قد يكون المؤتمر الذي عقدته مجلة «العربي» الكويتية خلال ثلاثة أيام (24 و25 و26 الجاري) تحت عنوان «العرب يتجهون شرقاً» هو الأول من نوعه في شموليته وتعدّد مصادره. وقد سعى هذا المؤتمر الى رصد العلاقات التي طالما أقيمت بين العالم العربي والعالم الشرقي – الآسيوي والى بلورة آفاقها، ماضياً ومستقبلاً واستشراف الأبعاد التي لا بدّ من ترسيخها بين هذين العالمين على صعد عدّة: حضارية وثقافية واقتصادية وسياسية. فالمرجعية الغربية التي كثيراً ما استأثرت بالثقافة العربية حالت طوال عقود دون الانفتاح الحقيقي والشامل للعالم العربي على الحضارة الآسيوية المعاصرة والحديثة. ولعل عقد هذا المؤتمر، الذي شارك فيه مفكرون ومؤرخون من العالم العربي ومستشرقون آسيويون من الصين واليابان والهند وتركيا وإيران وسواها، يمثل حلقة أولى، عميقة ومتينة، في ترسيخ العلاقة بين العالمين ويفتح باب الحوار الفاعل بين حضارتيهما، القديمة والحديثة. وتمّ خلال المؤتمر تكريم مؤسسات عربية وشرقية – آسيوية عملت وتعمل على تكريس هذا الحوار الحضاري والثقافي ومنها: «مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية (إرسيكا)» (تركيا)، «المركز القومي للترجمة» (مصر)، «مركز اللغة الفارسية وآدابها، الجامعة اللبنانية» (لبنان)، «كلية اللغة العربية، جامعة الدراسات الدولية» (بكين، الصين)، «أكاديمية المملكة المغربية» (المغرب)، «مؤسسة المخيال للإنتاج الفني» (الكويت). وقد أوضح المفكر الكويتي سليمان العسكري، رئيس تحرير مجلة «العربي» أبعاد المؤتمر في الكلمة التي قدمه بها، عائداً الى تاريخ العلاقة التي قامت بين العالم العربي والشرق الأقصى. فالرقعة الجغرافية في نظره لم تكن وحدها بامتدادها الطبيعي، سبباً في نشأة تلك الأواصر العريقة بين البلدان العربية في المشرق والمغرب، وبلدان الشرق الأقصى، ووسط آسيا، بل ساعدت بالمثل عوامل تاريخية وثقافية وتجارية وحضارية ودينية على دعم تلك الأواصر، مما أنشأ عروة وثقى، بين أطراف الشرق الأقصى والأوسط والأدنى. وعانى كل من الاستعمار في شتى ألوانه، فتغيرت سياسات واقتصادات، وتبدلت لغات وأبجديات، وتحولت ممالك وإمبراطوريات، وسادت وبادت حضارات، ولكن بقيت العلاقات بين الشعوب أقوى من أن تُمحى، وظلت الأواصر بين الدول أمتن من أن تنهار، ولذلك استُبدلت بطريق الحرير التاريخي طرق أخرى برية وبحرية وجوية، وباتت الرغبة في التواصل مجدداً مشروعاً لا تخمد جذوته بين الطرفين. هكذا مؤسسات تُعنى بدراسة الآخر الشرقي والعربي، وصدرت سلاسل كتب ومجلات تتناول الثقافات المشتركة، أو تقدم الثقافات الوطنية بلغات الآخر، وأقيمت مؤسسات تعليمية تضع اللغة العربية أداة لمناهجها ووسيلة للتواصل مع شعوبنا العربية. أما المحاور التي دار المؤتمر حولها فتوزّعت وفق العناوين الآتية: - «الاتجاه شرقاً: الماضي والحاضر والمستقبل: السفارات المبكِّرة من دول الشرق الى الوطن العربي، اليابان نموذجاً». (سمير عبدالحميد، مصر)، «الدراسات العربية في اليابان: الواقع