بالتفاهمات الفلسطينية _ الإسرائيلية السابقة، خصوصاً ما يسمى اعتباطاً "وديعة باراك"، أو بمقترحات الرئيس الأميركي السابق كلينتون. فمن خلال فوزه على باراك، استحصل شارون على قبول إسرائيلي عام على برنامجه السياسي المعلن تجاه التسوية. وبالتالي ستقوم هذه الحكومة بإخراج مواضيع السيادة على القدس الموسعة والمستوطنات وغور الأردن والمعابر، إضافة إلى موضوع عودة اللاجئين إلى المناطق التي أُقتلعوا وشرّدوا منها، خارج نطاق المفاوضات المحتملة مع الجانب الفلسطيني. وتبعاً لذلك ستنحصر المفاوضات التي ستكون هذه الحكومة مستعدة لإجرائها حول إقامة "دولة" كانتونات فلسطينية ناقصة السيادة ومحدودة السيطرة على ما يتبقى من الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1967، والتي تقدر بمساحة لا تتجاوز نصف الضفة والقطاع في أحسن الأحوال. وبما أن هذا العرض لن يغري احداً من الفلسطينيين، فإن شارون سيحاول أن ينحّي جانباً مسألة التوصل إلى اتفاق نهائي شامل مع الفلسطينيين، وسيستبدل ذلك بمحاولة التوصل إلى اتفاقات جزئية طويلة الأمد ليحاول من خلالها تنفيذ مخططاته الاستيطانية داخل الأرض الفلسطينية المحتلة. ولتحقيق ذلك قد يكون شارون مستعداً لذرّ الرماد في العيون عن طريق إبداء الاستعداد لتسليم الجانب الفلسطيني قِطعاً إضافية من الأرض "غير الحيوية" لتنفيذ مخططاته. - ثانياً، أن الحكومة الإسرائيلية الجديدة، بقيادة شارون، قد تفاجىء الجانب الفلسطيني، والمحيطيْن الإقليمي والدولي، باتباع سياسة غير متوقعة من حكومة يمينية متطرفة، تتلخص سماتها بالعشوائية والمباشرة والقسوة، وإنما سياسة تكون انتقائية مركبة على أساس تفتيت المجابهة المتوقعة مع الفلسطينيين، وذلك بهدف تعويم ردود الفعل المحتملة عليها وتخفيفها. فهذه الحكومة، ولا سيما رئيسها، متهمة حتى قبل أن يتم تشكيلها بأنها حكومة خطرة وذات توجهات سلبية تتمثل بإشعال فتيل مواجهات وأزمات في المنطقة، وقد تقود إلى اندلاع حرب شاملة فيها. وعلى رغم أن شارون سيعلن مراراً وتكراراً أنه لن يتعامل مع السلطة الفلسطينية في ظل استمرار "العنف"، وسيطلب منها اتخاذ خطوات ملموسة لإنهاء المواجهات، وسيقوم باتخاذ سلسلة من الإجراءات السريعة ضد المشاركين في الإنتفاضة، إلا أنه من الممكن أن يبدأ أيضاً، وبشكل مواز وسريع، باتباع سياسة العصا والجزرة فيقسّم الفلسطينيين إلى مجموعات وفقاً لعدد من المواصفات، ويبدأ التعامل مع كل مجموعة بشكل انتقائي خاص، مستهدفاً توظيف شعار "فرّق تسد" لتفتيت الفلسطينيين في ملاحقة مصالحهم الشخصية الضيقة. ومن خلال اتباع محتمل لمثل هذه السياسة الانتقائية المركبة قد يستهدف شارون تحقيق هدفين عزيزين عليه. الأول، إشاعة البلبلة في الأوساط الفلسطينية وإثارة الفلسطينيين على بعضهم بعضاً، خصوصاً أن الأوضاع الفلسطينية الداخلية تشكل تربة خصبة لمثل هذا الاحتمال، فتبدأ اقتتالات فلسطينية داخلية وتعمّ الفوضى والخوف الساحة الفلسطينية، وتنكشف السلطة الفلسطينية على نفسها والعالم. والثاني، تغيير صورته أمام الرأي العام الإسرائيلي والعالمي. فشارون ذو سوابق تقشعرّ لها الأبدان، وكثيرة هي الأوساط القلقة من وصوله إلى سدة الحكم. ولذلك قد يلجأ إلى استخدام هذه السياسة تكتيكاً لتبييض صفحته وإخراج "شارون جديد" من القمقم القديم. وإذا نجح فقد نجد أوساطاً عديدة تطلب منحه فرصة لتحقيق السلام! - ثالثاً، أن الحكومة الإسرائيلية الجديدة ستكون محدودة الفترة الزمنية ولن تستمر في الحكم طويلاً. فكل المؤشرات تدل الى أن الوضع الإسرائيلي الداخلي متأزم، خصوصاً في ظل كنيست فسيفسائية لن يستطيع حتى وإن تمكن من إخراج حكومة أن يحافظ عليها طويلاً. لذا من المتوقع أن تكون حكومة شارون انتقالية، تصمد