سلط فوز كتاب "الدم الفاسد" للبروفسورة الراحلة لورنا سيج ب"جائزة ويتبريد" لكتب السيرة أوائل كانون الثاني يناير الضوء على الشعبية المتزايدة في بريطانيا لصنف "المذكرات الأدبية". وكانت الكتب الثلاثة المنافسة على القائمة القصيرة هي: سيرة الكاتبة فاني برني من تأليف كلير هارمان، وحياة هتلر لإيان كيرشو وكتاب تيم هيلتون عن السنين الأخيرة من حياة الناقد الفني الشهير جون راسكن. أي ان لجنة التحكيم اختارت، بدل سير المشاهير هذه، مذكرات سيج عن طفولتها المضطربة عندما كانت تعيش مع والدتها في قرية على الحدود بين انكلترا وويلز في أربعينات القرن الماضي. الشخصية الأبرز في الكتاب جدّها الذي كان قسيس القرية، تلك الشخصية المريرة التي قضت حياتها في كره متبادل مع الزوجة والأفراط في تعاطي الخمر ومطاردة النساء. وتصف لورنا سيج في الكتاب علاقتها الحميمة بجدها، خصوصا حبهما المشترك للكتب سمّاها "لورنا" تيمنا ببطلة رواية "لورنا دون". وعندما مرت سيج بمرحلة المراهقة والخلافات مع امها، كانت الأخيرة تقول لها:"أنت مثل جدك"، أي ان لورنا ورثت عنه "الدم الفاسد" حسب التعبير الانكليزي. المصادفة المحزنة أن البروفسورة سيج توفيت فجأة وهي في السابعة والخمسين بعد اسبوع من فوزها بالجائزة، بعد معاناة طويلة من مرض انتفاخ الرئة الذي يتعرض له المدخنون. وكتب الروائي الأميركي غور فيدال في تأبينها: "كانت خلال عقود متميزة الجمال، بشعر أشقر طويل وعينين زرقاوتين - مع سعال المدخنين المعهود ومخيلة سوريالية". جوائز ويتبريد الأدبية تعطى سنوياً لأفضل كتاب في خمسة من الحقول، الرواية والرواية الأولى والسيرة والشعر وكتب الأطفال. قيمة كل من الجوائز 3500 جنيه استرليني. بعد ذلك تختار اللجان المختصة الكتاب الأفضل من بين الخمسة، ليحصل على جائزة قيمتها 22 ألفاً و500 جنيه استرليني. وتوقع كثيرون أن كتاب سيج سيحصل على جائزة أفضل كتاب. لكن قرار المحكمين، الذي أعلن في حفلة عشاء في 23 من الشهر الماضي، فضلوا عليها بغالبية ضيئلة جدا رواية ماثيو نيل "الركّاب الانكليز" عن الانكليز في جزيرة تسمانيا. وصفت سيج مذكراتها بأنها قصة ثلاث زيجات: جدها وجدتها، ووالداها، وزواجها من زميل لها في الصف بعدما حملت منه وهي في سن ال16 كان ذلك وقتها أمراً نادراً ومشيناً. بعد ذلك ذهب الزوجان الصغيران الى جامعة درهام، حيث بدأت سيج حياتها الأكاديمية المتميزة. عملت سيج منذ 1965 استاذة في جامعة ايست انغليا، واعتبرت من بين ألمع نقاد جيلها، واشتهرت بمؤلفاتها الكثيرة ومراجعتها للكتب في الصحف والمجلات الثقافية،.من بين أهم اعمالها تحرير "دليل كامبردج لكتابات النساء بالانكليزية". ولم يعرف القراء الاّ بعد نشر مذكراتها المدى الذي كان على سيج اجتيازه منذ طفولتها الاشكالية الخانقة لكي تصل الى مكانتها في عالم الثقافة. ولقيت المذكرات تقديراً كبيراً من الكتاب الآخرين والنقاد، لأسلوبها الأدبي واستكشافها مرحلة الطفولة والصورة التي رسمتها لذلك الزمان والمكان. كتاب سيج واحد من "المذكرات الأدبية" التي صدرت في السنين الأخيرة وألقت ضوءاً جديداً على مؤلفيها. من بين هذه كتاب "التجربة" للروائي مارتن ايميس الذي صدر السنة الماضية. وركز المؤلف على علاقته بوالده الروائي