خلافاً لما عليه الأمر في معظم الدول العربية فإن ولادة حكومة جديدة في الكويت حدث مثير اعلامياً وسياسياً وله طقوسه المحلية. وحدد الدستور الموضوع عام 1962 وعاءً تتحرك الأسرة الحاكمة من خلاله لتسيير نظام الحكم، ولأن هذا الدستور قدم هامشاً استثنائياً - بالمقاييس العربية - للمشاركة الشعبية في الحكم فإن اختيار أعضاء الحكومة كان دوماً شأناً عاماً يتداوله الجمهور ويشعر انه معني به وتمارس قوى الضغط خارج الأسرة عملها للتأثير فيه. ومع ان هذه الأسرة تضع في النهاية الحكومة التي تفضل فإنها لا تستطيع ان تفاجئ الناس بها في نشرة أخبار السابعة صباحاً كما الحال في غالبية العواصم العربية. وينص الدستور الكويتي على ان "الأمة مصدر السلطات جميعاً"، على ان التطبيق العملي منذ الستينات وحتى الغزو العراقي عام 1990 يبين ان سلطات الأمة كانت تتراجع من حيث الممارسة سنة بعد أخرى، وفي عام 1986 جرى حل مجلس الأمة البرلمان ووضع الدستور على الرف، وكانت الحكومة - في المعنى القانوني للكلمة - تتشكل بأوامر مباشرة من الأمير ويختار أقطار الأسرة أعضائها في معزل عن الشارع، لكن زلزال الغزو العراقي شكل هزة عنيفة جداً للأسرة وللمجتمع الكويتي معاً بات بعدها العود الى تطبيق الدستور حتمياً، إذ شعر كثير من الناس ان أداء النظام بعد حل المجلس عام 1986 هو الذي مهد لقرار العراق ضم الكويت، وان ابسط استحقاقات هذه الكارثة هو العودة الى الدستور. وفي تشرين الأول أكتوبر 1992 أجريت الانتخابات البرلمانية التي أعادت رموز المجموعات السياسية المعارضة الى موقع المحاسبة للحكومة، وشعرت أقلية من الناشطين سياسياً بأنه يحق لها المطالبة بحكومة يرأسها شخص من خارج الأسرة الحاكمة، واعتبرت ان أقطاب الأسرة الذين يقودون الحكومة متهمين بالإهمال والتقصير الذي أدى الى السقوط السهل للبلد بيد الغزاة العراقيين. ولكن هذه الأقلية لم تجد تجاوباً لمطالبها عند الجمهور الكويتي الذي كان مرهقاً ويريد استقرار الأمور وهو الجمهور الذي أسقطت عنه السلطة ديونه المصرفية وزادت رواتبه وقدمت له امتيازات أخرى في عام 1991. ورأى الفريق الأغلب من رموز المعارضة انه يمكن التفاوض مع الأسرة الحاكمة حول مشاركة أوسع من جانب النواب في عضوية مجلس الوزراء بدلاً من الاكتفاء بتوزير نائب برلماني واحد كما العادة منذ 1962. هذه المفاوضات أثبتت ان ولي العهد الشيخ سعد العبدالله الصباح الذي كلف تشكيل الحكومة مفاوض صلب ومتمرس إذ رفض الحاح المعارضة في أن تشارك في الحكومة كتلة واحدة أو تختار نصيبها من الحقائب الوزارية وتسمي حامليها من النواب المعارضين. وطلبت المجموعات المعارضة ثماني حقائب ولكن الشيخ سعد قدم له ست حقائب فقط وقام هو بتسمية شاغليها. وبعد أقل من سنة نصف كان أحد الوزراء الستة وهو الدكتور أحمد الربعي الليبرالي التوجه، يخضع لاستجواب برلماني من قبل الإسلاميين كاد ان يخرجه من الحكومة. وانتهى بذلك حلم المعارضة الموحدة، وكسبت الأسرة الحاكمة الرهان. كان للشيخ سعد أسلوبه الخاص في جعل مشاورات تشكيل الحكومة أداة للتأثير السياسي، فطقوس اختيار اعضاء الحكومة تتضمن ثلاث مراحل: مرحلة اختيار أفراد الأسرة الحاكمة الذين يجري توزيرهم وهؤلاء أربعة أو خمسة ويشغلون وزارات السيادة الثلاث الخارجية والداخلية والدفاع، ومرحلة توزير نواب البرلمان ويتراوح عددهم ما بين واحد الى أربعة في العادة، ثم مرحلة اختيار وزراء تكنوقراط للحقائب الخدمية مثل الصحة والأشغال والتربية. كان الشيخ سعد يستدعي عشرات من المرشحين كل على حدة ويسألهم عن مواقفهم من المشاركة في الحكومة من دون تحديد حقيبة محددة، وبعض من يتم استدعاؤه لا توجد نية لتوزيره وانما الغرض فحص موقفه السياسي أو المجموعة التي ينتمي اليها. وكانت النتيجة انه سنة بعد سنة تتراجع الفرصة لدخول السياسيين المحترفين أو الكفاءات الفنية الى الحكومة بسبب عدم الإيمان بالقدرة على الانجاز في حكومة تفتقد لبرنامج تنمية