قبل أن ينقلب أحد الجنرالات البولنديين على السحنة البرلمانية والمدنية لسلطة الحزب الشيوعي وقيادته، ويعلن الأحكام العرفية، ويلغي اقرار الحكم المدني الحزبي بنقابة "التضامن" المنبثقة من "المجتمع" والبولنديون، شأن البلدان التي شاء لها حظها السعيد ان يتسلط عليها حزب شيوعي و"ديكتاتوريته الديموقراطية والشعبية"، كانوا يقتصرون على "المجتمع" فلا ينعتونه لا بالمدنية ولا بالحضارية ولا بالأهلية دلالةً على كل ما هو خارج "دولة" الحزب الواحد والحاكم، وخارج استبداده بالسياسة والتمثيل والإدارة والوظائف والأعمال والأمن والتشريع والاعلام والأفكار والمشاعر والثقافة الخ" والاقتصاد في النعوت نجم عنه اقتصاد في التأمل الاشتقاقي على نحو تأمل السيد انطون المقدسي :"والحضارة من الحضور والبدوي ليس حاضراً..."، "الحياة" في 4 شباط /فبراير - قبل انقلاب الجنرال ياروزيلسكي هذا شنت الصحافة السوفياتية حملة على النقابة العتيدة. وكان أحد محاور هذه الحملة تهمة النقابيين البولنديين، وأولهم ليش فاليسا أو ليخ فاونسا، على ما كتب اسمه من بعد، بتقاضي الرشوة وقبولها من وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية. وعللت الصحافة الروسية الشيوعية والمركزية "الديموقراطية" انضمام مئات الألوف من العمال البولنديين الى النقابة الجديدة وغير الرسمية بضخامة الرشوة الاستخبارية. وهي بلغت، يومها أي قبل عشرين عاماً، أربعة ملايين دولار. وأذابت الدعاوة والدعاوة الشيوعية، اللينينية، على الدوام جزء لا يتجزأ من اثنين: "دعاوة وتحريض" كل علل حركة المجتمع البولندي العريضة والعميقة، واللبنة الأولى في انهيار المعسكر الفولاذي، في الملايين الاستخبارية والأميركية. وغداة عشرين عاماً، ومن غير جواز المقارنة بين الحركة المجتمعية العريضة والعميقة البولندية وبين "الأفكار المتداخلة" و"الحشو" و"المتاهة" التي ينشرها بعض الكتاب السوريين في الناس على تقويم السيد مقدسي بيانات الكتاب السوريين، يذهب وزير الإعلام السوري السيد عدنان عمران مذهباً يشبه بعض الشبه الدعاوة الروسية المركزية. أما الأربعة ملايين دولار فأصبحت "20 مليون يورو تصرف على أمور المجتمع المدني" الحياة"، في 30 كانون الثاني/ يناير المنصرم. وهي جزء من "80 مليون يورو" يقدمها الاتحاد الأوروبي "مساعدات" الى "الدول". وعلى هذا، فهي "مكافآت... سخية جداً" توزع على "المتعاملين مع السفارات" الأوروبية. والحق أن الإعلامي السوري الأول، حرفة ورتبة، لم يرم أحداً، لا من "ال99" ولا من "الألف"، بتهمة "العمالة". ولكنه روى، على سبيل الإخبار والنقل، ان "مسؤول المجتمع المدني" - وهو لقب لقّب به السيد عمران السيد سعدالدين ابراهيم، المدرس والباحث الاجتماعي المصري، من غير اعلام المراسلين "اخوته" في المهنة عن سند مسؤولية سعدالدين ابراهيم - يحاكم "بتهمة أخذ فلوس من هيئة أميركية" وقد تكون أوروبية، ف"الشراكة" الأوروبية - الأميركية على ضفتي الأطلسي معروفة ولا يتستر عليها طرفاها أو ضفتاها. وسمع الوزير "مسؤولَ المجتمع المدني"، وهو "لا يستبعد" قيامه "بمهام أمنية" تكلفه بها "جهات أجنبية"، سمعه يقول في ندوة ببيروت ومثل هذا القول يسمع ببيروت من غير شك كثيراً قبل سنة أن المجتمع المدني "هو ثمرة عمل ومسؤولية الدول