شاعت عن الأكراد، حتى الآن، صور نمطية رائجة باتت بمثابة علامة فارقة لهم ورمزاً شارحاً لأحوالهم: مقاتلون عنيدون لا تفارق البندقية أكتافهم. جماعات متناحرة ينهش بعضها بعضاً. طوابير طويلة من البائسين تائهة في الشعاب وسفوح الجبال تبحث عن ملاذ. أناس سذج يسهل الايقاع بهم وخدعتهم. قبائل متفرقة توزّع ولاءاتها ذات اليمين وذات الشمال. وكان من السهل لهذه الصور ان تترسخ في الأذهان لما كان بين الأكراد والعالم الخارجي من فاصل، جغرافي وثقافي، كاد يكون قاتلاً. اذ بقي الأكراد معزولين ومنسيين، في مجاهل الإهمال وعدم الاكتراث. ولكن ها هو الزمن يتكفل بتغيير الأشياء. وأخذت تقنيات التواصل والاعلام الحديثة على عاتقها مدّ اليد الى الأكراد ونقلهم الى ساحة العالم. واذا كان المرء من هواة السياحة في العوالم الثرية للانترنت وخطر له، فجأة، التعرف الى الأكراد، يكفي له أن يدوّن كلمة "كردستان" ثم ينقر على مفتاح الدخول حتى تنفتح له، على الفور، تلك المجاهل الغامضة. وسيتبين ان الأكراد لم ينكفئوا في جبالهم قاعدين بل تسربوا الى العالم الخارجي، عبر الانترنت، مثل ما يتسرب النمل من شقوق الأرض. ولكنهم إذ فعلوا ذلك فهم بالكاد غيّروا شيئاً في هيئاتهم. لقد أتوا الى السطح بكامل عدتهم القديمة: جماعات وفئات وأحزاب وزعامات وقبائل وفرق وكتل وعائلات. وبات لكل من هؤلاء موقع على الانترنت، يقول فيه عن نفسه ما يسرّ ويبهج ويغري ويجذب. وتقوم في مبتدأ الموقع، على مثال ما يقوم القصر الفاخر، أروقة يستريح في صدرها زعماء الحشد ومن يتبعهم من الأقرباء فالأصدقاء فالحاشية. ونادراً ما يذهب الموقع، من فوره، الى حال الأكراد، كشعب أو قومية، بل يتعين المرور ب"حواجز" ترفع رايات حزبية وتنصِّب زعامات وتعيّن شعارات وتحدد فواصل وتفرز الأشياء والناس الى جيدين وسيئين، صالحين وطالحين، بمقدار قربهم أو بعدهم عن ذلك الحاجز. ويلوح لمن يراقب المشهد ان الاكراد لا يستطيعون الظهور، والكلام، إلا أرهاطاً وجماعات. فلا مكان للفرد الواحد المتفرد في صفوفهم. وعلى الكل أن يذوب في الكل: في العائلة أو الحزب والفرقة أو الجماعة، أيا كانت. ثم يلوح، من بعد، أن القيامة لا تقوم لهؤلاء، أفراداً أو فئات، إلا اذا نهض على رأسهم زعيم أوحد يتخذ من نفسه، ومن عائلته، نبراساً وهادياً ومرشداً. ولا يختلف الوضع سواء تعلق الأمر بحزب "تقليدي" أو بآخر "تقدمي". وإذ تستتب الأمور على هذا النحو يروح الجميع ينطق بلسان لا تعوزه الدعاوة السمجة، والمثيرة للملل، عن القوم والشعب والأمة والحقوق. ويتسابق الداخلون في الميدان، في الظهور بمظهر الأكثر ارتباطاً بالجماعة والأحرص على ترجمة نوازعها. فإذا ما نقرت على موقع، يخرج لك المشهد صارخاً: هذه جماعة لا ترى إلا نفسها، زعيمها وتفضل ذاتها وترجم الآخرين باللعنات. وعلى المرء أن يتسلح بالحروف الأولى التي تشكل "كود" الجماعة حتى يتسنى له دخول البهو. صور الأب والابن والحفيد تتوزع على جنبات الموقع، هنا. وهناك يقوم الشقيق مدافعاً عن الشقيق، الرئيس، الذي يدعو الجميع الى أن يبذلوا "الروح والدم لافتدائه". وفي مناخ طقوسي كهذا تبدو الانترنت ذريعة لتأبيد شعائر القبيلة وترسيخ ذهنيات العلاقة الأبوية التي بدأت المجتمعات البدائية تتخلص منها في الغابات النائية. ويخطر للسائح الانترنتي سؤال يتعلق بالصورة النمطية التي كانت تشكلت في ذهنه عن الأكراد. فهؤلاء قوم يعيشون الحاضر بعقلية رثة لم تتبدل ولا يريدها ان تتبدل. فمن ينأى بنفسه عن هذا النمط من التصرف ويبتعد من هذه الهيئة في السلوك يجد نفسه خارج السرب - القطيع وتتقطع به السبل ويُرمى بعيداً من القوم تلاحقه اللعنات. ولهذا فلن يكون متيسراً العثور على مواقع كردية لا تلبس رداء الجماعة أو تكتسي بأثوابها. وحتى أولئك الشباب، الذين يدفع بهم طموحهم الفردي الى امتلاك مواقع خاصة بهم، تراهم يتلون أناشيد الجماعة ويكوّمون في مواقعهم الأشياء والأغراض التي تربطهم بها. فكأن لا وجود لهم إلا بها. وعلى رغم ان هؤلاء يقيمون في بلدان اوروبية، تمنحهم الهوامش الواسعة لحركتهم الفردية، فإنهم يتشبثون بالأواصر التي تشدهم الى منابتهم العائلية والقومية والحزبية تشبث من لا حياة له الا بتلك. واذا كان المنتمون الى الأحزاب والفرق السياسية يعثرون على وجوههم في مرآة القرابة الحزبية، فإن الآخرين، وغالبيتهم من الشباب المستقل، ينكفئون ويرجعون على أعقابهم ليؤسسوا مواقعهم في هيئة المدن أو البلدات أو القرى التي أتوا منها. فشخصيتهم من شخصيتها، وحضورهم من حضورها. وهم إذ ينطقون فإنما باسمها ونيابة عنها. إنهم أبناء عاقلون تنمحي فرديتهم تحت مظلة القرية أو البلدة أو المدينة. وحيث تظهر الصورة في سحنة تسابق حضاري على امتلاك العالم واكتناز المعلومة وتشرّب الثقافة، فإن الباطن يخدع الظاهر. فهذا تسابق في إعلاء شأن القوم وتضخيم قوام الحزب وترسيخ قوائم العائلة وتكديس أوابد القبيلة، وليس للانترنت سوى أن يكون خادماً لكل هذه الأغراض. هل ستتغير الصورة النمطية عن الأكراد في زمن مقبل حين يكتشف العالم تقنية اخرى اكثر تطوراً من الانترنت؟ ربما.