الحنين إلى الدار والعودة إليها فكرة متأصلة في الوجدان الشعبي الفلسطيني، وما انفك الفلسطينيون في المنافي يعبرون عنها في مواويلهم وأغانيهم وأمثالهم وحكاياتهم الشعبية. وقد ظلت طوال العقود الخمسة الماضية التي أعقبت النكبة، القوة المحركة للنضال الفلسطيني المعاصر، حتى أن المجلس الوطني الفلسطيني الأول الذي انعقد في القدس عام 1964 قرر استخدام كلمة "عائدون" بدلاً من "لاجئون" في وصفه الفلسطينيين المقتلعين من وطنهم. وسنناقش هذه الدراسة تغيرات موقف منظمة التحرير الفلسطينية وتبدلاته من قضية العودة منذ تأسيسها عام 1964، وحتى انخراطها في مفاوضات السلام بعد مدريد 1991 وأوسلو 1993، وما أعقبهما من تطورات. يظل القرار الرقم 194 الصادر عن الجمعية العمومية للأمم المتحدة في دورتها الثالثة، في 11-12- 1948 النص الأول بين مجمل النصوص التي تبنتها الأممالمتحدة في شأن القضية الفلسطينية، الذي يتعامل مع حق الفلسطينيين في العودة ويوفر الأساس القانوني لهذا الحق، على رغم المكانة الملتبسة لهذا القرار الذي تنصّ الفقرة ال11 منه على ما يأتي: "تقرر أي الجمعية العمومية وجوب السماح بالعودة في أقرب وقت ممكن، للاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم والعيش بسلام مع جيرانهم، ووجوب دفع تعويضات عن ممتلكات الذين يقررون عدم العودة إلى ديارهم وعن فقدان الممتلكات أو الضرر اللاحق بها، وفقاً لمبادئ القانون الدولي والإنصاف، وذلك من قبل الحكومات أو السلطات المسؤولة". والمعلوم أن هذا القرار لم يطبق قط، على رغم الجهود الحثيثة التي بذلتها لجنة التوفيق الدولية في شأن فلسطين، خصوصاً في السنوات الثلاث الأولى من إنشائها، أي حتى أواخر العام 1951 إلا أن الجمعية العمومية جددت في كل من دوراتها وفي انتظام، باستثناء العام 1951، تأكيد القرار 194. وأعربت عن أسفها لعدم تطبيقه. وهكذا لم يعد القرار 194 الوحيد الذي يتعامل مع حق العودة، بل ان هناك قرارات متقدمة أصدرتها الجمعية العمومية للأمم المتحدة لتأكيد حق العودة المنصوص عليه في هذا القرار، وربطه بحق تقرير المصير بالنسبة إلى الشعب الفلسطيني. وقد تبنّت الجمعية العمومية وبصيغ مشابهة نحو 49 قراراً يمكن تصنيفها ضمن سلالة القرار 194. تعرض موقف منظمة التحرير الفلسطينية من قضية العودة لتحولات حاسمة منذ انعقاد أول مجلس وطني فلسطيني في القدس عام 1964، حتى يومنا الحاضر. وتبعاً لذلك تعرضت المكانة المركزية لهذه القضية في النضال الفلسطيني المعاصر للاهتزاز. وتم ذلك في سياق محاولات المنظمة التأقلم مع موازين القوى والتكيف مع الاشتراطات العربية والدولية في مجال القضية الفلسطينية. 1- من التأسيس حتى البرنامج المرحلي 1964 - 1974: لم تنفصل قضية العودة عن هدف تحرير التراب الفلسطيني كاملاً منذ تأسيس المنظمة عام 1964 إلى أن أمر المجلس الوطني الفلسطيني في دورته الثانية عشرة 18-6-1974 ما عرف بالبرنامج السياسي المرحلي أو "برنامج النقاط العشر" أو "برنامج السلطة الوطنية" الذي يعتبر نقطة تحول حاسمة في التفكير السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية. وإلى ذلك