كنغزلي ايميس، وحظي الكتاب بالكثير من الاهتمام فيما لقي مؤلفه، الذي يتهمه البعض بالعجرفة والتباعد، تعاطفا من الجمهور أكثر مما في السابق. مذكرات ادوارد سعيد "خارج المكان" خيبت أمل بعض القراء الذين توقعوا أن يجدو فيها تناولاً أكثر مباشرة لقضية فلسطين وأبعادها السياسية. لكنها مذكرات أدبية رائعة ترسم في شكل حيوي متفهم العلاقات ضمن العائلة وتطور وعي المؤلف وشعوره بالغربة. ما هو الفرق بين السيرة الذاتية والمذكرات؟ استاذ الكتابة الأميركي الشهير وليام زينسير أن "المذكرات ليست تلخيصا للحياة، بل هي نافذة علىها ... المذكرات هي فن اختراع الحقيقة". ويقول غور فيدال في مذكراته "الرق الممسوح": "المذكرات هي كيفية تذكر المرء حياته، فيما السيرة الذاتية تاريخ يتطلب القيام بالابحاث والتحقق من الوقائع والتواريخ". هناك الكثير من أوجه الشبه بين المذكرات وفن القص، من فكلاهما يستعمل أساليب مثل الترميز والاستعارة وتطوير الشخصيات والحوار والتلاعب بالزمن. وليس من المستغرب أحيانا ان يتهم افراد العائلة كاتب المذكرات بقصور الذاكرة أو الاختلاق. وحازت مذكرات فرانك مكورت "رماد انجيلا" عن طفولته الفقيرة القاسية في ارلندا ونيويورك على نجاح هائل، ونشر السنة الماضية الجزء الثاني منها بعنوان "Ts". واحتج البعض في ارلندا، وكذلك عدد من الاصدقاء والاقارب، واتهموا مكورت بتشويه قسم من الاحداث واختلاق غيرها. ودافع مكورت بالقول انه كتب مذكرات لا سيرة ذاتية. لا بد من الاعتراف ان من بين اسباب شعبية المذكرات استمتاع الناس بالقراءة عن معاناة الآخرين. ويقول بعض الساخرين ان الميزة الأهم للكاتب هذه الأيام، اذا اراد الشهرة السريعة، ان تتوفر له طفولة تعيسة يصفها بشكل مؤثر في مذكراته. والواقع ان هناك مذكرات تبدو وكأنها تتقصد صدم القارئ. من ذلك أن الأجزاء الثلاثة من مذكرات الأميركي ديفيد بيلزر تحقق مبيعات كبرى على جانبي الأطلسي. وتصور المذكرات العذاب الجسدي والنفسي الذي عاناه على يد والدته وآخرين. عنوان الجزء الأول "طفل اسمه هو" صيغة "هو" في العنوان هي التي تخصصها الانكليزية للحيوان أو الجماد، وعنوان الثاني "الصبي الضائع" والثالث "رجل يدعى ديف". وتحتل الكتب الثلاثة مكاناً متقدماً في قائمة الأعمال الأكثر مبيعاً في بريطانيا. لكن عمل بيلزر لا يستحق صفة "مذكرات أدبية" بسبب سقم الاسلوب والامتلاء بالكليشيهات. عكس ذلك أهال النقداء المديح على كتاب بعنوان غريب هو "عمل عبقري مذهل يكسر القلوب" لديف أيغرز، الذي يروي فيه كيف تكفل لوحده بتربية شقيقه الصغير بعد موت الوالدين. وأصدر ايغرز أخيرا طبعة جديدة تتضمن مراجعة للنص الأصلي تعطي فكرة عن طريقته في كتابة المذكرات اضافة الى توضيح منه لاغفال بعض عناصر القصة وتبرير ذلك الاغفال. من أوائل موجة المذكرات الأدبية في شكلها الحديث في بريطانيا كتاب بليك موريسن "ومتى رأيت أباك للمرة الأخيرة؟" الذي صدر في 1993. مادة الكتاب تأملات موريسن في طفولته وعلاقته بوالده، على خلفية الموت البطيء بالسرطان للأب الذي كان طبيباً. وفاز هذا العمل المؤثر والصريح بعدد من الجوائز الأدبية. زار موريسن سورية بدعوة من مجلس الثقافة البريطاني والقى في دمشق كلمة عن الكتاب، وكان من بين المستمعين طبيب