رحل القاضي عن إحدى البلدات، وأصبح الناس من دون قاضٍ. فاجتمع أهالي البلدة في السوق، أمام دكان الإسكافي، وأخذوا يبحثون عن حلٍّ لهذه المشكلة. فقال أحدهم: - ما العمل؟ يجب أن نعثر على قاضٍ بسرعة، فنحن لا نستطيع أن نعيش طويلاً من دون قاضٍ. وقال شخص آخر: - وما حاجتنا الى القاضي؟ ستكون حياتنا أفضل بلا قانون، وبلا محاكم... هيا نهدم سجن البلدة! - عندما سمع الإسكافي هذا الكلام خرج من دكانه وقال: - لا. لا يمكن أن نعيش من دون قاضٍ ومن دون عدالة... إذا اعتدى انسان على انسان فمن يحاسبه؟! وإذا سرق انسان انساناً فمن يحاسب السارق؟ فأجابه بائع الخضار: - المُعتدي والسارق يحاسبُهما الضمير وتحاسبهما الأخلاق. عندما سمع الإسكافيُّ كلام بائع الحضار أخذ مطرقة من دكانه وتوجه اليه وقال له: - إذا كنت أنا الإسكافي ممن لا يعملون بما تأمر به الأخلاق ويأمر به الضمير، وضربتك الآن بهذه المطرقة على رأسك، فمن يحاسبني؟ خاف بائع الخضار عندما رأى المطرقة مرفوعة فوق رأسه وقال: - صحيح... معك حق. فنحن بحاجة الى قاضٍ! وبينما الناس مجتمعون أمام دكان الإسكافي، لاحظوا جحا ومساعده قادمين من بعيد. وعندما وصلا الى حيث يجتمع الناس، وقف مساعد جحا وقال: - أقدم لكم جحا قاضينا الجديد... إنه قاضٍ صادق وعادل ونزيه شجاع، لا يقبل الرشوة من أحد ولا يسيار أحداً، ولا يتساهل مع أحد. وسأل البقال مساعد جحا: - وهل يفهم قاضينا الجديد في القانون؟ وهل يعرف كيف يخاطب الناس؟ فأجابه مساعد جحا: - في المحكمة ستعرفون أن جحا يفهم القانون، وسيخطب بكم الآن لتعرفوا أنه يعرف كيف يخاطب الناس. عندما انتهى مساعد جحا من كلامه، وقف جحا يخطب بالناس فقال: أيّها الناس. سأقول لكم شيئاً بسيطاً وسهلاً... فهل تعرفون ما سأقوله لكم؟ وأجاب الناس جحا: "لا. لا نعرف..." فقال لهم جحا: - ما دمتم لا تعرفون الشيء البسيط الذي سأقوله لكم فاذهبوا من هنا... إذ لا فائدة من مخاطبة الجُهّال. عندما سمع الناس كلام جحا قالوا له: "لا. لا تغضب أيها القاضي... وتابع كلامك فنحن نعرف ما ستقوله لنا". فقال جحا للناس: - ما دمتم تعرفون ما سأقوله لكم فلا فائدة من أن أقول لكم ما تعرفونه... هيا اذهبوا الى بيوتكم. ومن أجل إرضاء جحا انقسم الناس الى فريقين، فقال فريق منهم: "لا. لا نعرف ما ستقوله لنا. يا جحا"، وقال الفريق الآخر: "نعم نعرف ما ستقوله لنا". فقال جحا عند ذلك للناس: - حيث إن البعض منكم يعرف ما سأقوله، والبعض الآخر لا يعرف، فليُخبر الذين يعرفون الذين لا يعرفون؟ وهكذا احتار الناس وكفُّوا عن الكلام مع جحا. وظنّه بعضهم انه رجل جاهل، واعتبره البعض الآخر رجلاً ذكياً جداً... واتفقوا على أن يُجربوه في قاعة المحكمة. وحدث بعد انصراف جحا شجار بين الإسكافيِّ وبين أحد الشُبّان. فقد طلب الإسكافي من الشاب أن يأتيه ببعض المسامير من دكان الحداد. وطلب الشاب من الإسكافي أجراً على هذه الخدمة التي سيؤديها له. فوعده الإسكافي بأن يعطيه أجراً على عمله هذا. وأراد الشاب أن يعرف ذلك الأجر فسأل الاسكافي: - وما الأجر الذي ستعطيني إياه؟ فاحتار الإسكافي بماذا يُجيب، ثم قال للشاب: - سأُعطيك... لا شيء!! ووافق الشاب على أن يعطيه الاسكافي "لا شيء" وذهب الى دكان الحداد وجاء بالمسامير، ثم قال للإسكافي: - ها قد أحضرت المسامير... فهات ما اتفقنا عليه، أعطني اللاشيء الذي وعدتني به! قال الإسكافي للشاب: - هل أنت مجنون؟ عن أي "لا شيء" تتحدث؟! لقد كنت أمزح معك... فلا يوجد شيء هو "لا شيء..."!!! قال الشاب: - أنا لم أكن أمزح معك... أعطني اللاشيء الذي وعدتني به أو أشكوك لقاضينا الجديد جحا... وستكون أول من يدخل السجن في عهده. وذهب المتخاصمان الى جحا وهو في المحكمة مع عدد كبير من الناس. وعندما سمع جحا قصتهما، التفت نحو الشاب وقال: - معك حق يا بني... إنك تستحق أن تحصل على اللاشيء الذي وعدك به الإسكافي... فاقترب مني وارفع هذا الكتاب عن الطاولة. اقترب الشاب من طاولة جحا ورفع الكتاب الذي كان موجوداً على الطاولة. وهنا... سأل جحا الشاب: - ماذا وجدت تحت الكتاب؟ أجاب الشاب: لا شيء! عندها قال جحا للشاب: - حسنا... هذا هو "اللاشيء" الذي تبحث عنه فخذه وانصرف. وصاح الشاب: - لا. لا. هذا ظُلم... أين العدالة؟ لا توجد عدالة في هذه المحكمة. وقال جحا للشاب من جديد: ماذا تقول؟ يبدو أن ما أعطيتك إياه لم يعجبك... حسناً أطبق كفّك... وستنال هذه المرة ما يرضيك. وأطبق الشاب كفّه بقوة، وبعد قليل طلب منه جحا أن يفتح كفّه بسرعة، ففتح الشاب كفّه. فقال له جحا: - ماذا يوجد في كفِّك؟ أجاب الشاب: - "لا شيء...". - فقال له جحا: خُذ هذا اللاشيء الثاني الموجود في كفِّك فيُصبحُ معك "لا شيئان"... هل تُريد "لا شيئاً ثالثاً"؟... فصاح الشاب: - لا. لا أريد شيئاً... ولا أريد لا شيء... ومضى الشاب خارجاً من المحكمة وسط صياح الجمهور: عاش القاضي... عاش القاضي... عاش القاضي!! دار المؤلف