الحين كانت العودة محصِّلة طبيعية لفعل التحرير الكامل وغير المنقوص عندما يتم. وقد أكدت نصوص الميثاق الوطني أنظر المواد من 1 إلى 3 أن فلسطين وطن الشعب العربي الفلسطيني، وأنه "صاحب الحق الشرعي في وطنه فلسطين بحدودها التي كانت قائمة في عهد الانتداب". وأكدت المادة التاسعة من الميثاق الوطني المنقح على أن "الكفاح المسلح هو الطريق الوحيد لتحرير فلسطين" وأكدت تصميم الشعب الفلسطيني على "تحرير وطنه والعودة إليه... وممارسة حق تقرير مصيره فيه والسيادة عليه". ولم تحد المنظمة قيد أنملة عن إيمانها بتحقيق العودة من خلال التحرير الكامل. وأكدت ذلك في مقررات الدورات المتعاقبة للمجلس الوطني الفلسطيني منذ تأسيس المنظمة عام 1964 وصولاً إلى الدورة الحادية عشرة 6-12-1973، التي دعت صراحة إلى "النضال ضد عقلية التسوية" وضد مشروعات "الكيانات أو الدولة الفلسطينة على جزء من أرض فلسطين". وفي هذا السياق يوضح رشيد الخالدي ان الفلسطينيين لم يكن لديهم في تلك الحقبة تفكير في الحلول الوسط أو الحلول الديبلوماسية، وأن "مقومات العودة، على ما يبدو، لم تكن ملحة في شكل خاص. 2- من البرنامج المرحلي إلى اعلان الاستقلال 1974 - 1988: في سياق التماثل مع الأوضاع العربية والدولية الناجمة عن الحرب العربية - الإسرائيلية في تشرين الاول أوكتوبر 1973 وما أعقبها من تطورات، تبنّت منظمة التحرير الفلسطينية عام 1974 "البرنامج السياسي المرحلي" الذي شكل نقطة انعطاف حاسمة في الفكر السياسي الفلسطيني، لجهة العلاقة بين الأهداف الاستراتيجية للحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة وأهدافها المرحلية التكتيكية، وطريقة إدارة الصراع مع إسرائيل والحركة الصهيونية. وفي شأن مسألة العودة، ورد في مقدمة برنامج النقاط العشر ذكر مصطلح "حق العودة" للمرة الأولى خارج السياق المعهود في مقررات المجالس السابقة. اذ أكدت المقدمة استحالة إقامة سلام دائم وعادل في المنطقة من دون استعادة الشعب الفلسطيني حقوقه الوطنية كاملة وفي مقدمها حقه في العودة وتقرير مصيره على ترابه الوطني كاملاً، من دون الإشارة إلى القرار 194، وقرارات الأممالمتحدة الأخرى ذات الصلة. وفي سياق هذه التطورات جاء رفض البرنامج المرحلي قرار مجلس الأمن الرقم 242 على أرضية أخرى جديدة غير الأرضية السابقة. فبعدما كانت المنظمة تعارض القرار المذكور جملة وتفصيلاً على أساس أنه يقوم على مبدأ "مبادلة الأرض بالسلام" وبالاعتراف لاسرائيل بحدود آمنة، عارضته في البرنامج المرحلي "على أساس" أنه "يطمس الحقوق الوطنية والقومية" للشعب الفلسطيني ويتعامل مع قضيته "كمشكلة لاجئين". وأكدت النقطة الأولى من البرنامج المرحلي على رفض منظمة التحرير الفلسطينية التعامل مع هذا القرار في "أي مستوى من مستويات التعامل العربية والدولية، بما في ذلك مؤتمر جنيف". وجاء هذا الرفض مشروطاً بعبارة "على هذا الأساس" المذكورة أعلاه. ثم جاء انعقاد الدورة التاسعة عشرة للمجلس الوطني الفلسطينيالجزائر، 15-11-1988 في ظل مناخات الانتفاضة التي كانت تفجرت في فلسطين أواخر العام 1987. وكانت مقرراتها تتويجاً منطقياً