لم تواتنا الشجاعة حتى الآن لكي نقرّ بحقيقة ان مشكلة الشرق الاوسط تتكون من مشكلتين مختلفتين: الاولى هي المشكلة العربية الاسرائيلية، والثانية هي المشكلة الفلسطينية الاسرائيلية. وما افتقارنا الى مثل هذه الشجاعة الاّ حصيلة موقف الخجل مرة، والعداء مرات، الذي ما انفك اكثرنا يقفه حيال سياسة الدولة ذات السيادة، على رغم ان هذه هي المثال الكوني للسياسة منذ استوت الامة - الدولة مثالاً كونياً. ونحن لو نظرنا من منظار هذه السياسة لتبيّن لنا ان ثمة اختلافاً جذرياً ما بين المشكلتين حتى وإن كان الخصم واحداً. فالمشكلة ما بين كل من سورية ولبنان والاردن ومصر، او ما كان يُعرف ب"دول الطوق" من جهة، وإسرائيل من جهة اخرى هي مما يمكن وصفه بمشكلة جوار وحدود ما بين دول ذات سيادة. فلقد انضوت او تورطت "دول الطوق" هذه في حروب مع اسرائيل في مناسبات مختلفة بما سوّغ للاخيرة انتهاك سيادة الدول المذكورة، فعمدت الى مهاجمتها عسكرياً وإحتلال بعضٍ من اراضيها. ولئن امسى من حق هذه الدول المطالبة بإنسحاب اسرائيل، فهذا لأنه حق تؤيده القوانين الدولية وتصادق عليه قرارات مجلس الامن الدوليّ انطلاقاً من الإلتزام بسياسة الدولة ذات السيادة التي تستقيم القوانين والقرارات المذكورة وفقها. وبإستثناء سورية التي لم تحقق الكثير حتى الآن في سبيل استعادة مرتفعات الجولان المحتلة، فإن الدول الثلاث الاخرى افلحت إما من خلال التفاوض والسلام، واما من خلال الحرب والمقاومة، في فضّ مشكلة الحدود او مشكلة الجوار التي ربطتها بالدولة العبرية. فمن خلال توقيع اتفاقية سلام وتعاون مع اسرائيل، استطاعت مصر استعادة اراضيها المحتلة عام 67، ومن ثم ضمان عدم انتهاك اسرائيل لسيادتها. ومن جهة اخرى اختار لبنان، او للدقة اختير له، على ما هو واقع الامر في سياسته الخارجية والداخلية على السواء، سبيل المقاومة لاستعادة ارضه. وهو لئن افلح في ذلك فهذا ما لم يكن بسب الانتصارات العسكرية الباهرة للمقاومة، على ما تذهب الدعاية السعيدة بأوهامها، وانما لأن المقاومة استطاعت ان تنبه كلاً من الرأي العام الاسرائيليّ والرأي العالمي الى ان الدولة العبرية فقدت مبررات احتلالها للجنوباللبنانيّ. ونحن لا نضيف هذا القول سعياً لإزعاج المحتفين بحكاية "دحر العدو الصهيوني" - ومن يجرؤ على ذلك؟ وانما لكي نجادل بأن الدعوة الى اتخاذ المقاومة اللبنانية مرشداً للفسطينيين في نضالهم ضد اسرائيل دعوة مجانية فارغة. ان المشكلة الفلسطينية الاسرائيلية تختلف اختلافاً جذرياً عن المشكلة العربية الاسرائيلية لأن النزاع ما بين الطرفين ليس مشكلة بين دولتين كل منهما ذات سيادة، وانما صراع سابق على ذلك. وإذا لم تكن فلسطين المفترضة دولة ذات سيادة، فإن إسرائيل نفسها، وان كانت دولة ذات سيادة ازاء بقية دول العالم، تبقى في علاقتها بالفلسطينيين منقوصة السيادة، او في اقل تقدير، تبقى سيادتها موضع شك وتساؤل. ولكي تصير الدولتان المعنيتان دولتين ذات سيادة بالنسبة الى واحدتهما الاخرى، فلا بد لهما اولاً من الاتفاق على حدود سيادة كل منهما، وهذا ما يتمثل في خلاصة السؤال التالي: اين تنتهي دولة اسرائيل واين تبدأ دولة فلسطين؟ او اين تنتهي الاخيرة واين تبدأ الاولى؟ بيد ان الاتفاق على إجابة واحدة لا يتوقف على تعيين الحدود الجغرافية المشتركة لكل من البلدين. فالمشكلة الفلسطينية الاسرائيلية ليست مشكلة حدود جغرافية وجوار، وانما مشكلة شعبين او أمتين ظهرتا وتكوّنتا في وقت واحد وفي سياق الصراع على تكريس كل منهما لسيادتها على قطعة ارض واحدة فلسطين/اسرائيل. على هذا فإن سلوك سبيل التفاوض والسلام لحل هذه المشكلة على الوجه الذي سلكته اسرائيل ومصر مثلاً لن يكون مجدياً في نهاية المطاف. فإتفاقية من قبيل الاتفاقية المصرية الاسرائيلية انما تهدف أساساً الى تكريس احترام كلٍ من الدولتين سيادة الاخرى. ومثل هذا غير قابل للحدوث على الجانب الفلسطيني الاسرائيلي ما لم يتمّ البت بشأن حدود سيادة كلٍ من البلدين. مثل هذا الكلام قد يسوّغ الظن بأن سبيل المفاوضات، اية مفاوضات، لن يفضي الى إتفاق يدوم. وان الطريقة الوحيدة هي الحرب المقاومة او الانتفاضة..