والآفاق المستقبلية» (مسعود ضاهر، لبنان)، «العلاقات السودانية – الصينية منذ العصر المروي» (جعفر كرار أحمد، السودان). - طريقا الحرير البحري والبري بين العرب والشرق: تجربتي مع أدب الرحلة» (عبدالهادي التازي، المغرب)، «الرحلات البحرية العربية في آسيا، بين الأسطورة والواقع» (يعقوب يوسف الحجي، الكويت)، «الرحلات السبع للسندباد الصيني المسلم أمير البحر تشينج خه» (حسين اسماعيل، مصر). - الاتجاه شرقاً في فضاء الإعلام: الإصدارات الآسيوية الثقافية بالعربية، الصين اليوم نموذجاً» (فريدة ونغ فو، الصين)، «طريق الحرير الإعلامي، ثقافة العرب في القنوات الآسيوية الموجهة للعالم العربي» (أشرف أبو اليزيد، مصر)، «الإصدارات الآسيوية الثقافية باللغة العربية، مجلة شيراز نموذجاً» (سمير أرشدي، إيران). - رحلات مجلة «العربي» الى آسيا: «رحلاتي الى آسيا» (فهمي هويدي، مصر)، «آسيا... قارة التحديات» (محمد المنسي قنديل، مصر)، «رحلاتي الى آسيا» (محمد المخزنجي، مصر)، «في الشرق ما نحتاج وأكثر» (ابراهيم المليفي، الكويت)، «في قلب آسيا» (أشرف أبو اليزيد، مصر). - الشرق والعرب: تواصل الفنون: «التأثيرات المتبادلة في الموسيقى والغناء بين العرب وآسيا» (نزار غانم، اليمن)، «قراءة أولية في كتاب البيروني» (هالة فؤاد، مصر). - الشرق الآسيوي يقرأ الأدب العربي: «ترجمة الأدب العربي الى الصينية» (تشانغ هونغ يي، الصين)، «حركة ترجمة الأدب العربي الى قراء الهند» (شاهجهان مادمبت، الهند)، «مكانة الأدب العربي في الهند وترجمته الى اللغات الهندية» (أحمد رحمة الله، الهند)، «ترجمة الأدب العربي الى اللغة الفارسية» (نسرين شكيبي ممتاز، إيران). - العرب وآسيا: تأثيرات متبادلة: «العلاقات العربية – الآسيوية الثقافية: الهند نموذجاً» (شهاب غانم، الإمارات)، «المخطوطات العربية في تتارستان» (نورية كراييفا، تتارستان)، «ثقافة الجاليات الآسيوية في دول الخليج العربية بين التأثير والتأثر» (عبدالله المدني، البحرين)، «العلاقات العربية – الصينية الباكرة: رواية عربية ورواية صينية – صورة الآخر» (قاسم عبده قاسم، مصر). - العرب يقرأون الآداب الآسيوية: «مؤسسة الفكر العربي وترجمة الأعمال الصينية الى العربية» (سليمان عبدالمنعم، مصر)، «حركة الترجمة بين اللغتين العربية والفارسية» (فيكتور الكك، لبنان)، «ترجمة الكلاسيكيات والأعمال المعاصرة الآسيوية الى العربية» (كامل يوسف حسين، مصر)، «مؤسسات العالم العربي للترجمة عن اللغات الآسيوية الى اللغة العربية» (جابر عصفور، مصر). ولئن يبدو من الصعب اختصار المداخلات كلها، فمن الممكن التوقف عند بضع منها تمثل قضايا مهمة تكمن في صميم الحوار العربي – الشرق آسيوي. ترى نسرين شكيبي ممتاز في مداخلتها حول «ترجمة الأدب العربي الى اللغة الفارسية» «ان الكتاب الديني المشترك باللغة العربية لمّ شمل جميع عُباد التوحيد، وجعل كلاً من الأمة الإيرانية والشعوب العربية على صراط ثقافي واحد في عالمنا الحالي، ولهذا فإن الترجمة العربية الى اللغة الفارسية