باشر عدد من المثقفين العرب أخيراً في ابداء الاهتمام بتجارب التحديث الآسيوية بعدما مضى على نجاح بعضها أكثر من قرن بكامله كما هو الحال في تجربة التحديث اليابانية التي تركت أثرها الواضح على جميع تجارب التحديث الآسيوية. في هذا الإطار يأتي كتاب الباحث محمود عبدالفضيل "العرب والتجربة الآسيوية: الدروس المستفادة"، مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت عام 2000، ليسلط الضوء على خمس تجارب آسيوية هي: سنغافورة، ماليزيا، تايلاند، كوريا الجنوبية والصين. أما الهدف من هذه الدراسة فهو: "التعرف على عناصر التوحد وعناصر التمايز في تلك التجارب... وأين يكمن الخط الجامع لكل تلك التجارب الإنمائية". ليس من شك في ان تحقيق الهدف المعلن يحتاج الى صبر وطول أناة لأن التجارب موضوع الدراسة متنوعة جداً. فهي تشمل بلداناً كبيرة جداً كالصين، وصغيرة جداً كسنغافورة. وبعضها موحد كماليزياوتايلاند وبعضها الآخر ما زال مقسماً كالصين وكوريا الجنوبية. والوثائق الموصلة الى الحقائق العلمية عن تلك التجارب أكثر من أن تحصى، وتحتاج الى جهد علمي كبير للكشف على أسرار كل تجربة على حدة تمهيداً لإقامة المقارنات العلمية في ما بينها من جهة، واستخلاص الدروس والعبر المفيدة منها للعرب ولغيرهم من شعوب العالم من جهة أخرى. اختار الباحث المنهج الاستقرائي المباشر عن طريق القيام بزيارة خاطفة لتلك الدول، بعد التزود "باستمارة" توزع على عدد من الشخصيات الأكاديمية، والسياسية، والإدارية، والثقافية. فأجرى معهم مقابلات شخصية في هدف التدقيق بصوابية بعض الأفكار والمقولات التي تبناها الباحث من خلال مطالعاته السابقة مستفيداً من المراجع العامة المنشورة بالإنكليزية وغيرها من اللغات العالمية. تبدأ مسيرة التعريف بالتجارب الآسيوية انطلاقاً من مقولة المفكر الاقتصادي السويدي غونار ميردل التي نشرها عام 1968 تحت عنوان: "المأساة الآسيوية: دراسة لفهم أسباب فقر الأمم". إذاً، في البدء كانت المأساة، أما النهوض اللاحق فلأسباب مرحلية لم يكن الغرب بعيداً عنها. علماً ان اليابان في تلك الفترة كانت تؤسس لنهضة آسيوية جديدة تحولت الى ما سمي بالمعجزة اليابانية استناداً الى نسب نمو مرتفعة استمرت عقوداً عدّة. فاستعادت دوراً كانت فقدته بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية وخضوعها للاحتلال الأميركي. وبالتالي، هناك عشرات الدراسات العلمية، في الغرب والشرق معاً، تقيم الدليل القاطع على خصوصية تجربة التحديث اليابانية منذ القرن التاسع عشر كطليعة لتجارب التحديث الآسيوية المعاصرة التي تحولت الى "نمور آسيوية". وترك نجاح اليابان الاقتصادي أبلغ الأثر في بلدان "النمور الآسيوية" التي بدّلت مقولة "المأساة الآسيوية" الى "المعجزة الآسيوية" خلال أقل من ثلاثة عقود. وفي المقابل، بقي السؤال النهضوي العربي يتكرر باستمرار منذ أكثر من قرن، فلماذا تقدمت البلدان الآسيوية وتخلفت البلدان العربية؟ ما يثير التساؤل المنهجي في هذا المجال هو سيل الكتابات الغربية التي نشرت بعد الأزمة العميقة التي عصفت بتجارب التحديث الآسيوية والتي شككت في قدرة تلك التجارب على الاستمرار. فقد تهكم بعض الباحثين من شعار "المعجزة الآسيوية" ليقول: "هل تجارب بلدان شرق آسيا معجزة أم سراب؟"، أو "هل النمور الآسيوية نمور حقيقة أم من ورق؟". ومع ان عبدالفضيل في كتابه هكذا يرفض اصدار حكم قيمي على التجارب الآسيوية، فإن استخلاص دروس النجاح منها لا تضعها في مرتبة التجارب القابلة للتعميم. وبعد أن يتساءل عما إذا كانت الظروف التاريخية تسمح بتكرار تلك التجارب في الوطن العربي، يجيب بالنفي إذ لا دروس يستفيد منها العرب لإطلاق نهضة عربية جديدة ذات ركائز ثقافية واقتصادية وحضارية مستوحاة من التجارب الآسيوية الناجحة. على قاعدة هذه الرؤية المنهجية المعروفة الاستنتاجات سلفاً يستعرض الباحث، وفي شكل سريع للغاية، السمات الأساسية لكل من التجارب الآسيوية الخمس في البلدان المشار اليها سابقاً مع بعض الجداول الشمولية والفرعية، وبعد أن يجري مقارنات عامة بين تلك التجارب يصل في "نقد التجربة الآسيوية على الصعيد الاقتصادي" الى المقولة التالية: آن الأوان لكي نعي ان