ما من كلمات تستطيع ان تصف تلك اللحظة التاريخية التي جسّدتها عودة الأرض إلى أهلها أو عودة أهل الأرض إلى أرضهم. كلّ الشعارات تسقط أمام لحظة الحقيقة تلك والقصائد تصبح ضرباً من المجاز. لحظةٌ يصعب التعبير عنها من شدّة واقعيّتها وشدّة فتنتها وروعتها. لحظةٌ تفضح الأوهام التي اعترت الذاكرة طوال عقود وتكشف الأكاذيب التي حاكها الاعداء و"الأساطير" التي صنعوها. العين التي قيل إنّها لا تقاوم المخرز قاومته وانتصرت عليه. والمقاومون البسطاء والفقراء استطاعوا أن يدحروا جيش الجيوش ليس لأنهم أقوى منه بل لأنّ إصرارهم على العودة كان أقوى من إصراره على البقاء. وهم لم ينتصروا إلا لأنّهم بذلوا حياتهم ودماءهم من أجل العودة. ما من كلمات حقاً تعبّر عن لحظة الفرح تلك، حين تعود الأرض إلى أهلها، أو حين يعود الأهل إلى أرضهم، حين يعود المزارعون البسطاء إلى حقولهم والحصّادون إلى بيادرهم، حين يعود المبعدون إلى بيوتهم وحدائقهم وأشجارهم. ما من لحظة تشبه هذه اللحظة: أن تعود إلى عتبة بيتك بعد غربة قسرية طويلة، أن تقف أمام الباب وأن تدخل، أن تتنسم هواء ماضيك الذي اشتقت إليه، أن تعود إلى ذكرياتك وكأنك عائد إلى واقعك... أن تقف أمام النافذة وتنظر قائلاً: هنا كانوا... أجمل اللحظات لحظة العودة تلك: يفتح العائد عينيه جيداً، يحدّق في المشهد الذي يراه كما لو أنّه لا يصدّق ما يرى. الحيرة التي تعتريه تخفي في عمقها فرحاً ليس كالفرح وربّما رهبة هي رهبة "المعنى" الذي تفترضه العودة إلى الأرض. لحظةٌ تعجز القصيدة عن أسرها من شدّة عمقها. لحظةٌ تفوق الوصف من شدّة غموضها وغموض الأثر الذي تحفره في الروح. حلمٌ بعيد تحقق فجأة. واقعٌ هو أشبه بالحلم من كثرة وضوحه. هنا كانوا: يقول العائد. هنا كنت قبل أن يكونوا: يقول أيضاً. الآن عدتُ كما لو أنني لم أغادر. الأيام الطويلة التي أمضيتها مبعداً عن الأرض تبدو الآن قصيرة جداً، أقصر من تلك الليلة وضحاها، عندما حصل ما حصل واندحر الارهابيون والقتلة والعملاء... هكذا يقول العائد. ليس من المستغرب أن يبدو مشهد اندحار الجيش الاسرائيلي أشبه بالمشهد السينمائي: فجأة لم يبق منهم أحد. آثارهم السوداء وحدها أخبرت عنهم، أخبرت عن أحقادهم وضغائنهم وعن جرائمهم الكثيرة. بدا المشهد شبه سينمائي ليس لأنّه لم يكن متوقّعاً بل لأنّه واقعيّ، شديد الواقعية. راحوا يقتلعون ما كان لهم هناك مدركين أنّ لا شيء لهم هناك وأن الأرض ليست أرضهم ولا السماء سماءهم ولا الهواء هواءهم... أمّا منظر "السجن" الشهير، سجن "الخيام" فكان المنظر الأشدّ إيلاماً. كان بعض المناضلين الجنوبيين لا يزالون أسرى داخل جدرانه وغرفه الضيّقة حين راح أخوتهم ومواطنوهم العائدون يخلعون أبوابه. في هذا السجن كان السجناء اللبنانيون يخضعون لأنواع شتى من التعذيب والقهر. وكان الاسرائيليون يستخدمون بعض عملائهم "اللبنانيين" كسجّانين تحقيراً لهم وقهراً لأولئك السجناء الشرفاء الذين كانوا يُعاقبون لأنهم يريدون أن يعودوا إلى أرضهم. والسجن هذا ينبغي هدمه كي تزول معه آخر صورة من صور الحرب "الداخلية" كيلا أقول "الأهلية". فالعملاء "اللبنانيون" الذين استخدمهم الجيش الاسرائيلي هم من بقايا تلك الحرب الطائفية والعبثية البشعة التي حصلت في لبنان وصنعها اللبنانيون أنفسهم مثلما صنعها الآخرون على أرضهم. كان منظر السجن أليماً جداً على رغم خلع أبوابه وتحرير السجناء! سجن اسرائيلي بناه جيش الاحتلال بأيدي بعض "اللبنانيين" ليزجّ فيه سجناء لبنانيين شرفاء. "كلّ الجهات الجنوب" هكذا كان يقال سابقاً أيام كان الجنوب قضية القضايا وأيام كان الشعراء يكتبون قصائد جنوبية! والآن لا بدّ من القول أنّ لبنان كلّه أصبح هو الجنوب بعدما اندحر الاحتلال وعادت الأرض إلى ابنائها وعاد الأبناء إلى أرضهم... ولحظة العودة تلك لم يُعرف ما يماثلها في "تاريخنا" العربي الراهن: إنّها لحظة التحرّر من الوهم والخوف، من الظلم والقهر. إنّها لحظة الحق والحقيقة، لحظة التاريخ التي يصنعها دم المناضلين ودمع المقهورين وصلاة المنتظرين. كم يصعب الكلام حقاً عن تلك اللحظة التاريخية. بل كم يبدو الكلام ضرباً من المجاز حيال حقيقتها وعمقها وأمام واقعيّتها الأعمق من الواقع والتاريخ معاً.