محدد، كما انه كان يتم دوماً تسريب أخبار عبر الصحافة بتعديل أو تدوير حكومي تجعل الوزراء في حال اضطراب مستمر وعدم قدرة على التخطيط. حكومات 1996 و1999 وفي الحكومات اللاحقة في عام 1996 ثم 1999 أعرض رموز المعارضة عن دخول الحكومة وأثبتت عملية توزير النواب فشلها بل ثبت انه يمكن "تطويع" واستيعاب الرمز المعارض إذا دخل الحكومة كما تأكد في حالات عدة. ولكن محاولات المعارضة للتأثير على التشكيل الوزاري استمرت، وكان الاستجواب البرلماني أفضل خيار لزعزعة الحكومة ودفع رئيسها الى اجراء تعديلات متكررة وتدوير الأزمة لتلافي سحب الثقة من بعض الوزراء. وفي أيار مايو حاربت السلطة المعارضة بسلاحها وحركت استجواباً مدبراً ضد وزير الأوقاف والعدل خالد الكليب وجعلته مبرراً لحل مجلس الأمة وشل مشاريع المعارضة ضدها ولكن الانتخابات التي تلت ذلك أعطت زخماً اضافياً للمعارضة داخل البرلمان خصوصاً بين الليبراليين والمستقلين. في غضون ذلك بدأت صحة الشيخ سعد بالتراجع وصار يغيب في الخارج شهوراً متصلة للاستشفاء، واستغل الليبراليون الذين يناصبونه الخصومة ذلك فحركوا حملة اعلامية وسياسية تدعو لتعيين رئيس جديد للوزراء والفصل بين هذا المنصب ومنصب ولي العهد. وفي نهاية عام 1999 أعلن الشيخ سعد انه سيفوض نائبه وزير الخارجية الشيخ صباح الأحمد صلاحيات اضافية لجهة ان الأخير يمارس عملياً دور رئيس الحكومة، ولكن المسؤوليات التي زادت على كاهل الشيخ صباح لم تتلازم مع الصلاحيات التي يريد، فهو بحاجة لتشكيل الحكومة بنفسه واختيار أعضاء الطاقم الذي يقود، وبدأت خلافات القطبين تظهر للسطح. وكانت حكومة 1999 مضطربة للغاية إذ وصفت منذ البداية بأنها "موقتة" وشهدت استقالات فرادية وجماعية لم يقبلها الأمير باستثناء تلك الخاصة بوزير الإعلام الدكتور سعد العجمي الذي كان بين عناصر الحكومة التي تحض على قبول الشيخ صباح. ثم ظهرت خلافات حادة بين صباح ووزير الدفاع الشيخ سالم الصباح، الوزير الأقرب الى ولي العهد، ويلي الشيخ صباح في مسلسل الإمارة. وفتحت هذه الخلافات الباب واسعاً للجمهور والصحافة للحديث عن أوضاع الحكومة بل عن حال العلاقات بين أفراد الأسرة الحاكمة ومستقبل الحكم. أزمة حكم وفي 31 كانون الثاني يناير الماضي حسم الشيخ صباح أمره فاستقال واستقالت معه الحكومة وطرحت مرة أخرى وبشكل حساس مسألة رئاسة الحكومة، وعقد مجلس العائلة الحاكمة لقاءات مطولة بحثاً عن صيغة جديدة. وكانت الصيغة هي ان يستمر الشيخ سعد في منصب رئاسة الحكومة على ان يتكفل الشيخ صباح اختيار أعضائها، ولطمأنة الشيخ صباح بأن صلاحياته حقيقية جرى استبعاد مشاركة الشيخ سالم في الحكومة الجديدة، وصار الشيخ صباح هو من يستدعي المرشحين للوزارة ويبحث أمر تشكيلها. في هذه الأجواء عادت مجموعات المعارضة الى التأثير على تشكيل الحكومة وصار ديوان الشيخ صباح في ضاحية البدع محطة لممثلي القوى السياسية من الليبراليين والإسلاميين وأصبحت الحكومة الجديدة شأن الجميع. فنواب القبائل اجتمعوا ليعلنوا سخطهم عن عدم أخذهم في الاعتبار في اتصالات الشيخ صباح، ورئيس المجلس السابق النائب أحمد السعدون شكل كتلة من 12 نائباً وصار يهدد بإفشال الحكومة الجديدة إذا ضمت "عناصر تأزيم" ويعني بذلك خصوصاً عودة الدكتور عادل الصبيح الى وزارة الإسكان، وتوعد الإسلاميون وخصوصاً النائب الدكتور وليد الطبطبائي بمواجهة الحكومة الجديدة إذا ما حصل المحسوبون على الفكر الليبرالي العلماني على وزارة الإعلام أو وزارة التربية. والى جانب الضغوط من الشارع السياسي صار على الشيخ صباح أن يسير على حبل مشدود وهو يختار من الأسرة الحاكمة للمناصب الوزارية لأن توزيع كل حقيبة، وخصوصاً الداخلية والدفاع، على فرع من فروع الأسرة له معناه السياسي في مسألة توزيع النفوذ بينها. وأياً كان اختياره فإن القائمة التي سيقدمها الى الشيخ سعد سترفع الى الأمير الشيخ جابر الأحمد الصباح الذي له الكلمة الأخيرة في الأمر.