بعد اكثر من واحد وخمسين عاماً على قيام الدولة العبرية على جزء من ارض فلسطين التاريخية، هناك سؤال يطرحه في اسرائيل المؤرخون الجدد ودعاة اعادة كتابة رواية 1948، فضلاً عن شرائح واسعة داخل صفوف الانتلجنسيا اليهودية الاسرائيلية بطيفها السياسي الممتد من اليمين التوراتي الى كتل اليسار الصهيوني: لقد انجزنا دولة يهودية، فهل نستمر في سياسة الغيتو؟ وهل يشكل ذلك ضمانة لاستمرار الدولة في ظل عقلية "الماسادا" التي تصور اليهود باعتبارهم مستهدفين من الاغيار ومدافعين عن وجودهم الى درجة الانتحار الجماعي…؟ قد يبدو من المبكر تماماً، اطلاق او رؤية اجابات واضحة وشافية، عن هذا السؤال الزلزال، الذي يراود الكثيرين داخل المجتمع اليهودي في اسرائيل، ولكن يمكن القول دون الوقوع في الخطأ ان الوقائع اثبتت أن الدولة اليهودية بنقائها الاثني او العرقي غير ممكنة على الاطلاق، ففكرة الدولة الاثنية اليهودية العبرية اضحت بجلاء فكرة ضد التاريخ، وضد منطق الحياة وصيرورة الاشياء في التطور المجتمعي الانساني بجوانبه المختلفة. اما مقولة "اسرائيل التوراتية الكبرى" فيمكن الجزم ايضاً بأنها اصبحت في الوراء تماماً، فلا وقائع الجغرافيا السياسية تسمح بالحديث عنها، او حتى عن احتمال نجاحها، ولا وقائع الخريطة الدولية في العالم بأسره تسمح ايضا ببقاء هذه الفكرة، فضلاً عن ذلك، فالشعب الفلسطيني موجود، ويأخذ مكانه رويداً رويداً في اطار كيانية تجمع شتاته مع الداخل فوق جزء من ارضه الوطنية وحيث يجب، وكفاحه الوطني المتكامل في الداخل والشتات سيعطي ثماره بكيانية جغرافية تعود بفلسطين الى العالم دولة مستقلة. نعود الى الحراك السياسي داخل الدولة العبرية، والى جوهر ظاهرة ازدياد القوائم وتشرذم القوى في الانتخابات الاسرائيلية الاخيرة للكنيست الخامسة عشرة، فأكثرها قوائم تمت على اساس طائفي واثني وقومي اوسع 37 قائمة متعددة بين اثنية، وبين الجذور القومية وبلدان الاصل، وبين اتجاهات سياسية من النقيض الى النقيض، يعبر بشكل صارخ عن الوقوف امام جدوى الفكرة الصهيونية والمدى الذي وصلت اليه بعد اكثر من واحد وخمسين عاماً على قيام دولة اسرائيل، وبداية الهزيمة المنطقية لفكرة الدولة الاثنية على انقاض شعب آخر، في منطقة تعج بالصراعات الداخلية، وصراعات المصالح الكبرى. وبين اسرائيل "الحلم وأرض الميعاد" واسرائيل "الدولة لكل مواطنيها" تحولات تحتاج زمناً لتظهر نتائجها وتقدم الحلول المتوازنة ان لم تكن العادلة للصراع العربي / الاسرائيلي الصهيوني، وفي مقدمه القضية الوطنية للشعب الفلسطيني، والوصول الى مصالحة يتم من خلالها تقديم الاعتذار التاريخي، وطي صفحة الماضي الأليم، والسعي لانجاز حلول الشرعية الدولية وما تفتحه لاحقاً من امكانية الحديث عن حلول تاريخية على كامل ارض فلسطين بين الجميع ومع الجميع. فالاصطفافات داخل الدولة العبرية، مع ملاحظة اتساع صفوف اليمين، بدأت منذ فترة ليست بالقصيرة، تزحف نحو اصطفافات تستند الى تجمعات قومية قائمتان لليهود المهاجرين من دولة رابطة الشعوب، اليهود المغاربة، الفلاشا مثلا… والى تجمعات اثنية اشكناز، سفارديم، فضلاً عن التجمع العربي وتجمعات الانقسام السياسي ما بين صهيونية توراتية تريد كامل فلسطين الانتدابية واكثر من ذلك، وصهيونية ليبرالية علمانية تسعى لحلول براغماتية على اساس يتقارب مع الشرعية الدولية. والمهم فلسطينياً وعربياً مواصلة شق الطريق في الوسط العربي الفلسطيني داخل الدولة الاسرائيلية وفي الاوساط اليهودية الداعية لسلام الشرعية الدولية، وتأطير جهد قوى الديموقراطية والسلام لالغاء الصفة العبرية اليهودية للدولة الاسرائيلية وتحويلها الى دولة كل مواطنيها. فهذا الطريق في العمل الديموقراطي هو الاسلوب الممكن والمتاح والفعال داخل اوساط الشعب الفلسطيني داخل مناطق 1948للحفاظ على البقاء والثبات على ارض الوطن والحصول على الحق الكامل، فضلاً عن ما يشكله هذا الفعل من دعم واسناد لمجموع العملية الوطنية الفلسطينية. هذا الطريق المجرب والملموس النتائج في العمل الديموقراطي يعبر ايضاً عن التشكيك والطعن بالرواية الصهيونية المزورة للتاريخ ولمنطق الحياة. فالشعب الفلسطيني موجود وقضيته ما زالت حية نقيضاً لرسالة الصهيونية والحلم التوراتي. مع ذلك فالنجاح النسبي للجماهير العربية داخل الدولة العبرية، وارتفاع نسبة مساهمتها، لا يلغيان وجود مثالب كبيرة ما زالت تعترض الطريق لتوحيد جهد الجماهير العربية في الصراع من اجل حقوق المواطنية الكاملة والتصدي لعمليات الاسرلة والتكامل مع مجموع العملية الوطنية الفلسطينية في الداخل والشتات. * كاتب فلسطيني.