أصبحت عملية السلام في الشرق الاوسط كسفينة في بحر متلاطم لا ربان لها ولا بوصلة ولا خريطة. كان لعملية السلام راعٍ هو الإدارة الأميركية، وبعد متابعة عن كثب لعمليات التفاوض طوال سنوات، تقدم الرئيس الأميركي بيل كلينتون بحزمة "أفكار" لحل لب النزاع، القضية الفلسطينة ولا أقوّم هذه الافكار، ولا أحكم عليها، ولكن الذي حدث ان طرفي النزاع أعلنا عدم رفضهما لهذه "الأفكار" على وجه الاطلاق، مع عدم قبولها في الوقت ذاته، وسلما بأنها تصلح اساساً للتفاوض، قائماً للمرة الاولى علي شمول كل الملفات، بما في ذلك تلك التي لم تبحث من قبل وأرجئت لمراحل التفاوض الختامية، لاستعصائها وصعوبة حلها القدس، حق العودة للفلسطينيين على سبيل المثال، غير أنه تقرر الآن عدم الاعتداد بما جرى من تفاوض استناداً إلى "أفكار" كلينتون واعتبار هذه الأخيرة لاغية كأساس للتفاوض بما في ذلك المباحثات المكثفة التي أجريت في طابا قبل انتهاء رئاسة كلينتون بأيام ووصفها الجانب الإسرائيلي بأنها احرزت تقدماً ملموساً. وفي قمة كامب ديفيد بين كلينتون وباراك وعرفات في تموز يوليو الماضي، طرح مبدأ، هو أن تسعى الاطراف الى إنجاز أكبر قدر من الاتفاقات الممكنة حول اي جانب من جوانب النزاع أمكن التوصل الى اتفاق حوله، على ألا يعتد بالاتفاقات الجزئية التي يتم التوصل اليها ما لم يتحقق اتفاق شامل. وقيل إن الاتفاقات الجزئية اتسعت لما يقرب من 90 في المئة من المشاكل الخلافية، ولكن لتعذر التوصل الى اتفاق حول ال 10 في المئة المتبقية، اعتبر ما انجز صفر في المئة. وبدا فشل كامب ديفيد، وبالذات فشل الاتفاق حول الملفات الأكثر أهمية القدس، حق العودة فشلاً لعملية أوسلو برمتها، وأعلن رئيس وزراء إسرائيل الجديد، آربيل شارون، بمجرد توليه السلطة، أن "أوسلو ماتت". وكما أن شارون ليس حريصاً على أن تواصل الادارة الأميركية دورها كراعية للعملية دائمة الحضور، فإن إدارة بوش الجديدة تبدي هي الأخرى رغبة في عدم الانشغال بقضية الشرق الاوسط كما انشغلت بها الإدارة الأميركية السابقة. وها هو وزير خارجية بوش، الجنرال كولين باول، وقد اصدر اوامره الى الديبلوماسيين الاميركيين، بمجرد تقلده منصبه، باستبدال مصطلح "عملية السلام" بمصطلح "المفاوضات" أو "تحركات" من أجل السلام، ومعنى ذلك عدم النظر الى عملية السلام ككل ينبغي ان يتصف بالاستمرار والتكامل، وإنما كأجزاء متناثرة وارد تعرضها للانقطاع وعدم التتابع. وفي هذا تلتقي إرادة بوش من إرادة شارون. إن عملية السلام فقدت المرجيعة، ولم تعد لها قواعد، رغم كل ما يقال عن انجازات تمت في المفاوضات، وإن تعذر الاعتداد بها لعدم التوصل الى اتفاق كلي، ولم يعد من أسانيد وارد الاحتكام اليها غير قراري مجلس الامن 242 و338 وقد استهلكا من كثرة الرجوع إليهما من دون ان يفضي ذلك إلى نتائج عملية، لما ينطوي عليه قرار 242 بالذات من أوجه لبس، الأمر الذي يجعلنا نقول إن مرجعيات عملية التسوية تاهت، وأضحت غائبة تماماً. هل من المتصور أن تصبح المرجعية هي تلك التي أرسى أسساً لها الرئيس بوش الأب، قبل ان يتولى كلينتون الرئاسة الأميركية لمدتين متتاليتين؟ فلقد نجح وزير خارجيته، جيمس بيكر، في اغتنام فرصة غزو العراق للكويت، كي يجعل من الحرب العربية - العربية في الخليج مدخلاً لسلام عربي - إسرائيلي. لقد اقنع بيكر الدول العربية الخليجية بأن حاكماً عربياً كفيل بأن يكون شراً أكبر من إسرائيل، ومن هنا، فإن الوقت حان لعملية سلام مع إسرائيل، تتسع للدول العربية جميعاً، وتكون اداة الانظمة العربية لاتقاء شر مواجهة مع إسرائيل في وقت فرض عليها ان تتقي شر حاكم عربي محدد!... وكانت عملية مدريد، فهل تجدد إدارة بوش الابن مرجعية مدريد مرة اخرى؟ ثمة صعاب في ذلك، إذ أن الشرق الأوسط على مشارف الألفية الثالثة مختلف عما كان عليه في العقد قبل الأخير من القرن العشرين، إذ يتعذر إقناع الأنظمة العربية بأن صدام حسين هو شر أكبر من آربيل شارون، وبعد فتح ملف القدس، وبروز خلاف العرب جميعاً مع إسرائيل بشأن السيادة على المقدسات الإسلامية في القدس كأساس لتوحيد الصفوف العربية، يتعذر أن تظل الخلافات العربية بشأن العراق مسألة تكون لها أولوية على أية مسألة اخرى خصوصاً مع تردي الحال داخل العراق، وبروز معاناة الشعب العراقي كقضية أضحت تشغل الرأي العام العالمي، لا العربي وحده. ومع ذلك، لا ينبغي استبعاد أن تجعل إدارة بوش من إعادة فرض الحصار على العراق مدخلها الى الشرق الاوسط. صحيح أن اللوبي اليهودي في الولاياتالمتحدة صوّت في غالبيته الساحقة تأييداً لغور ضد بوش في انتخابات الرئاسة الأميركية. وصحيح ايضاً ان العديد من كبار العاملين في إدارة بوش ذوو علاقات وطيدة باللوبي النفطي الأميركي، وبالتالي ذوو علاقات بالدول النفطية العربية في منطقة الخليج. غير أن هذا لا يستتبعه أن بوش ينبغي أن يكون مناصراً للجانب العربي بمختلف مكوناته، فإنه ايضاً قريب الى اليمين المتطرف المسيحي الأميركي، المعروف بمناصرته القوية للدولة اليهودية. ومن هنا، فليس بغريب ان يحيي بوش ديبلوماسية اميركية تناصر الدول الخليجية العربية، في الوقت نفسه الذي تواصل فيه عداءها للنظام العراقي من دون هوادة. ومن هنا تبرز الحاجة كي يكون للأطراف العربية دور في ملء الفراغ، فإن شارون بحكم خلافه مع باراك، يتعين عليه طرح استراتيجية تحرك لا بد أن تختلف عن رؤية باراك، ولو لمجرد تلبية تطلعات الأغلبية الكبيرة - غير المسبوقة - التي أتت به الى الحكم ضد باراك. وإذا كانت مرجعية شارون لا مفر من أن تكون مختلفاً عليها إسرائيلياً فكيف تكون موضع اتفاق مع العرب؟! ثم إن بوش بحكم سعيه الى التميز عن كلينتون تمسك بإلغاء "أفكار" كلينتون كمرجعية، وبات لا يعتبرها تعبر عن موقف الإدارة الأميركية، وهي "أفكار" لا شك في انها تنطوي على سلبيات خطيرة، ولكنها لم تكن مرفوضة بتاتاً، ولم تختلف الأطراف على أنها تصلح اساساً للتطوير، وهكذا اصبح صاحب القرار الإسرائيلي كصاحب القرار الأميركي في وضع لا تتيح له الفرصة لاعتماد مرجعية موضع قبول الأطراف المتنازعة جميعاً، وهذا أمر بالغ الخطورة مع تقلد السلطة في إسرائيل مغامر يثبت تاريخه أنه لا يتردد في الإقدام على جرائم شنيعة، بل ربما اصبح استعداده للمغامرة أكثر من اي وقت سابق بعد حصوله على أغلبية ساحقة في الانتخابات، الأمر الذي سوف يزيده ثقة واعتزازاً بأحكامه، وقدرة على تورط المنطقة برمتها في كارثة كبرى. هل بوسع القمة العربية، المزمع عقدها في آذار مارس المقبل في عمان، أن تطرح مرجعية؟ فلا يكفي في هذا الصدد إعلان الأطراف العربية أن مرجعيتها هي السلام، بل السلام ك"هدف استراتيجي" بل لا بد من استثمار عجز الطرفين الآخرين، أميركاً وإسرائيل، عن التقدم بمرجعية واضحة ومفصلة كي يبادر الجانب العربي بهذه المهمة، وعلى نحو يكشف مغامرات شارون على أنها خارج المرجعية ومدانة سلفاً. لا بد من تعريض شارون للعزل كلما انتهك الشرعية الدولية، واستغل غياب اية مرجعية ليطلق العنان لاندفاعاته ومغامراته. من قبل كانت قرارات القمة العربية لا تخضع لمتابعة او محاسبة، لعدم تقرير دورية اجتماعاتها والتزام عقدها سنوياً، الآن تقرر ذلك، وهذا ينبئ بإمكان تقرير دور جديد لها، فهل تستثمر الفرصة وتثبت القمة قدرتها على مواجهة تحدٍ هو مصيري للمستقبل العربي عموماً؟ * كاتب مصري.