تفيد ترويسة العدد الأول من صحيفة "الاتحاد" الاسبوعية الصادرة صباح كل أحد انها "لسان حال العمال العرب في فلسطين". ولكن الاطار المجاور للعنوان يتضمن العبارة الآتية: "صاحبها ومحررها المسؤول إميل توما". وإذا كانت العبارة تلك توحي وكأن اميل توما أصدر "الاتحاد" كرمى عيون العمال وحقوقهم، ربما لأنه كان مسؤولاً نقابياً، فإن افتتاحية العدد الأول الصادر في 14 أيار مايو 1944 الموقعة باسم "الاتحاد" تصرّح بأن اتحاد العمال هو الذي أصدر الدورية لتكون "أول جريدة تنطق بلسان العمال العرب في فلسطين". ويعود سر اعلان ملكيتها لشخص معين، الى القوانين التي لا تسمح بتسجيلها باسم النقابة، وهو أمر ينطبق على كل الدوريات التابعة للنقابات والأحزاب. كذلك تدعو الافتتاحية الى الاستنتاج أن الاتحاد العمالي في فلسطين قد يكون احدى مؤسسات الحزب الشيوعي أو النقابة التي يقودها شيوعيون وتلقى تأييداً من حزب "الطبقة العاملة". ومن الأدلة على ذلك العبارة الآتية التي كانت تعجّ بمثلها مطبوعات الحزب الشيوعي في لبنان خلال الحرب العالمية الثانية: "إن لظهور جريدتنا في مرحلة نضال الشعوب المحبة للحرية ضد الاستعمار النازي، أثراً قوياً على طبقتنا العاملة وعلى حركتنا القومية العربية، فسوف تحمل رسالة الروح الجديدة، روح الحرية الشاملة التي تعمّ العالم بأسره نتيجة لنضال الشعوب المظفر ضد أعداء الحرية". وفي الوقت الذي لم تأت الافتتاحية على ذكر الحركة الصهيونية التي كانت قاب قوسين من إعلان دولتها في فلسطين، يؤكد كاتبها ان الصحيفة "خير ردّ على اقتراحات اللجنة التنفيذية لحزب العمال البريطاني، وستسهم حركتنا العمالية العربية بواسطة هذه الجريدة وبواسطة الوفد المزمع ارساله الى لندن في تفسير ما خفي على اخواننا عمال بريطانيا. وفي هذا ما فيه من خدمة لوطننا العربي فلسطين ولقضيتنا الوطنية عامة". يلمّح الكاتب هنا الى موقف حزب العمال البريطاني المؤيد للاستيطان اليهودي في فلسطين، وما سيقوم به "حزب" العمال الفلسطيني من تعديل في ذلك الموقف. ان افتتاحية العدد الثاني المعنونة "مؤتمر البلديات وموقف الأعضاء اليهود" تعزز القول إن خلو العدد الأول من ذكر الاستيطان اليهودي بقيادة الحركة الصهيونية كان نهجاً تكتيكياً، كي لا يبادر المفوض السامي البريطاني الى سحب رخصة الجريدة. فقد ردّ توما على الأعضاء اليهود في بلدية القدس الذين احتجوا على اشتراك رئيس البلدية الخالدي في المؤتمر، فأكد أن منطقهم ليس سوى "منطق الصهيونية في فلسطين التي تحاول ان توهم الجماهير اليهودية ان صالحهم في عداء الحركة الوطنية العربية التحريرية، وتظهر لهم ان سعي العرب في سبيل حكم ديموقراطي مستقل يضرّ بمصالحهم". وأضاف في افتتاحية العدد الصادر في 21 أيار 1944 ان "الذي بيننا وبين اليهود في فلسطين هو الصهيونية، والذي بين اليهود ومصالحهم الحقيقية هو الصهيونية". وختم أن "سعي الحركة الوطنية في سبيل ايقاف الهجرة ومنع انتقال الأراضي هو في مصلحة العرب واليهود معاً". شارك عدد من النقابيين والكتّاب اميل توما في تحرير "الاتحاد"، فاحتل رأس اللائحة الأديب اليساري المعروف اميل حبيبي الذي اتخذ لزاويته الدائمة عنوان "يسألونك عن". في العدد الصادر بتاريخ أول تشرين الأول