تخيلوا معي هذا المشهد: مجموعة من الجماعات المشتتة في أوروبا، تخضع - نتيجة لعوامل ومشكلات أوروبية خاصة من عنصرية واستعمار ونشوء دولة سلطوية مركزية... إلخ - لاضطهاد متواصل وصل قمته عند محاولة إحدى هذه الدول إبادتهم بشكل جماعي من إحدى الدول الأوروبية، أدى هذا الاضطهاد المتواصل إلى نشوء وعي وحركة قوميتين لدى هذه الجماعات التي قررت أن تفتش عن حل لمشكلتها، تمثّل الحل هذا بأن تتجمع هذه الجماعات في دولة واحدة. ولما كانت محاولة تحقيق مثل هذا الحل داخل أوروبا - إذ أصل المشكلة - مستحيلاً، تم التفكير في تحقيق الحل خارج أوروبا، جاء الحل بالشكل التالي: بناء مستوطنات، ثم احتلال أراضي شعب آخر، وتكوين دولة عليها، بمعنى آخر: تم حل مشكلتهم بخلق مشكلة مماثلة لشعب آخر، أو حل مشكلتهم بالأدوات نفسها التي تشكلت منها مشكلتهم هم، أي: الاحتلال، التمييز، الاضطهاد... إلخ. هذه ليست قصة خيالية، فاليوم، فيم يسمى «دولة إسرائيل»، تحتفل هذه الجماعات بذكرى مرور 65 عاماً على احتلالهم لأرض فلسطين وتشريد الشعب العربي هناك. إلا أن يوم الغد، الموافق الخامس عشر من أيار (مايو)، هو ذكرى لقصة شعب آخر، فغداً سيكون قد مر 65 عاماً على انطلاق الجيوش العربية - الأردن، السعودية، سورية، العراق، مصر، لبنان، فرق مقاومة فلسطينية... إلخ - لمقاتلة الإسرائيليين بعد إعلانهم لدولتهم بيوم واحد. انتهت المعركة بهزيمة العرب، واستيلاء إسرائيل على 78 في المئة من الأراضي الفلسطينية، وتشريد واضطهاد الآلاف من الفلسطينيين ما بين لاجئ ومقيم في الشتات ومواطن من الدرجة الثانية في الداخل. بعد أشهر عدة من هذه الحادثة كتب المفكر العربي السوري قسطنطين زريق كتاباً بعنوان «معنى النكبة»، فتم تخليد تلك الحادثة باسم «النكبة». ولأنه كان في هذه التسمية اعتراف بالهزيمة، إلا أن فيها أيضاً أملاً في النصر. فبحسب لغة العرب، فإن النكبة تعني «العدول عن الطريق»، أي على رغم أنها «خطأ» في ذاتها إلا أنها خطأ بالنسبة لصواب معروف، أي أن تسمية الحدث بالنكبة يتضمن في ذاته مطالبة بالعودة للطريق الصحيح. كان زريق يرى أن الطريق الصحيح يبدأ من أن ينتشل العرب أنفسهم من تخلفهم الذي كان هو سبب هزيمتهم، أي أنه لم يرجع الهزيمة لمؤامرة عالمية، أو إلى كونها عقوبة إلهية، بل حاول التفتيش عن أسبابها في داخل المجتمع والدول العربية. الآن، وبعد 65 عاماً، هل نحن على الطريق الصحيح؟ يستطيع المتشائم أن يجد آلاف الأسباب التي يثبت من خلالها أن الجواب هو: لا. يستطيع أن يعدد الآتي: أن دولة زريق نفسها - أي سورية - هي اليوم أقرب للخراب بسبب الدمار الذي ألحقه بها بشار الأسد، أن الحكومات العربية - وعلى رأسهم السلطة الفلسطينية - قررت تجاهل أن حرب 67 إنما خيضت لأجل ما حدث في عام 1948، وبدأت تحصر مطالباتها فقط في إنشاء دولة فلسطينية في الأراضي المحتلة عام 67، أي غزة والضفة. أن الحكومات العربية لا تستطيع أبداً أن تنسق عملاً جماعياً واحداً ضد إسرائيل. أن عدداً من الحكومات العربية - أولها أكبر دولة عربية التي هي مصر - وقعت اتفاقات سلام مع إسرائيل... إلى آخر القائمة. إلا أن هذه الأجوبة تغفل جانباً رئيساً مهماً هو مصدر أساسي للتفاؤل، ففي كل تجارب الاحتلال الاستيطاني - أي ذلك النوع من الاحتلال الذي لا يستهدف امتصاص خيرات البلاد الواقعة تحت الاحتلال، بل إلى تحويل الأرض المحتلة إلى وطن للشعب الذي قام بالاحتلال - كان السبب الرئيس لانتصار المستعمر هو أنه استطاع إبادة سكان البلاد الأصليين، أو تهجيرهم، أو ترويضهم. عام 1948 تم تهجير 726 ألف لاجئ عربي من فلسطين - ما بين مسلم ومسيحي - والآن يبلغ عدد اللاجئين أكثر من ستة ملايين ونصف المليون عربي حول العالم. هؤلاء اللاجئون هم الذين قاوموا منذ الثلاثينات الميلادية العدو الإسرائيلي، وهم من شكلوا منظمة التحرير الفلسطينية وباقي الحركات النضالية، وهم من قاموا في ما بعد - عندما تم طرد المقاومة الفلسطينية من الأردن ولبنان - بالانتفاضة الأولى، ثم الانتفاضة الثانية، وهم الآن الذين بوجودهم المحض، بتشبثهم بحق عودتهم يؤكدون بشكل مستمر ودائم أن ذكرى النكبة تشكل وتعبّر عن حياة ستة ملايين ونصف المليون لاجئ، الذين يمثلون أكبر وأقدم جماعة قومية لاجئة في العالم، إذ يمثلون ربع عدد اللاجئين في العالم. وجودهم هذا هو ما أعاق ويعوق كل محاولات إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي ضمن ما يُسمى بعملية السلام. الصراع العربي الإسرائيلي هو في جوهره صراع على الذاكرة، إذ فور أن ينسى العرب ما جرى قبل 1967، تصبح كل ما تروج له الحركة الصهيونية والإدارة الأميركية من حلول للقضية الفلسطينية مقبولاً، فالصفقة التي يراد للعرب أن يقبلوا بها منذ أربعة عقود هي «النسيان في مقابل دولة بلا جيش ولا سيادة للفلسطينيين على الضفة وغزة». إن من واجبنا ألا ننسى الخامس عشر من أيار (مايو)، وإن من واجبنا أننا كلما تناسينا أن نتذكر أن هناك ملايين من العرب في الداخل وفي الشتات وفي مخيمات اللاجئين مطرودون من ديارهم، وأن من واجبنا المطالبة بحقهم بشكل مستمر ودائم حتى يتم استرداد حقوقهم. * كاتب سعودي. [email protected] @sultaan_1