الخ خاصة بعدما حُمل الانسحاب الاسرائيلي من جنوبلبنان على كونه نصراً عسكرياً للمقاومة اللبنانية ومثالاً ينبغي على الفلسطينيين إتباعه. ولكن كما ان اتفاقية سلام على نمط الاتفاقية المصرية الاسرائيلية او الاردنية الاسرائيلية ليست بمثال يحتذى في حلّ المشكلة الفلسطينية الاسرائيلية، فإن النحو الذي انتهت اليه الامور ما بين لبنان واسرائيل ليس بمثال قابل للإحتذاء ايضاً. لقد غزت اسرائيل لبنان واحتلت جزءًا من اراضيه لما ينوف على عقدين، وهي تعلم أنها تنتهك سيادة دولة مستقلة، وانها ما ان تفقد مبررات فعلها هذا حتى تُرغم على الانسحاب. وكما سبق القول، لعبت المقاومة اللبنانية دوراً مهماً في تنبيه كل من الرأي العام الاسرائيلي والرأي العام العالمي الى فقدان اسرائيل مبررات إحتلالها. غير ان دوراً كهذا غير متوافر للمقاومة الفلسطينية المنشودة. فمن وجه اول، لم يكن الاحتلال الاسرائيلي للضفة الغربية وغزة انتهاكاً لسيادة الدولة الفلسطينية طالما انه ليس هنالك دولة كهذه اصلاً. ولعل هذا ما سوّغ لاسرائيل اعتبار احتلالها للاراضي الفلسطينية بمثابة حيازة اراضٍ لمستوطنات جديدة. ومن وجه آخر، لا بد ان يكون هدف المقاومة الفلسطينية إما تحرير الاراضي المحتلة عام 67 او تحرير "كامل التراب الفلسطيني"، على ما ذهبت رطانة تنتمي الى العهود البائدة. والاول هدف قاصر، اما الثاني فمستحيل التحقق. لا شك أن الفلسطينيين قد يحصلون على شيء من التأييد العالمي، بل الاسرائيلي ايضاً، اذا ما كان هدفهم إجلاء الاسرائيليين عن الاراضي المحتلة عام 67. وهناك بالفعل من الاسرائيليين من يؤمن بأن من حق الفلسطينيين استخدام العنف في سبيل طرد الجيش الاسرائيلي من بلادهم. ولكن مع ذلك فإن تحقيق هذا الغرض على هذه الاراضي اصعب بما لا يقاس من تحققه في جنوبلبنان. فالوجود الاسرائيلي هنا انما هو وجود عسكري ومدنيّ معاً. وبذريعة حماية هذا الوجود المدنيّ قد تعمد اسرائيل الى استخدام ثقلها العسكريّ بما يجعل امكانية تحقيق المقاومة الفلسطينية لهدفها ضئيلة للغاية. الى ذلك فإنه حتى وان افلحت المقاومة في تحرير الاراضي المحتلة عام 67، فإن ذلك لن يكفي لحلّ المشكلة. اذ سيبقى مصير فلسطينيي الشتات، اي اكثرية الشعب الفلسطيني، معلقاً في الهواء. وهذا يعني أنه لا بد وان يكون هدف المقاومة "تحرير كامل التراب الفلسطيني". ولكن بما ان بلوغ اي هدف للمقاومة انما يعتمد اساساً على مدى فلاحها في إثارة التناقضات الإسرائيلية الداخلية وفي إحراج اسرائيل امام الرأي العام العالمي، فإنه كلما اخفق هذا الهدف في الفوز بتعاطف اسرائيلي وتأييد عالمي، أمسى عسير التحقق. لهذا فإنه لمن المستحيل تحقيق هدفٍ مثل "تحرير كامل التراب الفلسطيني". فهو انما يُعني تدمير دولة اسرائيل، وغني عن القول انه هدف غير قابل للظفر الاّ بإدانة اسرائيلة جماعية وبفقدان الفلسطينيين للتأييد العالمي الذي حظوا به حتى الآن. بل ان هذا الهدف هو الذي سيمنح اسرائيل مبرراً شرعياً لسحق المقاومة الفلسطينية دفاعاً عن وجودها. اما الذين يظنون أن ثمة ادنى امل لمقاومة فلسطينية هذا هدفها، فإما انهم غارقون في الاوهام او انهم بلغوا من العدمية حدّ التسليم بأن الفناء الشامل هو الحلّ الوحيد. فإذا ما أملت سياسة الدولة ذات السيادة ضرورة الكف عن توسّل حلول قد تصلح لدولة او شعب دون آخر، فإنها تُملي ايضاً ضرورة التخلص من موقف الخجل والعداء الذي يقفه اكثرنا من هذه السياسة. فمن دون النظر من منظارها تبقى مفاهيمنا ومعاييرنا اسيرة التخبط والاوهام والعدمية.