لنهج التيار الرئيسي في منظمة التحرير الفلسطينية في سعيه إلى اقامة "سلطة وطنية" أو "دولة فلسطينية" في الضفة الغربيةوغزة من خلال التوصل إلى تسوية إقليمية للصراع. وصدرت عن هذه الدورة وثيقتان أساسيتان هما: البيان السياسي وإعلان الاستقلال. واكدتا، كلتاهما، حق العودة وحل مشكلة اللاجئين في إطار قرارات الأممالمتحدة، وإن جاء هذا التأكيد أكثر وضوحاً في وثيقة الاستقلال التي ربطت حق العودة بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، مثل حقه في الاستقلال والسيادة على أرض وطنه. وفضلاً عن ذلك أكدت وثيقة الاستقلال حق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة استناداً إلى القرار 181 للعام 1947، واعتبرت انه لا يزال يوفر "مقومات الشرعية الدولية التي تؤكد حق الشعب الفلسطيني في السيادة والاستقلال الوطنيين". ولطالما رفضت منظمة التحرير الفلسطينية هذا القرار. من جهة أخرى لم تشر أي من الوثيقتين، من قريب أو بعيد، إلى القرار 194 كأساس قانوني لحق العودة. وبحسب رشيد الخالدي يشكل الموقف المتضمن في الوثيقتين في شأن حق العودة تغيراً مهماً قياساً إلى الدورة الثانية عشرة الجزائر، نيسان/ أبريل 1987. التي ذكرت حق العودة، من دون الإشارة إلى قرارات الأممالمتحدة. وهكذا تبدل الخطاب السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية ومن ضمنه مفهوم العودة تبدلاً جوهرياً على امتداد ربع قرن تقريباً 1964 - 1988 أي منذ انعقاد مؤتمر القدس الذي أقرّ الميثاق القومي الفلسطيني وحتى دورة المجلس الوطني التاسعة عشرة في الجزائر التي أقرت إعلان الاستقلال، مروراً بالدورة الثانية عشرة، التي تبنّت البرنامج السياسي المرحلي. وتحولت منظمة التحرير الفلسطينية وفق هذا الخطاب من "حركة تحرر وطني" للشعب الفلسطيني على التراب الفلسطيني كاملاً، إلى "حركة استقلال وطني" تسعى جاهدة عبر الشرعية الدولية إلى الحصول على "دويلة" أو كيان فلسطيني إلى جانب دولة إسرائيل، وتقبل بقرارات الأممالمتحدة أساساً لحق العودة، وإطاراً لحل مشكلة اللاجئين. وهذا التبدل في الفكر السياسي وفي الممارسة السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية، هو ما أهّلها للانخراط في مفاوضات السلام التي انطلقت من مدريد ولم تنتهِ بعد. 3- من مدريد إلى أوسلو وما بعد 1991 - حتى الوقت الحاضر: كما بيّنا سابقاً لم يكن انخراط منظمة التحرير الفلسطينية في مفاوضات السلام التي انطلقت في مدريد من دون مقدمات. فالتيار الرئيسي في المنظمة كان اتخذ قراره، ومنذ الدورة التاسعة عشرة، باستثمار الانتفاضة سياسياً لتحقيق ما سمي بهدفي الحرية والاستقلال، اقتناعاً منه أن الانتفاضة حولت مركز ثقل النضال الفلسطيني من خارج فلسطين إلى الداخل، ووفّرت قوة الدفع الذاتية لتطبيق البرنامج السياسي المرحلي المتضمن إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة. مؤتمر مدريد 31-10-1991: تمت الدعوة إلى مؤتمر مدريد على أساس القرارين الرقمين 242 و338 اللذين يعالجان نائج حربي 1967 و1973. ودعا القرار 242 إلى تحقيق تسوية عادلة لمشكلة الاجئين، من دون