ليست شيئاً حديثاً، بل انها شجرة هائلة تفتح الأغصان في حضارة إيران القديمة، وتاريخها يعود الى عصور ماضية وازداد امتداد جذورها عند دخول الاعتقادات المعنوية – الصوفية بسرعة. انها شجرة من العصور المتلاحقة(...). ويتضح ان اللغة العربية، برفقة اللغة الفارسية، مادة ثابتة من المواد الدراسية المهمة، تُدرّس في المدارس الإيرانية منذ دخول التلاميذ والتلميذات مرحلة الثانوية حتى التخرج في المرحلة الجامعية، وختام المرحلة الأكاديمية. وفي الأقاليم الإيرانية، يتحدث كثير من المواطنين بهذه اللغة بل انها لغتهم الأم (...). أما في باب تبادل الترجمة بين اللغتين العربية والفارسية في تاريخنا المعاصر، فيجب ألا نتجاهل أسماء أدباء مرموقين ومترجمين قديرين في أقطار البلاد ممن بادروا بهذه المهمة بمهارة بل وبشغف». وتناول الراوي المصري محمد المنسي قنديل «آسيا... قارة التحديات» ومما جاء في شهادته: «الرحيل الى آسيا، رحيل الى عالم مغاير، فكرياً واقتصادياً، فهي قارة ليست غنية فقط بالحضارات القديمة، والحكمة الدائمة، ولكنها أيضاً قارة التحديات، تحديات الطبيعة واستعباد التقاليد الطبقية، والتجربة الاستعمارية المريرة، وقد خلف كل هذا ميراثاً ثقيلاً من التخلف كان عليها أن تواجهه، والزائر الى آسيا يمكن أن يلاحظ مدى تميزها عن بقية القارات، فإفريقيا هي هبة خالصة من الطبيعة، الغابات والجبال والأنهار ما زالت على حالتها البدائية، والإنسان يعيش على الهامش، وهي تعد قارة ما زالت في دور الصبا، لم تتحدد قسماتها ولم تتباين دولها وشعوبها إلا منذ أزمنة وجيزة، بينما أوروبا هي من صنع الإنسان، الأيدي البشرية فيها قهرت تضاريس الطبيعة وسخّرتها لمصلحتها، وهي قارة عجوز، عمرها من عمر العالم، دولها راسخة، وقد استطاعت أن تسيطر على مقدرات العالم وما زالت حتى الآن، بينما آسيا هي مزيج من عفوية الطبيعة ودقة الإنسان، وهي عجوز وفتية في الوقت نفسه». أما المؤرخ والباحث اللبناني مسعود ضاهر فتناول «الدراسات العربية في اليابان: الواقع والآفاق المستقبلية»، وقدم في دراسته لوحة شمولية حول مواقف بعض المستعربين اليابانيين من القضايا العربية في القرن العشرين. وهي دراسة جديدة بالكامل لكنها تستند الى دراسات سابقة له حلّل فيها الأسباب العميقة التي ساهمت في ولادة الاستعراب الياباني، وتمايزه عن الاستشراق الغربي، ومساندة المستعربين اليابانيين للقضايا العربية، الوطنية منها والتحررية، ومواقفهم المتوازنة تجاه الصراع العربي – الإسرائيلي. وتضمنت الدراسة إشارات مكثفة للتعريف بأبرز سمات الاستعراب الياباني، ورواده، وبعض عناوين دراساتهم في مجال التاريخ العربي، والتراث الإسلامي. وتعززت بمقابلات شخصية كان أقامها ضاهر مع عدد من أبرز المستعربين اليابانيين المعاصرين، وتوصلت الى بعض الاستنتاجات والدروس المستفادة عربياً. فخلال العقدين الماضيين تزايد عدد المؤسسات الثقافية اليابانية المهتمة بالعالم العربي، وتوسعت دائرة اهتمام المستعربين اليابانيين في دراسة القضايا العربية.