المتحضرة". وسمعه يقول ببيروت كذلك أن "من واجبات الدول المتحضرة أن تتدخل عسكرياً لحماية المجتمع المدني في الدول الأخرى"، غير الأميركية ولا الأوروبية. ولكن هذه المقدمات الوصفية والتقريرية، أي الاعلامية، لا يبني عليها السيد عمران طعناً في المجتمع المدني، ولا يخلص منها الى التنصل من المجتمع المدني. ف"الاتحادات الطلابية والنقابات المختلفة والاتحاد النسائي والجمعيات الخيرية التي تعنى بالأيتام والأطفال"، والنوادي الرياضية والمخيمات واللجان والروابط العائلية وغيرها مما لم يحصه الإعلامي الأول، "ماذا تعني ... إذا لم تكن تعني المجتمع المدني". وهي حتماً تعني المجتمع المدني. فإذا حمل القارئ أو السامع ما قاله السيد عمران على أرصدة اليورو والسفارات والمهمات الأمنية والقوة العسكرية، إذا حمله على تنديد بالمجتمع المدني، أو طعن عليه، فما على القارئ أو السامع إلا التبصر في فهمه والرجوع فيه. فاحتجاج الوزير الأول انما هو احتجاج للمجتمع المدني السوري القائم والفاعل و"الشامل"، وليس احتجاجاً عليه. فالمجتمع المدني إذاً مجتمعان متناقضان: واحد "تعبير أميركي بالأصل"، ويتصل بالسفارات والأمن أي التخريب وأرصدة الاتحاد الأوروبي والحماية العسكرية، وآخر دعا "الحزبُ" حزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم "دوماً اليه" من طريق دعوته القوى السياسية الى "تعزيز تنظيماتها المهنية والنقابية والفكرية على قاعدة إقامة المجتمع الأهلي" صحيفة "البعث" الحزبية في 1 شباط. فالأول "مستورد ووافد في الشأن السياسي"، على قول الصحيفة الحزبية المتفق مع قول وزير وصاية الصحيفة. أما الآخر فأصيل و"أهلي"، على معنى الأصالة والعبقرية الذاتية. والقرينة الجلية على اختلاف المجتمعين، على رغم تسميتهما اسماً واحداً، هي ان الدخيل يفرِّق بينما الأصيل يجمع. فاختلاق "معارك وهمية" و"أعداء لهذا التيار أو ذاك"، واطلاق "التصنيفات والتقسيمات بين حرس قديم وحرس جديد أو جهة مغلقة وأخرى منفتحة" "البعث"، أمارة على الدخالة وعلى ارادة الشر "لشعبنا وبلدنا"، اما الأصالة فرأسها الإقرار ب"وحدة المجتمع": "فالمجتمع واحد ونسيجه واحد وكل ما يمس وحدة المجتمع هو تهديد للمجتمع بأكمله" ويريد الوزير بوحدة المجتمع: وحدة أجزاء المجتمع الصورية مثل الطلاب والنقابات والنساء وأهل الخير والأيتام، أو مثل "قوى الشعب المنتجة والحية وشرائح المثقفين والمفكرين" على قول الصحيفة الحزبية، ويريد وحدة المجتمع و"الدولة"، من وجه ثان. فالأصيل واحد في نفسه، ولا يدخله الاختلاف، المتوهم والمختلق، إلا من غيره. فإذا هجم بعض البدو على مزارعين بالسويداء وقتلوا منهم من قدروا على قتله، ومنازعات البدو وأهل الزرع ترقى الى هابيل وقايين على أقرب تقدير، لم يشك السيد طيب تيزيني، مؤرخ الفلسفة التنويري، في أن "مناسبة مدينة السويداء"، على ما يسمي الحادثة الأهلية الدامية متعففاً ومكنياً، "رسالة أميركية واسرائيلية لسورية" ومحاولة من "محاولات التفكيك والتهشيم من الداخل والخارج" ومن "محاولات الاختراق الوطني من الداخل والخارج" كذلك وعلى الدوام "السفير" البيروتية في 18 كانون الثاني. ووحدة المجتمع هذه، وعلى النحو الذي يوجبها عليه أصحاب "الرأي"، من المحال أن تتسع ل"آخر" من أي ضرب كان هذا