طرحت مفاوضات الوضع النهائي بشكل غير مباشر، وعبر قضية اللاجئين، المسألة الفلسطينية برمتها، وأظهرت قصور الحلّ الجزئي، عن تسوية كل عناصرها المتداخلة والمعقدة. كما كشفت أن صراع الشعب الفلسطيني ضد المشروع الصهيوني هو صراع من طبائع مختلفة، تختلف باختلاف مواقع ومعطيات كل جزء من أجزاء هذا الشعب الممزق. فصراع فلسطينيي الشتات هو صراع من أجل الوجود، في حين ان صراع فلسطينيي الأرض المحتلة هو صراع من أجل إنهاء الاحتلال وتقرير المصير، بينما صراع عرب إسرائيل هو صراع من أجل حق المواطنة والقضاء على الطابع العنصري والطائفي للدولة العبرية، ومن أجل احتفاظهم بهويتهم الثقافية والحضارية كأقلية قومية. ونظراً لكل ذلك فإن كفاح الشعب الفلسطيني لا يهدف فحسب الى إنهاء الاحتلال وإقامة وطن قومي للفلسطينيين، وإنما يهدف أيضاً لاستعادة فلسطينيي الشتات حقوقهم في الأراضي التي باتت تحت سيادة الدولة العبرية. ونعتقد أن الأزمة غير المسبوقة التي تعيشها الطبقة السياسية وقطاعات واسعة من النخبة في إسرائيل، هي بداية وعي جنيني بانحلال الإيديولوجيا بعد تحققها في الدولة. إلا أن هذا الوعي ما كان ليظهر لولا الهزائم المتلاحقة التي مني بها المشروع الصهيوني، والتي أثبتت تهافت طروحاته الإيديولوجية وخواء الميثولوجيا التي تأسس عليها. ولعل المهم أن نشير في هذا الصدد الى أن السر في حيوية الإيديولوجيا الصهيونية، وفي استمرار هيمنتها على الكل الاجتماعي على رغم مرور نصف قرن من قيام الدولة العبرية، إنما يعزى الى سببين رئيسيين: أولهما أن ولادة الدولة العبرية كانت ولادة غير طبيعية. فهي تعاني ومنذ البدء عقدة الشرعية، وتعيش تحت وطأة الخوف. وثانيهما إن الدولة العبرية تعتبر نفسها مشروعاً لم يكتمل لأن اكتماله رهن بتحقيق أهداف المشروع الصهيوني وهو إحياء دولة إسرائيل التوراتية. إلا أن حركة التحرر الوطني الفلسطيني أجبرت الدولة العبرية في نهاية المطاف على الاعتراف بوجود الشعب الفلسطيني والإقرار بحقه في بناء "وطنه القومي". وهكذا نجح الكفاح الفلسطيني في دقّ الإسفين الأول في جدار المشروع الصهيوني. وهذا الكسب الذي حقق أو هو بصدد تحقيقه يعدّ إنجازاً تاريخياً ذا أهمية استراتيجية قصوى. وفي هذا الإطار تحديداً يتنزّل عرض مقايضة "السيادة على الحرم القدسي" بإسقاط حق العودة إلا ان الموقف الإسرائيلي لم ينضج بعد، فما تزال إسرائيل تتمسك ببعض المطالب التي من شأنها اختراق الموقف الفلسطيني والعودة بأسلوب أكثر التواء لفكرة السيادة المشتركة. والمفارقة ان أكبر سند لمعسكر السلام الإسرائيلي هو المقاومة الفلسطينية، فالانتفاضة الأولى ساعدت على ميلاد وتنامي هذا المعسكر والإعلان عن هويته ومعركة السلام الحالية بكل تعقيداتها قد تساعده على الوصول الى مرحلة الرشد، وعلى الاقتناع بأن المصالح العليا لإسرائيل لن تتحقق بمحاولة احتواء القضية الفلسطينية وإنّما بالإقدام على "الحل الوسط" الذي يسعى إليه الفلسطينيون. إن السؤال الحاسم الذي تنبغي الإجابة عنه من دون تشنجات عاطفية هو هل أن هذه صفقة رابحة بالنسبة للجانب الفلسطيني؟ الجواب هو بنعم ولا في الآن ذاته. لا: لأن مبادئ العدل والحقّ لا تجيز تجريد السواء الأعظم من الشعب الفلسطيني من هويته الوطنية، وحرمانه وإلى الأبد من العودة الى وطنه، ولأن القبول بهذه الصفقة يمثل انتهاكاً لقرارات الشرعية الدولية التي كفلت هذا الحق. ومن الناحية العملية فإن قضية اللاجئين هي أيضاً قضية البلدان المضيفة التي ترفض التوطين لعدّة أسباب ليس أقلها رفض مكافأة إسرائيل عن هذه الجريمة ومساعدتها على التخلص من عقدة الشرعية وهاجس الخوف. إلا أن الواقعية السياسية تحمل على الاعتقاد بأن المقابل الذي سيحصل عليه الفلسطينيون سيكون مجزياً إذا أخذنا في الاعتبار أن ليس بإمكانهم راهناً تحقيق كل رغباتهم الوطنية، وأن الدرس الذي تعلموه من تاريخهم سيحملهم على رفض العودة الى سياسة "رفض الجزء من أجل الكل". لكن تغليب منطق الواقعية السياسية على جوانب منطق العدل وفكرة القيمة التي حكمت التاريخ الفلسطيني، ليس بالأمر الهيّن. وهذا منشأ الصعوبة التي تواجه القيادة الفلسطينية في هذه اللحظة التاريخية الحاسمة لأن أي حلّ سيدوس بشكل أم بآخر فكرة القيمة وسيكون بالضرورة دون ما يطمح إليه الفلسطينيون. إلا أن ما سيبرّر ارتكاب هذا المحظور هو ان التسوية السلمية لم تكن خياراً لا فلسطينياً ولا إسرائيلياً وإنما هي ضرورة فرضها عجز كل منهما عن إلغاء نقيضه. ساعة الحقيقة التي يتعين فيها الكشف عن التضحيات التي لا مناص من الإقدام عليها. ومن ثمّ فإن القيادة الفلسطينية تواجه مأزقاً لا يختلف في طبيعته عن المأزق الذي تواجهه إسرائيل، فكلاهما عليه التضحية بالقيمة، لأنها السبيل الوحيد الذي يتيح لأن تتسع أرض فلسطين لوطنين وقوميتين ودولتين، وهو الشرط الوحيد الكفيل راهناً على الأقل، بتحقيق السلام. ولعلّ ما ينبغي التأكيد عليه في هذا السياق، والذي قد يزعج، هو أن منظمة التحرير الفلسطينية قد أسقطت "مبدئياً" و"ضمنياً" حق العودة من زمان، أسقطته منذ أن قبلت بقراري 242 و338 أساساً لحلّ القضية الفلسطينية، لأن اعترافها بوجود وشرعية الدولة العبرية، هو إقرار ضمني من الجانب الفلسطيني بأن هذا الحق تحوّل الى حلم يستحيل تحقيقه. لا جدال ان السلطة الفلسطينية والحكومات العربية والمعارضة الفلسطينية ذاتها، إذا وضعنا المزايدة جانباً، واعية تمام الوعي هذه الحقيقة. ولا يساورها الوهم بأن ما عجز عن تحقيقه العرب والفلسطينيون بالحروب وبالكفاح المسلح طيلة نصف قرن سيتمكن من تحقيقه المفاوض الفلسطيني أو الانتفاضة. ومن ثمّ فإنّ قدر فلسطينيي الشتات هو أن يكون مشروعهم على غرار المشروع الصهيوني، ألاّ يتخلوا عن هويتهم، وأن يمارسوا الأدوار نفسها التي تمارسها الحركة الصهيونية العالمية، أي أن يتحولوا كما هو شأنها الى رافد وعمق استراتيجي للدولة الفلسطينية الناشئة لأن المعركة بين المشروع الصهيوني والمشروع الفلسطيني ستتواصل وإن بأشكال اخرى. لا شكّ أن أي حل سيكون بمنطق العدل حلاً مجحفاً بالنسبة للفلسطينيين. لكن من الوجهة الواقعية والموضوعية فإنّ حلاً وسطاً من هذا القبيل لا يخلو من توازن ومعقولية. فالجانب الفلسطيني سيضحي بأصل قضيته مقابل وطن قومي للفلسطينيين والحفاظ على الهوية العربية الإسلامية للقدس، عنوان الشرعية التاريخية. والجانب الإسرائيلي سيضحي بالمقدّس وبفكرة الحق التاريخي مقابل إضفاء الشرعية الفلسطينية على الدولة العبرية والحفاظ على طابعها اليهودي. *كاتب وصحافي تونسي.