اكتوبر 1944 كتب حبيبي عن "موقف الاتحاد السوفياتي من الصهيونية"، متناولاً الموضوع بمناسبة سعي "عصبة النصر" اليهودية في فلسطين لإقناع الاتحاد السوفياتي بأن ينظر بعين العطف الى انشاء الوطن القومي اليهودي في فلسطين. وختم الكاتب، بأسلوبه الساخر، ان الاتحاد السوفياتي "لم ينظر بعين العطف الى انشاء الوطن إياه، وقد يكون ينظر اليه بالعين الأخرى. وعلى ما يظهر أيضاً، ان الاتحاد السوفياتي لن يقتنع". وحبيبي هنا كان يجهل أو يتجاهل العين الثالثة ذات العلاقة بالمصلحة لا العقيدة، وهي التي دفعت الاتحاد السوفياتي، بعد ثلاث سنوات من ظهور المقال، الى التسابق مع الولاياتالمتحدة، للاعتراف بالدولة الصهيونية. في ذلك العام 1944 زارت هدى شعراوي لبنان بدعوة من "اتحاد الأحزاب اللبنانية". وخلال الزيارة، أقيمت للضيفة المصرية ندوة في دار الكتب الوطنية، خطب فيها الأديب اليساري رئيف خوري باسم "عصبة مكافحة النازية والفاشستية". والخطيب هنا كرّر ما سبق وشدّد عليه رفيقه حبيبي وهو ان "الاتحاد السوفياتي يستنكر الصهيونية استنكاراً صريحاً لا ملاينة فيه". ومما ورد في سياق الخطاب ان انهيار النازية في الحرب "يعني انقطاع شريان من الشرايين الغزيرة الخبيثة المغذية للصهيونية". "الاتحاد" 15 تشرين الأول 1944 ولكن السنوات التي تلت سقوط النازية، وهي تربو على نصف قرن، أكدت عكس الاستشراف إذ ان انهيار الحكم النازي كان ولا يزال أبرز الشرايين التي تتغذى منها الحركة الصهيونية مالياً واعلامياً وسياسياً. يبقى ان السلطة البريطانية في فلسطين عطّلت "الاتحاد" في أواسط شباط فبراير 1948 "لأنها أعلنت بكل صراحة ان الاستعمار البريطاني بجيوشه وبوليسه وأجهزته لم يقف على الحياد أبداً، ولكنه لم يكن مع العرب ولم يكن مع اليهود، بل كان ضد الجماهير العربية وضد الجماهير اليهودية". والطريف ان الكلمات الآنفة وردت في افتتاحية العدد الأول لمرحلة ما بعد التعطيل الصادر في 18 تشرين الأول 1948، أي في ظلّ السلطة الاسرائيلية. ولم يقتصر الكلام الايجابي الموجه لليهود، على الافتتاحية. بل هو شمل معظم أخبار الصفحة الأولى وخصوصاً الخبر الرئيس المتوج بالمانشيتات الثلاث الآتية: "نصر كبير تحققه الطبقة العاملة العربية واليهودية وضربة تنزلها بمشاريع الاستعمار في الشرق الأوسط... إعادة تأليف حزب شيوعي أممي موحد في كل من الدولتين... نص القرارين اللذين اتخذتهما اللجنتان المركزيتان لعصبة التحرر الوطني والحزب الشيوعي". ولكن تفصيل الخبر الذي يعزز صحة العنوانين الأول والثالث، يدعو الى تعديل العنوان الثاني ليصبح هكذا: إعادة تأليف حزب شيوعي أممي موحد في كل من الدولة الاسرائيلية الراهنة والدولة الفلسطينية العتيدة! فقد ورد في مقدمة الخبر ان "اللجنة المركزية لعصبة التحرر الوطني في فلسطين اتخذت قراراً تاريخياً اقترحت فيه على الحزب الشيوعي الاسرائيلي العمل المشترك على إعادة انشاء حزب شيوعي أممي واحد في دولة اسرائيل وحزب شيوعي أممي واحد في الدولة العربية الفلسطينية المزمع انشاؤها". ترى هل كانت اللجنة المركزية لعصبة التحرر الوطني قدّمت اقتراحها الغريب لو علمت ان الدولة الفلسطينية لم ترَ النور على رغم مرور 52 سنة على تاريخ الاقتراح؟ * كاتب لبناني.