الآخر، رأياً أو جماعة أو تاريخاً أو ثقافة أو مصلحة ونازعاً. فالآخر هو السفارات والفلوس والتعبير الأميركي والتدخل العسكري والتهديد و"المهام الأمنية" والمتعاملين... وهو، على هذا، النقيض والعدو و"الأميركي - الإسرائيلي". ولا يفرِّق، ولو على وجه النظر، السلطة من المجتمع أو "الشعب"، أو "الوطن"، والحاكم من المحكوم، وصاحب الأمر من المواطن، و"فوق" من "تحت"، والعام من الخاص، وجماعات المواطنين بعضهم من بعض بحسب معايير القوم والجنس والإقامة والدخل والمهنة والمعتقد، ويرتب على هذا الفرق ما يترتب عليه من لحمات ومصالح متباينة ومختلفة، لا يفرِّق إلا داعية "مواجهة" "المجتمع المدني في مواجهة الدولة" على قول عمران وخلاف وشقاق. وانكار "المواجهة" والخلاف والمنازعة بذريعة اختصاص "كل مجتمع ب حريته السياسية التي تخضع لخطوط حمر" ووزير الاعلام اليوم كان ملحقاً عسكرياً في سفارة بلاده بفرنسا في العقد السابع، وبذريعة وحدة المجتمع، يترتب عليه انكار كل قيد على السلطة والحكم من أي مصدر كان هذا القيد، وأياً كان الإجراء الذي سلكه القيد أو سلكه طلبُ القيد، انتخاباً سياسياً أو تكليفاً ظرفياً أو حركة تلقائية وموضوعية أو مقاطعة سلبية أو رأياً معلناً أو تظاهراً... والاشتراط على "الرأي الآخر" أن "يحدث في اطار الدستور ولا يقوم على المساس بالوطن ووحدة الوطن وما نصت عليه القوانين والأنظمة"، ووجوب خطو "الخطوة في موعدها وبعد ان نتهيأ لها بالكامل" السيد عمران - هذا الاشتراط يطلق يد "الرأي" الحاكم في "الرأي الآخر" المحكوم إطلاقاً لا يقيده قيد من قانون، ولا من هيئة مستقلة ومحكِّمة، ولا من تداول أو من ميزان قوى. فالإجماع العام والدائم على رأي أهل السلطة والقوة، أو السلطان، هو معيار الحكم والحال هذه. ويفترض هذا ثباتاً وتماسكاً لا يتوفران في عالم الأحياء والفناء، فكيف بهما في عالم السياسة المتغير. وإذا تصدى الحاكم للإصلاح والتحديث، أو أراد انتهاج "نهج الإصلاح والتطور" "البعث"، على ما يعلن الحكم اليوم، تعذر عليه على نحو ما يتعذر على أنصار "مجتمعه المدني" هل هم "معارضته"؟ صوغ الاصلاح هذا في لغة مفهومة تدل على وقائع وحوادث ولا تقتصر دلالاتها على أوامر ورغبات. فالمعضلة التي يتشارك طرفا "نهج الإصلاح والتطور" في الوقوع في أسرها ناتجة عن التمسك بمذهب رسمي يقضي بالإعراب عن الاصلاح وكأنه منة من "الجهات التي تريد أن تسمع" "البعث"، ولا داعي اليه إلا كرم الحاكم و"ثقته العالية بنفسه". ومثل هذا "الإصلاح" هو استمرار على النهج الماضي، بل ليس هو الا النهج السابق، الذي كان كامل الاستجابة لمقتضيات زمنه، حاضراً وراهناً وعلى مثال الاستجابة نفسه. ولما كان الجميع، حاكماً و"مدنيين"، يعلمون ان موجبات الاصلاح أشد إكراهاً من المزاعم المعلنة، رجا الجميع، من وجه ثانٍ، ان يحصل الاصلاح ويؤتي ثماره من غير ان يشعر أحد بحصوله، ومن غير ان يضطر أحد الى احراج أحد أو خدشه، ولو بالكلام. فلو كان هذا كله حلم ليلة صيف، واستفاق "الشعب العربي السوري" منه "متطوراً" و"متمدناً" و"مصلَحاً"، والأمور كلها على ما كانت عليه والناس كلهم على ما كانوا عليه، لصدقت مقالات الرؤساء والوزراء والصحف والمثقفين والتجار وعاش "الشعب" في نعيم حكايات كان يا ما كان. * كاتب لبناني.