لا أعتقد أن احتجاب مجلة "الآداب" اللبنانية عن الصدور سيشكل صدمة لأحد. فهذه المجلة التي طال أمد احتضارها عقوداً وليس سنوات، لم تعد منذ وقت طويل تشكل علامة في طريق التحديث الأدبي في شكل خاص والثقافي في شكل عام. ولم يعد ينتظر صدورها أحد. فالحياة الأدبية في الوطن العربي بما واجهت من تحديات وعاشت من مواجهات استفهامية وما أنتجت من قيم فكرية وجمالية جديدة كانت تجاوزت هذه المجلة. وتجاوزت قدرتها القديمة على أن تكون حاضنة للتحولات الأدبية. ولو أن هذه المجلة اختارت أن تتوقف عن الصدور وهي في عز مكانتها ومجدها، أو على الأقل في موقع أفضل مما انتهت إليه لكانت ذكراها اليوم تمثل لحظة عاطفية يحن إليها الإنسان حنينه الى طفولته أو لحظات عشقة الأول، كما هي الحال مع مجلتي "حوار" و"شعر". ولكنها ظلت حاضرة في لحظة غيابها، وهي عاجزة عن إخفاء مظاهر أو ملامح أو علامات شيخوختها، الأمر الذي جعل أجيالاً من الأدباء العرب لا تنتبه الى وجودها أو في أحسن الأحوال تنظر الى هذا الوجود بإهمال مشوب باللامبالاة. منذ زمن بعيد وصدور عدد جديد من مجلة "الآداب" لا يشكل أي حدث مفاجئ أو مطلوب أو جزءاً مما يجري في المشهد الثقافي العربي. بل صارت نسخ أعدادها تتكدس لدى الباعة من غير ان يشعروا بأن هناك خطأ ما في سلوك القراء. فهي لم تعد تلك النافذة التي يطل منها الأدب العربي الحديث على القراء أو يطل القارئ من خلالها على آخر مستجدات الحياة الأدبية في الوطن العربي، كما كان حالها في الخمسينات.، ولذلك فإن الاطلاع عليها أو تصفحها كان أشبه بتصفح مجلة قديمة مرت أعوام وأعوام على صدورها. في معنى أن قراءتها وهي مجلة دورية ملزمة بمتابعة دورة الحياة الأدبية المعيشة لا تعني سوى شيء واحد: الهروب من الحاضر في اتجاه الماضي. ولم يكن صاحبها الدكتور سهيل ادريس بكل شجاعته الأدبية، وهو الذي تبنى في مرحلة ما جزءاً من مشروع الحداثة الأدبية في الوطن العربي، في حجم الاعتراف بأن مجلته تخلفت عن الحياة الثقافية العربية، شكلاً ومضموناً. وأن "فتاته" الحسناء هرمت وانفض عنها المعجبون. وربما هو لم يكن يرغب في تصديق ذلك ومن لحق به كان كذلك في إعلان النعي الذي ألقيت أسبابه على عاتق العجز المالي وغياب التمويل المناسب. وإذا ما كان البعض ينظر الى احتجاب هذه المجلة عن الصدور انطلاقاً من كونه خسارة عظيمة فإن مصدر هذا الإحساس شخصي أكثر مما هو ثقافي. ذلك لأن هذا البعض، وقد غلبه الحنين الى عمره الذي مضى، لا يزال مسكوناً بالذكريات ولا يستطيع منها فكاكاً. أو أنه يشبه الى حد كبير المجلة ذاتها في عدم اتساقه الأدبي مع الزمن، وإنكاره التحولات التي شهدها الأدب العربي. ان "الآداب" وهي مجلة رائدة في عالم الأدب العربي الحديث ماتت قبل زمن طويل. وهناك اليوم أجيال من الأدباء العرب لم تسمع بها ولم تسع إليها لا على مستوى النشر ولا على مستوى القراءة. اما استمرارها في الصدور فإنه لا يفسر الحاجة الثقافية إليها بقدر ما يفصح عن رغبة صاحبها النرجسية في التجمل انكاراً لسطلة الزمن، وهي أقوى من كل إرادة لإنكارها. ولذلك فإن توقفها لا يشير كما ظن البعض الى نهاية مرحلة. فالمرحلة الأدبية التي تمثلها الآداب. كانت انتهت منذ ستينات القرن الماضي، ولم تبق العودة إليها نافعة إلا على مستوى الدرس النقدي التاريخي. وكان الشاعر الراحل يوسف الخال فطناً حين أنقذ مجلته "شعر" من السقوط في فخ معاداة الزمن فاستأنف وجودها الخيالي من طريق إغلاقها. فظلت فتاته حسناء الى الأبد. ولكن في الوادع الأخير ل"الآداب" لا يقف إلا الذين عاشوا في ماضيها متحسرين على ماضيهم.