نشر الدكتور مسعود ضاهر في جريدة "الحياة" في عددها الصادر بتاريخ 18/1/2001، مراجعة لكتابي المعنون "العرب والتجربة الآسيوية: الدروس المستفادة" الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية - بيروت، في نهاية العام 2000. ومع تقديري لرصيد الدكتور ضاهر العلمي كباحث في التاريخ الحديث، فإن مراجعته لدراستنا اتسمت بالقراءة المجتزأة للنص وتشويه لأهم مقولاته التاريخية. وأودُ أن أوضح للقارئ القراءة الصحيحة لأهم المقولات التي جاءت في الدراسة. كان بزوغ التجربة الآسيوية في التنمية والنهضة، في زمن وجيز لم يتجاوز ثلاث حقب، نموذجاً تاريخياً جديداً في عالم التنمية والنهضة، يختلف جذرياً عن النماذج التقليدية التي بشَّر بها "فكر التنمية" في مرحلة استراتيجية "الإحلال محل الواردات"، التي عمل بها في الخمسينات والستينات من القرن العشرين. وجاء في دراستنا ما يلي: - "أثبت النموذج الآسيوي، لدى تشغيله، كفاءة عالية في تحديد العلاقة الصحية بين الاقتصاد المحلي والاقتصاد العالمي في التوقيتات المناسبة، من حيث درجات الانفتاح على السوق العالمية: تصديراً واستيراداً، ونوعية تدفقات الاستثمار الأجنبي الى الداخل والى الخارج". - "ساعد بروز معالم النموذج الآسيوي في التنمية والنهضة الاقتصادية على بلورة الخطوط العريضة لنظريات النمو الحديثة المسماة "النمو الذاتي" باعتبارها عملية تاريخية متميزة تماماً عما جرى في بدايات عمليات التراكم الرأسمالي في البلدان الغربية المتقدمة، من ناحية، وعن نماذج التنمية في بلدان العالم الثالث كما عرفناها في الخمسينات والستينات والسبعينات، من ناحية أخرى". - "أسفرت التجربة الآسيوية في التنمية عن ظهور ما يسمى نظرية السوق المحكومة. وتتلخص المقولة الرئيسية في هذا الصدد في أن الدولة كانت قائدة للسوق في بلدان آسيا الناهضة، ولم تكن الدولة مجرد تابع أو معضد للسوق". وركّزنا في تحليلنا على الأهمية الكبيرة للدور الذي تلعبه الأوضاع المؤسسية في تلك المجتمعات، والدور الذي يؤديه البعد الثقافي، وخصوصاً العادات والأعراف للمجتمعات المحلية، وتخلف مؤسسات وعلاقات السوق في تلك البلدان. وهي الجوانب التي لم يهتم بها كثيراً الفكر الاقتصادي التنمويّ القادم من الجامعات ومراكز الأبحاث في الولاياتالمتحدة وبلدان أوروبا الغربية. وحول الاستفادة من تلك التجارب، أشرنا بوضوح إلى أن النماذج "الأكثر صلاحية" بالنسبة لنا في "المنطقة العربية" هي: كوريا الجنوبية في طبعتها الثانية، وماليزيا، والصين، والهند. وقلنا نصاً: "إذا كنا جادين في فهم آليات ومحركات النهضة على الطريقة الآسيوية، وفي ظروف تاريخية مغايرة، علينا أن ندرس بعناية - نحن العرب - تجارب بلدان أخرى بخلاف النمور، مثل الهند والصين وماليزيا. فهي تجارب حقيقية وجادة في التنمية، ولم تكن محض نتاج الحرب الباردة". فكيف يستقيم ذلك مع ما جاء في مراجعة الدكتور مسعود ضاهر من أنني وصلت الى استنتاج مؤداه ان: "لا دروس يستفيد منها العرب لإطلاق نهضة عربية جديدة ذات ركائز ثقافية واقتصادية وحضارية مستوحاة من التجارب الآسيوية الناجحة"؟ بل لعل من أهمّ ما أشرنا إليه في دراستنا، هو دور "نموذج الإوز الطائر" في عمليات التكامل الاقتصادي بين مجموعات من البلدان الآسيوية الناهضة. ولعل الفصل الذي خصصناه لهذه التجربة هو الإشارة الأولى من نوعها في الدراسات باللغة العربية. وأوضحنا بما لا يدع مجالاً للشك أن ذلك النموذج يمكن الاستفادة منه على صعيد المنطقة العربية كلها، إذ يمكن صوغ "التقسيم الاقليمي للعمل" في ما بين الأقطار العربية من جديد لتعظيم علاقات الترابط "الأمامية والخلفية" بين فروع النشاط الصناعي على صعيد مجموعات بلدان المنطقة العربية، وليس على صعيد "القطر الواحد". وبالنسبة إلى ما أضافته "التجارب الآسيوية" الى الفكر التنموي، أشرنا الى أن "علاقات السببية" في النموذج الآسيوي أخذت مساراً آخر متميزاً. إذ لم تكن عمليات النمو والتنمية تحركها "دينامية الصادرات"، بل على العكس، كانت "دينامية عمليات النمو والتنمية" هي التي تحفز وتنشط "دينامية الصادرات". فما صنع "القفزة التصديرية" الكبرى في بلدان شرق آسيا كان "توعية النمو"، وارتباطه بالتقدم التكنولوجي والجهد الانمائي الذاتي. وركَّزنا على أن نجاح استراتيجيات التنمية والنهوض الاقتصادي هناك إنما يعودان الى جودة وكفاءة السياسات القطاعية، والسياسات التصنيعية، والسياسات التعليمية، والسياسات التكنولوجية. وبعد هذا هل يجوز اختزال دراستنا - كما فعل الدكتور مسعود ضاهر - الى الاكتفاء بترديد مقولات غربية لا تقيم وزناً لتضحيات الشعوب الآسيوية، وتعتبر تجاربها في التحديث من ثمار الحرب الباردة، أو اعتاشت على فتات الشركات والمؤسسات الدولية التي جعلت منها منصات للتصدير الاقتصادي"؟ وحول الأزمة المالية الأخيرة التي اندلعت في عدد من البلدان الآسيوية منذ منتصف العام 1997، شدّدنا على أن "الأزمات المالية" التي مرّت بها النمور الآسيوية قديمها وجديدها لم تعصف بالاقتصاد العيني الانتاجي والتصديري لأنه يقوم على ركائز قوية وأسس متينة. وشبّهنا الأزمة التي مرت بها بلدان جنوب شرق آسيا الناهضة، بحادثة اصطدام سيارة نتج عنه تحطم هيكل السيارة الخارجي، وظل "المحرك" سليماً، وهذا يسهل إعادة ترميم هيكل السيارة لكي تسير على الطريق من جديد، باسلوب اكثر حذراً ومهارة. فهل يتسق ذلك مع ما جاء في مراجعة الدكتور مسعود ضاهر الذي كتب: "ان النمور الآسيوية هي الآن نمور مريضة وسبب المرض هو استشعار الولاياتالمتحدة الاميركية ضرورة وضع حدود للقوة الآسيوية"، فالمراجع نزع هذه المقولة من السياق الذي جاءت به من الكتاب كما سأوضح في الفقرة التالية: "إن الدلالة الأساسية للأزمة الآسيوية، في اطار لعبة الأمم، هي أن الولاياتالمتحدة الاميركية استشعرت ضرورة وضع حدود للقوة الاقتصادية الآسيوية. ولا بأس من بقائها في ساحة الاقتصاد العالمي كنمور جريحة، ولكن لا يسمح لها أن تنمو كي تصبح أسوداً تنازع ملك الغابة سطوته وسيطرته". وقلنا نصاً: "إن عناصر القوة في تجربة دول جنوب شرق آسيا تظل عناصر حقيقية، ولم تهتز بحلول الأزمة المالية الحالية". وفي المقابل، أشرتُ إلى أن اقتصاداتنا العربية "تحتاج إلى نضال جاد وطويل النفس للوقوف على أقدامها. وبالتالي فإن مشكلتنا مركبة، وتحتاج إلى جهد انمائي حقيقي في القطاع العيني". ويزيد الأمر سوءاً اننا نحتاج إلى مضاعفة هذا الجهد بعد اقرار اتفاقية منظمة التجارة الدولية خليفة "الغات" التي "تضيق الخناق على السياسات الحمائية للصناعة الوطنية، وتفتح الأسواق على مصراعيها، قبل أن نعد العدة لمواجهة تلك المنافسة الضارية القادمة من الشرق والغرب". فهل يعتبر ذلك دعوة لليأس والقنوط؟ وفي ضوء ما سبق، فإن ما جاء في مراجعة الدكتور مسعود ضاهر يتناقض مع روح ومضمون المقولات التي يحتويها الكتاب. فكأن الدكتور مسعود ضاهر كان يتحدث عن كتاب آخر لمؤلف آخر. محمود عبدالفضيل رئيس قسم الاقتصاد في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية - جامعة القاهرة