لا نزال في مرحلة تفسير أهداف واشنطن من قصف العراق. الرأي الأكثر اعتدالاً يرفض هذه الأعمال الأميركية التي يمكن وصفها اعتدالاً بأنها امعان في سياسة ابراز القوة كطريق وحيد للتعامل مع الأزمات، النفسية والسياسية. فالرئيس الأميركي الجديد يعاني الأزمتين معاً. تتجلى مظاهر الأزمة السياسية في المأزق الذي آلت اليه عملية السلام في الشرق الأوسط وذهاب الرئيس السابق بيل كلينتون خائباً وهو يلقي نظرة على فرصة ضائعة في أحد رفوف التاريخ كصانع للسلام، ومجيء الرئيس بوش الابن خالي الوفاض من أية فكرة يمكن ان تطفئ لهيب الانتفاضة من جهة وحث شارون على اتباع خطى باراك في أول عهده من جهة أخرى. أما الأزمة النفسية فتتجلى في عقدة الانتخابات التي أعيد فرز الأصوات فيها، ما أشاع تحسباً أن الرئيس القادم سيظل متعثراً تحيط به الشكوك النفسية التي أوجدتها ظروف الانتخاب، فضلاً عن عقدة فشل مشروع الأب الذي خرج منتصراً في الحرب لينهزم في الانتخابات. هذا هو بوش الابن وهو يوقع على قرار عاجل بقصف العراق لم يكن واضحاً للمراقبين أبداً ما هي المبررات اللازمة إذا كانت واشنطن بحاجة الى مبررات للخروج من الروتين المعتاد، وهو على شكل طلعات جوية فوق منطقتي الحظر في شمال العراق وجنوبه وقصف أهداف مدنية أو عسكرية مهمة أو غير مهمة بين حين وآخر، الى التصعيد بمشاركة أكثر من خمسين طائرة وعلى مدى ساعتين في قصف أهداف لم تتضح أهميتها حتى الآن. التغطية الأميركية للقصف هي الأخرى مثيرة للجدل. فإذا كانت الغارات روتينية فلماذا قطعت البرامج وتم تخصيص نقل مباشر للقصف وما نتج منه وتخصيص البنتاغون مؤتمراً صحافياً عن الغارات وإلقاء بوش كلمة خاصة عنها في مؤتمره الصحافي مع الرئيس المكسيكي فوكس؟ كانت هناك حاجة أميركية ملحة تكمن وراء القصف عبّر عنها الاخراج الإعلامي الأميركي نفسه. دفاع عن النفس! بهذا وصفت الغارات من جانب لندنوواشنطن. وهذا يعني ان المقاومات الأرضية العراقية ما كان يجب ان تتصدى لطلعات الطيران الأميركية والبريطانية الروتينية لأن ليس لها حق الدفاع عن النفس. لكن المقاومات الأرضية العراقية أيضاً كانت جزءاً من روتين استمر أكثر من عامين لم يستطع اسقاط طائرة واحدة تحقق أمل الرئيس العراقي بصيد ثمين هو عبارة عن طيار أميركي أو بريطاني يقلب موازين القوى عن طريق قلب الرأي العام البريطاني والأميركي ضد الطلعات الجوية والغارات. هل كانت الغارات حسماً للخلاف الذي يمكن أن يطول أمده بين فريقين، أحدهما يمثله الرئيس ونائبه ووزير دفاعه يؤيد استخدام القوة ضد العراق وبين الخارجية وبعض الكونغرس الذي يسعى الى حل من نوع ما؟ هذا ممكن. ومن الممكن أيضاً ان الإدارة الأميركية الجديدة استعجلت الظهور دولياً لو كانت بمظهر المعتدي السافر. ولكن دعونا من ذلك ولنتحقق مما يأتي: هل هذه السياسة تكتيكية أم استراتيجية؟ وهل هي استفزاز مقصود لمشاعر العرب وتأليب للرأي العام العربي ضد حكوماته التي تباينت ردود فعلها وتحرجت من ابداء مواقف صريحة وواضحة؟ وهل هي حجب الأنظار عن تطورات يمكن رئيس الوزراء الإسرائيلي المنتخب آرييل شارون الإقدام عليها ضد الفلسطينيين؟ بعيداً من الوضع العراقي تشهد بعض دول المنطقة تغيرات صغيرة وبطيئة، ولكنها ملحوظة ومفيدة، باتجاه الاستقرار السياسي لتلك البلدان عن طريق توسيع هامش المشاركة السياسية والأخذ بأساليب شبه برلمانية أو مؤسساتية خجولة. ويأتي التصعيد الأميركي الأخير ليهدد مثل هذه التغيرات من التحول الى تيار متطور. وعلى الجانب الآخر، أي جانب المعارضة العراقية الممثلة بأحزاب وشخصيات وتيارات، هل يمكن اتجاهاً منعزلاً صغيراً ممثلاً بالمؤتمر الوطني العراقي وبشخصية نافذة فيه، ان يكون شرعية عراقية لعمليات القتل والتدمير والقصف الأميركي - البريطاني؟ مبدئياً، وحتى عملياً، لا يمكن قبول القصف باعتباره تمهيداً لاسقاط صدام حسين. وحتى لو توقعنا تسخيناً في تعبئة المؤتمر الوطني واعداده لاسقاط صدام حسين. فإن هذا الأسلوب المرفوض عراقياً لا يمت الى الواقعية بصلة، لسبب بسيط هو ان اسلوب حرب العصابات أو التخريب والتفجير في وسط مدينة بغداد سيزيد من الإجراءات الأمنية القمعية للنظام وبالتالي سيضيف الى معاناة العراقيين فصلاً جديداً هم في غنى عنه. إذاً، ماذا يعني القصف الأخير لضواحي بغداد؟ انه جزء من استراتيجية القوة الأميركية التي تبحث عن أماكن اختبار وتنفيس لها تتوافر في التهديدات المجانية والحمقاء التي يطلقها النظام العراقي ضد جيرانه. وهذه الاستراتيجية هي ابراز المظهر على الدوام للحفاظ على المصالح الدائمة والمستمرة. وبالطبع لا يمكن تصديق اطروحة الاستقرار في المنطقة على انها مصلحة أميركية. على العكس، فإن التوتر المستمر يتيح للمصالح ان تستمر. والرئيس العراقي يدرك في المناسبة، هذه الفكرة، ولذلك يرسل الإشارات الى واشنطن بين فترة وأخرى. فسياسة البحث عن عدو وهمي من مرتكزات استمرار النظام وليس الاستقرار. وإذا لم يكن هناك عدو للنظام العراقي في شكل مقصود فإنه سيخلقه باختيار عشوائي. وهذا أيضاً تدركه الولاياتالمتحدة وتعمل على أساسه. وليس مصادفة أن يأتي تأهيل النظام العراقي كخطر يهدد اسرائيل من اسرائيل ذاتها التي تشير قبل كل أزمة أو في أثنائها الى خطر تحرك عسكري باتجاه اسرائيل. والنتيجة هي ان الرئيس العراقي أكثر قومية من الجميع، وها هي الجماهير الفلسطينية في الأراضي المحتلة والأردن ترفع صوره كما لم ترفع من قبل صور جمال عبدالناصر في ذروة المد القومي. هو الذي سيحرر فلسطين. هذا ما صار يعتقده كثير من العرب جراء استخدامه الأزمة مع واشنطن استخداماً عاطفياً يدير فيه دفة الصراع الى تل أبيب وينادي بالقدس التي خرج اليها مرتين عن طريق الخطأ ولم يجدها: مرة عن طريق ايران ومرة أخرى عن طريق الكويت، هي التي لا تقع في الشرق ولا في الجنوب، وانما باتجاه العراق غرباً. لكن ذلك التدوير يخدم السياسة الإسرائيلية المتشددة لكي تتشدد أكثر، ولكي تمعن في تسليح ذاتها كاسبارطة ضد اسبارطة. ومن الممكن ان تدفع المترددين في