تحديد ماهية هؤلاء اللاجئين. وهذا ما فتح الباب لنشوء تفسيرين للقرار: الأول إسرائيلي، ويحصرهم بلاجئي العام 1967. والآخر عربي يشمل لاجئي العام 1948 والعام 1967 على حد سواء. لذا لا يتعامل هذان القراران مع الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني. وهكذا دخلت منظمة التحرير الفلسطينية المفاوضات على أرضية تغييب قرارات الشرعية الدولية التي تعترف بالشعب الفلسطيني، وبحقه في تقرير المصير وإقامة دولته المستقلة، بما في ذلك القرار 181 الذي استندت إليه المنظمة في إعلان الاستقلال، علماً أن الشرعية الدولة التي يمثلها هذا القرار تعتبر في وجهها الآخر شهادة ميلاد إسرائيل الوحيدة، على حد تقول وزير خارجية إسرائيل السابق أبا إيبان. وانبثقت من مؤتمر مدريد مجموعة عمل خاصة باللاجئين RWG في إطار المفاوضات المتعددة الأطراف، برئاسة كندا. إلاّ أن إسرائيل رفضت اعتماد القرار 194 مرجعية للبحث في مشكلة اللاجئين، وأصرت على أن ينحصر عمل مجموعة اللاجئين بالقضايا الإنسانية والتقنية. وهكذا كانت الحال في الاجتماعات اللاحقة. وظل الوفد الفلسطيني إلى تلك الاجتماعات - التي تتخذ قراراتها بالإجماع - يشير إلى القرار 194 في البيانات الختامية لمجموعة العمل، اذ أصبحت الإشارة إليه مجرد تقليد. رسائل الاعتراف المتبادلة وإعلان المبادئ: جاء توقيع رسائل الاعتراف المتبادلة بين ياسر عرفات واسحق رابين 9-9-1993 قبل أربعة أيام فقط من توقيع إعلان المبادئ. أي أن هذا الإعلان وقع تحت مظلة الرسائل، مما يضفي عليها طابع "المستند الأصل" في حين يبقي الإعلان "المستند الفرع" وقد جاء ذلك في مصلحة إسرائيل. وفي رسالة عرفات إلى رابين اعترفت المنظمة بالقرارين 242،338 "وبحق دولة إسرائيل في العيش في سلام وأمن". ولطالما سعت إسرائيل طوال العقود الخمسة الماضية من الصراع العبري - الصهيوني إلى الحصول من ضحاياها على مثل هذا الاعتراف بشرعيتها، لدعم الاعتراف الدولي بشرعيتها المبني على أساس الأمر الواقع المستند إلى القوة لا إلى مبادئ العدل. وفي حين لم تتطرق رسالة عرفات إلى رابين إلى حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني المتضمن حق العودة أرجأت المسائل المتعلقة بالوضع الدائم ومنها مسألة اللاجئين لكي تتم "تسويتها من طريق التفاوض". أما الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية الوارد في رسالة رابين إلى عرفات ، فهو مشروط بالتعهدات الواردة في رسالة عرفات إليه وأخطرها تعهد المنظمة اعتبار مواد الميثاق الوطني ونقاطه التي تتعارض مع التعهدات المذكورة في الرسالة أصبحت ]وليس ستصبح[ "عديمة الأثر وغير سارية المفعول". وكان الجدل، في هذا الصدد، يدور على المواد ال2 و9 و10و 19 و20 و21 و22. وتجدر الإشارة إلى المادة ال9 من الميثاق التي تؤكد تصميم الشعب الفلسطيني على متابعة الكفاح المسلح "لتحرير وطنه والعودة إليه... وممارسة حقه في تقرير مصيره فيه والسيادة عليه". أما إعلان المبادئ فجاء، كما هو معلوم، نتيجة مفاوضات سرية وافق الطرف الفلسطيني فيها على ما رفضه المفاوضون الفلسطينيون في محادثات واشنطن التي أطلقها