بضعة أشهر ثم يُعلن عن حل الكنيست وتُجرى انتخابات عامة كاملة جديدة، وربما يتم فيها تغيير طريقة الانتخابات المباشر والعودة إلى الطريقة القديمة، طريقة اللائحة النسبية. وقد يأخذ كل ذلك زمناً أقصاه عاماً واحداً، لن تتوفر فيه الفرصة اطلاقاً للتوصل إلى اتفاق سلام نهائي بين الفلسطينيين والإسرائيليين. فمثل هذا الاتفاق سينتظر حتى تتم الإنتخابات العامة في إسرائيل، وتجري المفاوضات مع الحكومة التالية. - رابعاً، ستبدأ الحكومة الإسرائيلية الجديدة العمل في ظروف إقليمية ودولية يقظة ولكن غير متحفزة للتدخل المباشر السريع في معالجة الحالة الفلسطينية-الإسرائيلية. فالوضع العربي لا يزال منكفئاً على نفسه وبحاجة إلى الكثير من الترميم. وإذا لم يقم شارون باستفزاز واسع خارج الحدود الانتدابية لفلسطين، لن يتوقع من المحيط العربي حتى موعد القمة العربية في آذار مارس أكثر من استمرار الدعم اللفظي للفلسطينيين. أما بالنسبة الى الوضع الدولي فتقوده حالياً إدارة أميركية جديدة لا تزال تتلمس تحديد سياساتها، وهي غير متحمسة على الإطلاق لأسلوب التدخل الشخصي الحميم لمتابعة عملية التسوية السياسية كما كان حال سابقتها. بل بالعكس، قد تكون لهذه الإدارة رؤية مختلفة لمعالجة الصراع أشمل وأوسع من سابقتها، فتدخل المنطقة عندما ترتأي ذلك مناسباً من باب محاولة حل الصراع العرب - الإسرائيلي لتنفذ منه بعد ذلك إلى الصراع الفلسطيني -ا لإسرائيلي. وباختصار، إذا لم يتم استحضار الإدارة الأميركية لمعالجة وضع متفجر بين الفلسطينيين والإسرائيليين قد تكون له تبعات إقليمية، فإن هذه الإدارة لن تقحم نفسها في هذا المجال. ضمن هذه المحددات المتوقعة يصبح السؤال المركزي: كيف يمكن القفز فلسطينياً على مرحلة شارون بأقل الخسائر السياسية الممكنة؟ يجدر أولاً التنويه إلى أنه قد يكون من المفيد للفلسطينيين قدوم اليمين الإسرائيلي إلى سدة الحكم في إسرائيل، وعلى رأسه المتطرف شارون، وذلك من أجل مواجهة هذه "الجوزة الصلبة" وكسرها حتى يتم فتح الباب لاحقاً على الإمكانية الحقيقية لحل الصراع تفاوضياً. فلو بقي الحال على استمرار التعامل مع ما يسمى جزافاً باليسار الإسرائيلي لبقي اليمين حجر عثرة لكونه يطرح بديلاً نظرياً يعتمد على التشدد واستخدام القوة. وما جرى لباراك من قبل شارون في الانتخابات خير دليل على ذلك. أما إذا استنفذ اليمين قدرته وبقيت الحال على حاله، فقد يُقنع ذلك الإسرائيليين بجدوى التوصل إلى اتفاق مقبول مع الفلسطينيين. ولكي يتم كسر "الجوزة الصلبة" قد يكون من المجدي فلسطينياً إتباع سياسات واضحة ومحكمة، تتلخص في ما يأتي: - أولاً، مع العلم اليقين بعدم إمكان التوصل إلى اتفاق نهائي وشامل مع هذه الحكومة، إلا أنه لا بدّ فلسطينياً من محاولة جرّ اليمين الإسرائيلي للتفاوض وذلك لكسر بعض من لاءاته المهمة من الناحية المعنوية، خصوصاً إجراء مفاوضات مع استمرار الانتفاضة، وإرغام شارون على مصافحة عرفات. - ثانياً، من الضروري إفشال محاولة شارون، إن تمت، في اتباع سياسة انتقائية مع الفلسطينيين. فنجاح هذه السياسة يشكل على الفلسطينيين خطراً مركباً، داخلياً ودولياً. كما ومن الضروري إفشال نظرية شارون، واليمين الإسرائيلي من خلفه، الداعية إلى أن استخدام القوة ضد الفلسطينيين هو السبيل الوحيد لضمان الأمن للإسرائيليين. فمثل هذا النجاح سيفقد الإسرائيليين الدافع الرئيس لتحقيق تقدم على صعيد المسيرة السلمية. - وثالثاً، من الضروري القيام بما يلزم، وبأسرع وقت ممكن، لإقحام المحيطين الإقليمي والدولي، خصوصاً الإدارة الأميركية الجديدة، في القضية الفلسطينية. ولن يتحقق كل ذلك إلا من خلال مواجهة شاملة مع حكومة شارون على الأرض. * أستاذ العلوم السياسية، جامعة بيرزيت.