الاشتراك في حكومة وحدة وطنية شارونية الى الاسراع بتشكيلها والتخطيط لقمع الانتفاضة الفلسطينية وذبحها في تصاعد لهيب القصف الأميركي والتهديد بالرد العراقي. إذا كان القصف الأميركي على العراق مداناً ومرفوضاً، فإنه، أكثر من ذلك، يثير موجات عاطفية وايديولوجية عالية تعقد الأزمة تعقيداً عميقاً يذهب الى حد تحوله وسيلة تكريس قوية لنظام صدام حسين والالتفاف العربي حوله وتحويل ردود فعله ضد الشعب العراقي. طبعاً ليس هناك غباء أو ذكاء في طريقة التعامل الأميركي مع نظام صدام حسين. هناك مصالح واحتياجات اميركية تغيب عن عواطف وتحليلات المعارضين وغيرهم. كما تغيب عن التفكير الأميركي بمصالح العرب. القصف بالتأكيد سيؤجل البحث في امكان رفع الحصار عن العراق، وهو الذي أصبح مطلباً انسانياً عالمياً. واستمرار الحصار في الواقع يتيح لنظام صدام تشديد قبضته الأمنية عن طريق التحكم بالبطاقة التموينية. الحصار بلا جدال يثبت منذ عشرة أعوام انه وسيلة أمنية بيد النظام. فالولاياتالمتحدة تعرف بالتأكيد ان النظام العراقي استخدم سياسة الترويع والتجويع في مرحلة الطفرة النفطية في السبعينات. فمع ان العراق كان غنياً يستورد من كل دول العالم ويبعثر الثروات هنا وهناك، على أنظمة وحركات وأحزاب سياسية ويمول حملات انتخابية في أوروبا وآسيا وأفريقيا، كان المواطن العراقي يقف في طوابير طويلة ليحصل على 16 بيضة كل أسبوعين وعلى دجاجة مجمدة كل ثلاثة أسابيع، وربما يحصل على الفاكهة كل اربعاء إذا كان يقف في مقدم الطوابير على أبواب مصلحة الفواكه والخضر التي تعلن نفاد البضاعة بعد ستة أو سبعة مستلمين، فضلاً عن أزمات النقل التي تضطر الموظفين والمعلمين والجنود الى اللحاق بكل سيارة نقل أكثر من مئة متر، فربما توقفت بعيداً من الحشد الضخم الواقف بانتظارها ليصل الى مكان عمله، في مشهد يبدو كارثياً لا كرامة فيه لمواطن. هذا فضلاً عن أزمة السكن التي تفاقمت في شكل رهيب حقاً وأزمات المواد الاحتياطية للسيارات وأزمات الأثاث ومواد البناء من خشب وحديد. انه نظام الأزمات من دون منازع في وقت الرخاء المالي ومن دون حصار، فكيف به في ظل العقوبات الاقتصادية المفروضة منذ عشر سنوات؟ الحصار أسقط الشعب العراقي في الجوع والمرض والتخلف والأزمات النفسية والصحية والأخلاقية، لكنه أسقط الولاياتالمتحدة في حضيض أخلاقي سيذكره التاريخ على انه قدرة واشنطن على ممارسة الابادة الجماعية بدم بارد. هل هناك من تحليل آخر؟ نعم. فإذا كانت العقد النفسية تخص الحكام الأفراد في الدول الديكتاتورية فإنها يمكن ان تنسحب على الحكام في الأنظمة الديموقراطية حتى لو كانت هناك مؤسسات متعددة للقرار. فالقرار الذي وقعه بوش بقصف العراق يوم الأربعاء وتم تنفيذه الخميس يمكن ان يكون تحكمت به، الى جانب مصالح واشنطن الحيوية، عقدة بوش الابن النفسية الناتجة من عداوة أبيه لصدام، وقد ورثها على الطريقة الشرقية، ويمكن ان تكلف العراق الكثير بصدام أو من دونه. * كاتب عراقي مقيم في بريطانيا.