سوري بلغ من تأثره أنه قرر ترتيب ترجمة عربية له. من المذكرات الأدبية المرموقة الأخرى "عطر الورد المجفف" الذي وصف فيه تيم لوت صراعه ضد مرض الأكتئاب وانتحار والدته. تبين مذكرات كهذه ان عصرنا، بوسائل الاعلام المتطفلة، خصوصا برامج اللقاءات التلفزيونية حيث نرى الأفراد وهم يطرحون بحرية كل أنواع المشكلات الشخصية، يشجع الأدباء أكثر من أي وقت مضى على الكتابة الصريحة عن قضايا كانت تبقى مخفية، مثل السرطان والأمراض النفسية والانتحار والجنس والعلاقات العائلية وما تعرضوا له في الطفولة من صعوبات وتعاسة. وتخبرنا مذكرات الكاتبات البريطانيات الكثير عن تغير دور المرأة في بريطانيا عبر الأجيال، والمآزق المستمرة أمام النساء في حياتهن. وتبين كاتبات مثل سيج الدور الذي تلعبه الكتب والكتابة في مساعدة الكثيرات على تخطي ظروفهن الصعبة. فيما تحدثنا دوريس ليسنغ في مذكراتها التي تقع في جزءين عن افلاتها من الاجواء الخانقة لمجتمعات البيض في أفريقيا أثناء مرحلة الاستعمار، وذلك من خلال النشاط السياسي وكتابة الروايات والانتقال الى لندن. من المذكرات الأكثر ابداعا "التزحلق الى القطب الجنوبي" لجيني ديسكي. ويروي الكتاب، بشاعريته الجميلة وذكائه وطرافته، ذكرياتها عن والديها وطفولتها الصعبة وتجربتها في التزحلق على الجليد ورحلة بحرية الى القطب الجنوبي - هي في وجه آخر منها رحلة الى داخل الذات. وتروي كيف انها في سن ال14 قضت فترة من الزمن في مصح عقلي، ثم قررت عندما بلغت ال18 ان لا ترى امها أبداً. وجاءت استعادة ديسكي لحياتها المبكرة وشخصية أمها تجاوبا مع الحاح ابنتها على معرفة تاريخ العائلة، وكانت أمها توفيت قبل ذلك. المذكرات الأخرى التي نالت الكثير من الاعجاب كتبتها أندريا آشوورث، المحاضرة الشابة في جامعة اكسفورد. وتتحدث آشوورث في "يوماً ما في بيت يحترق" عن منشئها في الطبقة العاملة وموت والدها غرقاً وهي في الخامسة وزوجا امها الثاني والثالث اللذان اعتادا ضربها واكتئابها المزمن ومشاعر الانتحار. والد أندريا ايطالي مالطي، أورثها بشرة سمراء أبرزت كونها أجنبية وعرضتها الى الاضطهاد المدرسة على اعتبار انها "باكستانية". تملك أندريا آشوورث موهبة الكتابة من منظور الطفولة، وهي لا تنسى الجانب الضاحك في الطفولة، على رغم ظروفها الحالكة. وكما في حال سيج وديسكي فقد حققت آشوورث حريتها من خلال ذكائها. وكانت في طفولتها تخفي قائمة طويلة من الكلمات الصعبة التي تكتشفها في روايات جين اوستن وتوماس هاردي والأخوات برونتي و د. ه. لورنس. وتنهي مذكراتها بوصولها الى اكسفورد والفصل الدراسي الأول هناك، تاركة خلفها منشأها العائلي الكارثي. طرحت رواية "الفراشة المخزقة"، وهي الأخيرة من مرغريت درابل تكتب الروايات منذ اربعة عقود السؤال عن العلاقة بين المذكرات والرواية. وتقول درابل ان روايتها تعتمد في شكل وثيق على شخصية امها، الجامعية الذكية التي شعرت دوماً انها سجينة الأسرة وعرفت في الوقت نفسه كيف تسيطر كزوجة وأم. وتساءل البعض عن السبب، اذا كان الكتاب يقوم على تلك الشخصية الحقيقية، في تقديمها من خلال الرواية وليس المذكرات. لكن هذا التحفظ لم يحل دون نجاح الكتاب، وهو من بين الأكثر مبيعا منذ مطلع السنة الجديدة. لندن - سوزانا طربوش