معادلة "الدولة الرشيدة " السوق الناضجة" هي التي صنعت "النهضة على الطريقة الآسيوية"، فالنمور الآسيوية هي الآن "نمور مريضة". وسبب المرض، في رأي الباحث، هو "استشعار الولاياتالمتحدة الأميركية ضرورة وضع حدود للقوة الاقتصادية الآسيوية، ولا بأس من بقائها في ساحة الاقتصاد العالمي كنمور جريحة، ولكن لن يسمح لها بأن تنمو كي تصبح "أسوداً" تنازع ملك الغابة سطوته وسيطرته. الضغط والتحديث وينفي الباحث ما يردده بعض السياسيين الآسيويين، وخصوصاً مهاتير محمد في ماليزيا، عن الضغط الأميركي على تجارب التحديث الآسيوية بغية افشالها لأنها جاءت من خارج التجارب الأوروبية والأميركية. ويعزو الفشل الى خلل بنيوي في التجارب نفسها. فيقول: "ولا يعني ذلك الأخذ بنظرية المؤامرة، بل تعتبر تلك الرؤية نتاج تعدد وتنافس بين المراكز الاقتصادية الرأسمالية المتقدمة على الصعيد العالمي". فإذا كانت "النمور الآسيوية" جريحة وتتعرض تجاربها لأزمات بنيوية قاسية فكيف يمكن العرب الاستفادة منها واستخلاص الدروس والعبر من تجارب كانت ناجحة وباتت مصابة بمرض عضال؟ وتحت عنوان معبر: "الفشل التنموي العربي ومدى امكان "استنساخ" التجربة الآسيوية في التنمية والنهوض الاقتصادي"، يصل الى استنتاجات قطعية لا تترك مجالاً للشك في فشل تلك التجارب، فيقول: "في ضوء دراستنا للتجربة الآسيوية في التنمية والنهوض الاقتصادي، يمكننا القول ان تجربة النمور الأربعة من الصعب تكرارها للأسباب التالية: "لأن البداية الحقيقية للنمور الأربعة كانت نتاجاً للحرب الباردة. بل يمكن القول ان نهضة اليابان ذاتها كانت جزئياً نتاج الحرب الباردة وان بعضها نشأ في بلدان صغيرة لا تصلح نموذجاً للعالم العربي باستثناء كوريا الجنوبية، وماليزيا والصين. لعل جانباً مهماً من نهضتها كان من صنع شركات دولية النشاط من خلال بناء منصات تصدير في تلك البلدان". أما التجارب التي يجدر بالعرب دراستها فهي ماليزيا، والصين، والهند، وكوريا الجنوبية، "لأنها تجارب حقيقية وجادة في التنمية، ولم تكن محض نتاج الحرب الباردة". ومن ناحية أخرى، فأن الدول العربية غير مؤهلة للاستفادة من التجارب الآسيوية ولا من غيرها من التجارب، بسبب خلل بنيوي في كل محركات عملية النهضة العربية. "لدينا رأسمال بشري يساء توزيعه، لدينا مدخرات سائلة غير معبأة على نحو منتج، ولدينا بعض عناصر بنية صناعية تحتاج للتطوير لكي تتكامل حلقات السلسلة التصنيعية، وعندنا نظام تعليمي يحتاج الى اعادة ترميم وتجديد واسعة لأساساته الخربة". وإذا كان وضع الأقطار العربية على هذه الدرجة من السوء وعدم القابلية للاستفادة من تجارب التحديث الناجحة في العام، ومنها التجارب الآسيوية، فلماذا كان هذا الكتاب؟ وهل تحقيق النهضة العربية الحقيقية في الوطن العربي يحتاج الى استعارة كاريكاتورية من الحركة التي يقوم بها اللاعب الرياضي: "فترة التأهيل، فترة التسخين، فترة الانطلاق؟". وختاماً، ليس من شك في ان تجارب التحديث الآسيوية هي تجارب ناجحة في كثير من جوانبها لأنها ساهمت في إحداث تبدلات عميقة وجذرية في المجتمعات الآسيوية التي يشهد بعضها حتى الآن وتائر نمو سريعة تخفف من وطأة الأزمات الكبيرة التي كانت تعانيها في السابق. وتشهد تلك التجارب ضغوطاً أميركية وأوروبية كبيرة في هدف إفشالها أو الحد من اشعاعها في دول العالم الثالث، ومنها الدول العربية. وتختبر التجارب الآسيوية أساليب جديدة في التنمية، ومكافحة الفقر، والجوع، والبطالة، والأمية، وضغوط الخارجية. وعلى العرب دراسة تلك التجارب بدقة وموضوعية وعدم الاكتفاء بترداد مقولات غربية لا تقيم وزناً لتضحيات الشعوب الآسيوية، وتعتبر تجاربها في التحديث من ثمار الحرب الباردة، أو اعتاشت على فتات الشركات والمؤسسات الدولية التي جعلت منها منصات للتصدير الاقتصادي. لقد اكتسبت تجارب التحديث الآسيوية مشروعيتها من خلال التبدلات الجذرية التي أدخلتها على بلدانها، وهي تعمل على الانفكاك التدريجي من قيود المركزية الأوروبية والأميركية، وتستحق من العرب دراسات معمقة لكل تجربة من تجاربها من أجل الاستفادة منها وليس لترداد المقولات الغربية التي تشدد على سلبياتها ونفي الحاجة اليها. * كاتب ومؤرّخ لبناني.