مؤتمر مدريد. تذكر المادة الأولى من الإعلان المتعلقة بهدف المفاوضات أن الترتيبات الانتقالية جزء لا يتجزأ من عملية السلام بمجملها، وتؤكد أن "المفاوضات حول الوضع الدائم ستؤدي إلى تطبيق قراري مجلس الأمن 242 و338. وبهذا يتجاهل الإعلان مصادر الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني في القانون الدولي وفي قرارات الأممالمتحدة، على حد سواء، وفي مقدمها حقه في العودة في إطار ممارسة الحق في تقرير المصير. وأرجأت الفقرة الثالثة من المادة الخامسة 5/3 من الإعلان حل مشكلة اللاجئين إلى مفاوضات الحل النهائي، من دون أن تربط المشكلة بأي مرجعية قانونية. وأكثر من ذلك جزأ الإعلان قضية اللاجئين ما بين لاجئي العام 1948 ولاجئي العام 1967، الذين أصبحوا يعرفون في لغة المفاوضات ب"النازحين"، أنحيازاً للتفسير الإسرائيلي للقرار 242. وفي هذا الشأن، تدعو المادة ال12 من "الإعلان" إلى تعاون حكومة إسرائيل والممثلين الفلسطينيين من جهة، وحكومتي الأردن ومصر من جهة أخرى من أجل إنشاء ما عرف باسم "اللجنة الرباعية" للمفاوضات للبحث في وسائل عودة "نازحي" العام 1967 إلى الضفة الغربية وقطاع غزة. وبحسب الإعلان ظلت عودة كل من يتقرر عودته منهم مشروطة بموافقة إسرائيل ومتوقفة على اعتباراتها الأمنية، بذريعة "منع الفوضى والإخلال بالنظام". وقد تعزز هذا الشرط من خلال قبول الإعلان بحق إسرائيل في المشاركة في السيادة على المعابر... براً وجواً وبحراً. والخلاصة أن "إعلان المبادئ" وملحقاته الأربعة، وكذلك رسائل الاعتراف المتبادلة، تميزت بالوضوح التام في كل ما يتعلق بالجانب الإسرائيلي وبالغموض والالتباس في كل ما يتعلق بحقوق الشعب الفلسطيني. والغموض يصب دائماً في مصلحة الطرف الأقوى الذي يميل إلى تفسير النصوص، وفقاً لمعايير القوة. وهكذا منحت تلك الوثائق إسرائيل حقوقاً مناقضة للشرعية الدولية التي لا تزال إسرائيل بموجبها قوة احتلال. مواقف وتصريحات رسمية وشبه رسمية: نظراً إلى محدودية القرار 194 والتقييدات التي يفرضها على حق العودة، وبسبب اتساع الفجوة بين الموقفين الفلسطيني والإسرائيلي، في ما يتعلق بتطبيق هذا الحق، ظهرت مواقف فلسطينية رسمية وشبه رسمية تميل إلى تفسير حق العودة في القرار 194 على أساس التمييز بين المبدأ وتنفيذه، بما يؤدي إلى فصل ارتباط حق العودة عن فكرة "العدل المطلق". ومثال هذه المواقف تصريحات نبيل شعث وفيصل الحسيني التي تتعمد عدم تحديد الجهة التي ينبغي أن يعود إليها اللاجئون. وهذا الإبهام يفتح الباب أمام تفسيرات للموقف الفلسطيني الرسمي تحصر حق العودة بمناطق السلطة الوطنية والكيان الفلسطيني المرتقب، لا إلى بيوتهم بالذات، كما ينص القرار 194، من دون لبس أو إبهام. وعبر عضو المجلس الوطني الفلسطيني زياد أبو زياد عن مثل هذا الموقف، من دون مواربة، فدعا إلى التمييز بين حق العودة كمبدأ وتطبيقه في شكل حرفي. واعتبر أن من حق الفلسطينيين العودة إلى "فلسطين كوطن قومي" ولكن ليس إلى قراهم وبيوتهم الأصلية. وفي سياق التقييدات على حق العودة، ندرج أقوال بعض المسؤولين الفلسطينيين عن حق فلسطينيي الشتات في