تناولنا في الجزء الأول من هذا المقال مسؤولية الإدارة الأميركية في فشل العملية السلمية، ونركّز هنا على مسؤوليات إسرائيل والسلطة الفلسطينية والقيادات العربية لنستخلص أن الطرف القوي في هذه المعادلة وجد في المفاوضات فرصة تاريخية لفرض الإستسلام على العرب وهم في أسوأ حالاتهم، وأن الطرف الضعيف المتمثل بالسلطة الفلسطينية والقيادات العربية توصّل إلى قناعة داخلية بأفضلية اللجوء الى أميركا علّها تمارس ضغطاً على إسرائيل للحصول على الممكن بدلاً من سلوك سياسة الرفض التي أدّت إلى مزيد من الخسائر. لنقتنص، قالت القيادات العربية، هذه الفرصة فلم يعد لنا في واقع الأمر خيارٌ غير هذا الخيار، ولننصرف إلى شؤوننا الخاصة ونتدبّر أمورنا الدنيوية. ما هي مسؤولية إسرائيل في فشل العملية السلمية؟ إذا كان هناك من سبب عام فهو أن إسرائيل لم تتوصّل حقاً الى قناعة بأنه آن الأوان لرفع الظلم عن الفلسطينيين والإعتراف بما إرتكبته بحقهم من مظالم تُسيء الى سمعة اليهود عالمياً، وترسّخ الصهيونية على أنها حركة عنصرية واستيطانية في زمن بدأت تنهار فيه قلاع الإستعمار. بدلاً من الاقتناع بضرورة إجراء مصالحة تاريخية مع الفلسطينيين والعرب، إتبعت إسرائيل سياسة اقتناص هذه الفرصة لإخضاع العرب نهائياً مستفيدة من انهيار الاتحاد السوفياتي، وحرب الخليج الأولى والثانية، والخلافات العربية، وطبعاً نفوذها القوي في الولاياتالمتحدة في المجالات كافة. تحديداً، إتبعت في مفاوضاتها مع السلطة الفلسطينية وبقية الأطراف العربية المعنية سياسة تأجيلية وتدرجية فعمدت إلى: أولاً ، إلهاءالسلطة الفلسطينية بمفاوضات حول أمور جانبية وتفصيلية وأمنية مُصرِّة بعقلية تلمودية على تأجيل البحث في القضايا الأساسية لمرحلة متأخرة فأدخلتها في متاهات النقاشات العقيمة. حلّت الرموز الوهمية مكان الواقع وقيس التقدم لا بما يحصل على الأرض بل بالتصريحات والإحتفالات الفارغة. هذا ما ظهر من خلال الاحتفال المنقطع النظير بالتوقيع على اتفاق أوسلو في البيت الأبيض. وأصبح التقدم يعني ان ينال عرفات وشيمون بيريز جائزة نوبل للسلام قبل تحقيق أي سلام، الأمر الذي لم يمنع الأخير من إرتكاب مذبحة قانا كي يتمكّن من الفوز بالانتخابات. ثانياً، تمكّنت إسرائيل من ان تمنع دَوْلَنة الحل السلمي بإبعاد الأممالمتحدة وروسيا وأوروبا، فاقتصرت رعاية العملية السلمية على الإدارة الأميركية التي هي طرف في النزاع أكثر منها حَكَمٍ حيادي، فلم يعد من الممكن التمييز بين الفريق الأميركي والفريق الإسرائيلي وأصبح العرب يتفاوضون مع تنين مزدوج الرأس. ثالثاً، لا تزال إسرائيل تعيش بأحلام ما قبل التاريخ وتستخفّ بأحلام الفلسطينيين وطموحاتهم في الزمن الحاضر، مستخدمة الدين والله كما لو كان إلهاً قبلياً يميّز بين مخلوقاته. زيّفت التاريخ متناسية أن فلسطين كانت دائماً مجتمعاً تعدّدياً شكّل اليهود فيه - كما يتضح من التوراة نفسها - أقلية من الأقليات في مختلف الحقبات التاريخية. رابعاً، بعدما مرّ عقدٌ من الزمن على المفاوضات غير المجدية لم تعترف إسرائيل بأن الضفة أرض محتلة، فتتصرّف كأنها أرض مُتنازع عليها وكما لو أنها تتصدّق على الفلسطينيين بأرض ورثتها عن أجدادها. خامساً، انتهجت إسرائيل في ظلّ قيادة العمل وليكود سياسة بناء المزيد من المستوطنات في مواقع استراتيجية تمنع قيام دولة فلسطينية وتؤدي إلى محاصرة المدن والقرى الفلسطينية وعزلها عن بعضها بعضاً. سادساً، لم يحدّ تفوق إسرائيل العسكري من إصرارها على أمنها الخاص من دون أي إعتبار لمتطلبات الأمن الفلسطيني والأمن العربي. سابعاً، تراوحت السياسة الاستراتيجية لدى إسرائيل في علاقتها بالفلسطينيين بين سياسة القول بالفصل separation أوبالشراكة partnership فيما تمارس