يقال: إن جحا سأل زوجته عن كيفية معرفة الميت من الحي؟ فأجابته: إن الميت تبرد أطرافه، فصادف أن ذهب لجمع الحطب حتى بردت أطرافه، فأخذ يندب حظه ويندد أنه مات، واستلقى على ظهره «فهو ميت»، وأخذ ينظر إلى حماره وهو يرعى بألم وحسرة، إلى أن دهمتهم مجموعة من الذئاب الجائعة فافترست الحمار، وجحا في قرارة نفسه يقول وهو يشاهدها: لو كنت حياً لتصديت لكم. لا يكفي أن تكون حياً لتبعد عنك صفة الميت، لأنها لا تُطلق على من أسلم الروح وبردت أطرافه، بل على أولئك الذين يعيشون وكأنهم أموات، على أولئك الذين تقمصوا شخصية «جحا» وهم أحياء. نعم فقدنا «غازي القصيبي»، نعم أسلم روحه إلى بارئها بعد أن بردت أطرافه، لكن لا يزال حياً ومن أنجح الشخصيات التي تمت معاصرتها، لن أعدد مناقبه، لكن هناك ما يجيرنا على الوقوف أمام كل محطة من محطات غازي القصيبي، يرحمه الله. لذلك أعود وأقول إن القصيبي لم يمت، فالعظماء غالباً ما يحيَون من جديد بعد وفاتهم، أعمالهم تتحدث عنهم من دون الحاجة إلى البحث كثيراً في «غوغل» لمعرفة مواقفه أو قصائده أو أعماله، لسنا في حاجة لهذا كله، بل نحتاج متقمصي «جحا» أن يدركوا أن ما حققه القصيبي في حياته، إنما جاء نتيجة إخلاص ووفاء لإنسانيته في المقام الأول، ولوطنه وللأمانة التي تقلدها في غير منصب. ترى كم ميتاً لدينا يتقلدون المناصب، ولا نسمع عنهم إلا في المناسبات الرسمية، ليُظهروا إخلاصهم عند ولاة الأمر؟! لا شك في أنهم كثر؛ لكن لندع أمواتنا الأحياء، ونعود مرة أخرى إلى العظماء، الذين تركوا بصمة في كل شأن من شؤون حياتنا. وللدلالة على ذلك، فلننظر إلى ذلك الحشد الذي اصطف خلف القصيبي، لا رحمة لمرضه - جعله الله أجراً له - بل لأن هناك قناعة كبيرة أن الرجل قدّم الكثير والكثير، ما دفع منتقديه ومعارضيه أن يتقدموا الصفوف معزين في الفقيد، ويتصدرون المعزين في الدعاء له. تلك هي الحياة، وليس الموت يا سادة، هنيئاً لك يا غازي فأنت تستحق كل دعوة خرجت من الأفواه، تطلب لك الرحمة والمغفرة وإعلاء الشأن. لكن ما الذي رفع الفقيد لهذه المرتبة؟ قد لا نحتاج كثيراً لمعرفة الجواب، فالقصيبي الذي تبوأ مناصب عليا لم تكن الكراسي التي تولاها تنسيه انه إنسان، كنا نستغرب من هذا الرجل قربه من كل من حوله، وحتى من لم يعرفه يجده معه، وعلى رغم أن المواقف كثيرة؛ لكن دعونا نتذكر موقفه مع الروائية «رجاء الصانع»، التي تحدثت عن قيامه بالاتصال عليها للتعقيب على روايتها التي أرسلتها له لإبداء الرأي، وكيف كانت هول صدمتها أن محدثها غازي القصيبي. تلك رجاء فماذا عن الباقين؟ شخصياً كان لي موقف معه؛ إذ عقب بخط يده على مقال كتبتُه منتقداً وزارته، لقنني درساً وأنا أبتسم وأضحك وأشعر بالفرح، علمني الكثير وأظهر لي أموراً كنت غافلاً عنها «بجرة قلم»، ولست أنا وحدي، فقد ظهر أن الكثير من الزملاء تلقوا ردوداً ودروساً، إما مكتوبة في شكل شخصي أو معلنة وتم نشرها في الصحف، ولعل رسامي الكاريكاتير كانوا يشعرون أيضاً بالفخر والزهو عندما يتلقون رسالة شخصية من الوزير الفقيد، تشكرهم على نقدهم وزارته وتطالبهم بنسخة من الرسم. لذلك دعونا نقر أن القصيبي كان شخصية استثنائية بكل ما تعنيه الكلمة، تقلد أدواراً كثيرة وتقمص الكثير من الشخصيات وشاغب كثيراً، وربح جولات أكثر، لذلك رجل يمتلك كل ذلك من الصعوبة أن نقول: إنه «مات». بل هي حياة جديدة مثل سائر العظماء، تشعر بالخسارة لمجرد فقد أجسادهم وحديثهم معك، لكنك في المقابل ستجد الفقيد معك في المنزل، تقرأ فكره وتجاربه من خلال ما كتبه، ستجده في غير وزارة أسهم في إنشائها أو رسم سياساتها، وستجده في كل حديث يتضمن تضاداً أو اتفاقاً نتيجة إسهاماته، وسيجد الشباب الذين أمنت لهم وزارته الوظائف، صورته أمامهم في حفلة تخرجهم أو توظيفهم أو نصحهم أو يقدم لهم وجبات «الهامبورغر». تلك أجزاء من سيرة القصيبي، الروائي والشاعر والديبلوماسي والوزير والمشاغب، وأخيراً الفقيد. [email protected]