أن يحملوا في المستقبل جوازات سفر الدولة الفلسطينية، باعتبارهم جاليات مهاجرة، الأمر الذي قد يؤدي، إذا ما تم، إلى تغيير الوضع القانوني للاجئي الشتات وإضعاف حقهم في العودة. والأمر نفسه ينطبق على المحادثات العلنية والسرية التي يجريها بعض المسؤولين الفلسطينيين في شأن التعويض. وتصب في الموقف السابق نفسه دعوة عدد من المسؤولين الفلسطينيين إلى إقامة اتحاد كونفدرالي بين الدولة الفلسطينية المرتقبة والأردن، تنفيذاً لمقررات المجالس الوطنية منذ الدورة السادسة عشرة. إذ يضمن قيام مثل هذا الاتحاد دمج نحو مليون وربع مليون لاجئ فلسطيني واستيعابهم حيث هم، شرق نهر الأردن، وحرمانهم، في المحصّلة، ممارسة حقهم في العودة إلى قراهم وبيوتهم الأصلية. حق العودة إلى البانتوستان لم يؤد موقف منظمة التحرير الفلسطينية من حق العودة وتقرير المصير، كما عبرت عنه في الممارسة العملية منذ أوسلو حتى الآن، الا إلى التلاعب بالإطار القانوني للحقوق الفلسطينية التي ضمنها القانون الدولي، وأكدتها قرارات الأممالمتحدة، فضلاً عن أنه انتهك "الميثاق الوطني" الضامن لوحدة الشعب الفلسطيني، ووحدة أهدافه الوطنية التاريخية على أرض آبائه وأجداده. ويعكس بعض المواقف والتصريحات الإسرائيلية والأميركية فداحة الضرر الذي أصاب النضال الوطني الفلسطيني من جراء تلك الممارسة. ووصف شمعون بيريز تعديل الميثاق الوطني الفلسطيني أنه "التغيير الأيديولوجي الأهم خلال القرن الجاري" العشرين. واعتبرت مادلين أولبرايت ايلول/ سبتمبر 1991 قرارات الأممالمتحدة في شأن القضية الفلسطينية "مثيرة للنزاع وقد مر عليها الزمن". فما أفرزته مفاوضات المسار الفلسطيني من وقائع وما تشي به المسارات العربية الأخرى من توقعات لا تقود إلى سوى القفز عن حق العودة وتثبيت الشتات الفلسطيني وإهدار حق تقرير المصير، عبر اقامة "كيان فلسطيني" هزيل أقرب إلى "البانتوستان" منه إلى الدولة المستقلة الكاملة السيادة. وفي هذا السياق شبّه بعض المفكرين الفلسطينيين كيان الحكم الذاتي الفلسطيني الناشئ، بمعزل "ترانسكاي" في جنوب أفريقيا. وهو كيان الحكم الذاتي الذي أقامه النظام العنصري للسود عام 1963، وأعلن دولة مستقلة، لم يعترف به سوى النظام العنصري نفسه. والأرجح أن يجد الشعب الفلسطيني نفسه بعد توقيع اتفاقات الوضع النهائي مجزأ بين داخل وخارج، يعيش نصفه الذي في الشتات معزولاً عن نصفه الآخر في الكيان الفلسطيني المرتقب، محروماً ممارسة حقوقه الوطنية المشروعة في العودة وتقرير المصير على أرض وطنه. ولئلا يلقى شعبنا هذا المصير الأسود، ينبغي للفلسطينيين، أينما كانوا على أرض فلسطين وفي المنافي،التمسك الصارم بوحدة الأرض والشعب، وعلى فلسطينيي الشتات، بالذات، أن يشكلوا "كتلة تاريخية" تبلور موقفاً حاسماً يتمسك بحق العودة وتقرير المصير ويرفض التوطين أو التعويض بدلاً من العودة، لتبقى العودة حلماً مشروعاً نحققه بالعمل عبر رؤية متفائلة لمسيرة التاريخ. * عضو مؤسس في مجموعة "عائدون" لبنان. * المقال ملخص دراسة قدمت إلى مؤتمر حق العودة الذي نظمته مؤسسة الأبحاث العربية في بوسطن - TARI نيسان / ابريل 2000.