هي الهيمنة الكلية والشاملة على حياة الفلسطينيين. ثامناً، تسمّي إسرائيل العنف الفلسطيني إرهاباً فيما تسمي عنفها بما فيه ممارسة الإغتيال السياسي إجراءات أمنية للدفاع عن النفس. بسبب هذه السياسة السلبية اقتصر التفاوض على البحث في التفاصيل، من دون إهتمام جديّ بالقضايا الكبرى. هذا ما لا تريد إسرائيل حالياً البحث فيه إلا شكلياً، فتصرّ على الإحتفاظ بالمستوطنات تحت سيادة إسرائيلية، ورفض حق اللاجئين في العودة وحق تقرير المصير وحق السيادة على القدس العربية والحرم الشريف. ولذلك لم يكن من الغريب خلال مفاوضات تموز يوليو الماضي في كامب ديفيد أن تدخل إسرائيل مفاهيم وتحديدات جديدة مبهمة، فقالت بالموافقة على سيادة فلسطينية "رأسية" أو عمودية vertical Sovernighty على الأحياء العربية في القدس تبدأ من سطح الأرض حتى السماء، بينما تظل السيادة تحت الأرض لإسرائيل. ليس من الغريب في ظل هذه السياسة ان تظلّ إسرائيل تُجمع على رفض حق عودة اللاجئين. بالنسبة الى هذا الموضوع الأخير، يقول قادة الحمائم كبيريز وساريد وبيلين وعاموس أوز ان إقرار حق عودة اللاجئين نوع من الانتحار الذاتي. وكتب الأخير في مقال نشرته "نيويورك تايمز" بتاريخ 6/1/1..2 ان تنفيذ حق العودة يعني إلغاء حق اليهود في تقرير المصير. وليس من الغريب في ظل هذه السياسة أن يحكم القضاء الاسرائيلي في الوقت الذي أكتب هذا المقال على مستوطن يهودي ستة أشهر خدمات إجتماعية عقاباً لقتله عمداً طفلاً فلسطينياً عمره 11 عاماً برفسه حتى الموت، قبل أربع سنوات. هذا هو مفهوم اسرائيل لاحترام حياة الفلسطيني حتى في زمن البحث عن سلم نهائي. وإذا كانت العنصرية الإسرائيلية على هذا المستوى من التخلُّف، هل يمكن ان يتحقق سلام ما مهما كان متواضعا؟ ثم ما هي مسؤولية السلطة الفلسطينية؟ إنه سؤال لا بدّ منه، فالنقد الذاتي ضرورة كما نقد الآخر. لقد سمحت لنفسها، من دون العودة الى شعبها ومن حيث تدري أو لا تدري، بأن تشارك في عملية تسويفيّة أوهمت الكثير من الفلسطينيين والعرب بأن هناك حلاً عادلاً في نهاية المطاف. واستمرّتْ في التفاوض من دون أن تكون لديها أية ضمانات بالحصول على أدنى المطالب الفلسطينية فارتكبت الأخطاء التالية: أولاً، تنازلت مسبقاً في العام 1988عن فلسطين حين قبلت 22 $ من أرضها فقط، متخلّية عن أهم أوراق التفاوض. وقبلت، إضافة الى ذلك، ان تدخل في لعبة السلام من دون تحديد لنهاية المطاف والنتائج الأخيرة المرتقبة. وقيل في تبرير هذا التوجّه انها تفاوض من موقع الضعف فلا خيار لها سوى القبول بما قد تحصل عليه. بل قيل أن القيادة الفلسطينية دخلت المفاوضات من الخارج تخوفاً من انبثاق قيادة بديلة في الداخل أثناء الانتفاضة الأولى. ثانياً، قبلت السلطة الفلسطينية الاستمرار في المفاوضات برعاية أميركا وحدها بعدما منعت هي وإسرائيل دَوْلَنة أو تدويل الحلّ السلمي بإبعاد الأممالمتحدة وروسيا وأوروبا وحصر رعاية العملية السلمية بالإدارة الأميركية. بل قبلت أن تدخل في نقاشات لا نهاية لها حول الجزئيات والتفاصيل والهوامش تاركة القضايا الأساسية معلّقة. بكلام آخر، وبكثير من البراءة وحسن النية والثقة العمياء، دخلت السلطة الفلسطينية في لعبة التفاوض الجانبي زمناً طويلاً من دون أي وعد بشأن الأهداف النهائية التي بدونها لن تقوم دولة فلسطينية قابلة للحياة. بل أنها قبلت ان تتفاوض لعقد من الزمن من دون اعتراف رسمي من إسرائيل بحق قيام الدولة الفلسطينية. ثالثاً، استمرت السلطة الفلسطينية في التفاوض مع انها تعرف أن أي اتفاق قد تحصل عليه سيبقي الفلسطينيين اقتصادياً وسياسياً وأمنياً في حال حصار وتحت رحمة إسرائيل. رابعاً، رضخت السلطة للضغط الأميركي والإسرائيلي في مجالات التعاون الأمني فمارست القمع على شعبها وكانت سلطوية مستبدة كأي حكم عسكري عربي آخر. وكالعادة، إقترن الاستبداد بإنتشار الفساد والتمييز. تصرّف أهل السلطة كما لو أنهم حقّقوا أهدافهم فجاء وقت التمتُّع بانجازاتهم الباهرة تعويضاً عن تضحياتهم السابقة. وبهذا إنتشر قبل قيام الدولة بناء ال "فيلات" الفخمة والبذخ وسط فقر الناس. وها هي السلطة عادت الى التفاوض في طابا في الوقت الذي تعرف ان العملية السلمية مجرد سراب. ربما شُبِّه لهم أن رأوا سراباً فطاردوه ولا تزال المطاردة جارية من دون أن تجدي. ويبدو في ظل القيادة الفلسطينية الحالية ان لا خيار غير متابعة التفاوض رغم الاعتراف بالفجوات العميقة والواسعة في الرؤية والمفاهيم والمصالح والأهداف النهائية. وإذا ما تمّ التوصل الى أي تسوية، فستكون تسوية جزئية على حساب الطرف الضعيف وقيادته الهزيلة وفي ظلّ تخلي القيادات العربية عن مسؤولياتها التاريخية. وما هي أخيراً مسؤوليات القيادات العربية؟ تساءل استاذ جامعي في جامعة قطر لماذا تراهن أميركا على ملايين قليلة من اليهود ضد بليون مسلم، وعلى دولة واحدة ضد عشرين دولة عربية ذات أسواق وموارد كبيرة واشنطن بوست في 19/11/2000؟ السؤال الذي يجب أن يطرح هنا هو: كيف لا تستمر أميركا في دعم إسرائيل طالما أن القيادات العربية والمسلمة لا تسمح لأي خلاف بأن يؤثر في علاقتها الودية مع أميركا، وطالما انهم يعتبرون أنفسهم في حاجة لأميركا أكثر مما هي بحاجة اليهم؟ جواباً عن هذا التساؤلات نقول أنه ما أن دخلت السلطة الفلسطينية في متاهة التفاوض حتى ترك لها القادة العرب حرية التصرف فتحرّروا من مسؤولية القضية الفلسطينية. ولسنوات عديدة، قاومت القيادات العربية فكرة عقد قمة بحجة أنه من غير الممكن التوصُّل الى أي إجماع عربي، وأقرب إجماع وصلت اليه هو إعطاء عرفات المظلة التي يحتاج اليها. تتجاهل القيادات العربية مشاعر شعوبها بقدر ما تتجاوب مع الضغوط الأميركية. ومن هنا ميلها الى الدعوة إلى تهدئة الأمور وضبط الأعصاب. وإذا كان هنا ما يمكن تسميته إجماع القيادات العربية فهو شبه إجماع على التسليم والرضوخ للضغط الأميركي، لا الإجماع على الصمود والتجاوب مع مشاعر الشعوب. تريد الحكومات العربية، ورجال الأعمال من ورائها، ان يكون الوطن العربي جزءاً من منطقة الشرق الأوسط للتجارة الحرة المرتبطة بالنظام العالمي. ولذلك تُصنّف مصر بأنها تحتل موقع 33 أكبر سوق إستيراد للبضائع الأميركية. لقد بلغت قيمة واردات مصر إلى الولاياتالمتحدة 617 مليون دولار في عام 1999بينما بلغت واردات أميركا إلى مصر ثلاثة بلايين دولار واشنطن بوست 5/8/00 . * * * إذا ما أخذنا بهذه الصورة العامة للوضع العربي والإقليمي والعالمي، قد لا نستغرب لماذا فشلت المفاوضات في التوصّل الى حلّ شامل وعادل. ما أن اعلن فشل مفاوضات كامب ديفيد بين باراك وعرفات برعاية كلينتون بين 11- 24 تموز يوليو من العام الماضي، حتى تبيّن ان العملية السلمية تسير في طريقها إلى الفشل أكثر مما تسير في طريق التسوية. وكان أن عقد كلينتون مؤتمراً صحافياً إثر مفاوضات كامب ديفيد قال فيه: "بعد 14 يوماً من المفاوضات المكثفة بين الاسرائيليين والفلسطينيين، إستنتجتُ بأسف انهم لن يتمكّنوا من التوصُّل الى اتفاق في هذا الوقت... لقد أظهر باراك شجاعة متميِّزة، ورؤية وتفهماً لأهمية هذه اللحظة التاريخية". وبذلك حمّل عرفات مسؤولية فشل مفاوضات كامب ديفيد الأخيرة. وفي هذه الأجواء، دعت "فتح" الى إضرابات عامة كما رحّب الشيخ أحمد ياسين بصمود عرفات، ما عننى إحتمال قيام تضامن فلسطيني بعد سنوات من الانقسامات الحادة. وكان ان بدأت الإنتفاضة الثانية، كأنما التنين بحاجة دائمة الى ضحاياه من أطفال شعب الفلسطيني. * كاتب وإستاذ في جامعة جورجتاون - واشنطن.