في محاولة لانعاش سياحة اعتادت اجتذاب نحو 40 مليون سائح و20 بليون دولار سنوياً، قرررت بلدية نيويورك الخميس الماضي اعادة تسيير الرحلة السياحية الأشهر في العالم بين حديقة "باتري" المجاورة لموقع مركز التجارة العالمي وجزيرتي الحرية وإليس عبر مياه نهر هدسن. لكن ضخامة الدمار الذي يراه الزائر في أبرز معالم مانهاتن وصرامة الاجراءات الأمنية لايدع مجالا للتساؤل عن مدى الأضرار التي أحدثتها هجمات 11 أيلول سبتمبر في "المدينة التي لا تنام" كما في أميركا واقتصادها. ووسط زحمة التحليلات والاستفتاءات والآراء المتفقة مع بعضها حيناً، المتضاربة أحيانا لخص محلل أميركي الوضع الاقتصادي في أميركا بعد مرور نحو 4 شهور على اعتداءات أيلول: "لو أن سنة 2001 جاءت كغالبية الأعوام لما كان الركود الاقتصادي الآن محور اهتماماتنا". وما يعنيه المحلل بغالبية الأعوام هي التسعينات، والنصف الثاني منها على وجه الخصوص، أطول فترة ازدهار سجلها الاقتصاد الأميركي منذ الحرب العالمية الثانية. ويشكل الركود الراهن بالتأكيد مصدر قلق لأميركا والعالم لأسباب أهمها أن الاقتصاد الأميركي، مدعوماً بثورة تكنولوجيا المعلومات وتحرير التجارة الدولية ومعدل نمو يربو على 4 في المئة سنويا على مدى الاعوام الخمسة الأخيرة حقق في هذه الفترة الوجيزة نسبياً ما عجز عن تحقيقه في ربع قرن، سيما خفض معدل البطالة الى مستوى تاريخي ورفع متوسط دخل الأسرة من 45 الى 51 ألف دولار محلياً، وساهم دولياً في ما يقارب 40 في المئة من الزيادة التراكمية التي سجلها الناتج العالمي. وتعرض الاقتصاد الأميركي لسبع فترات ركود منذ عام 1945 ولم يتجاوز متوسط هذه الفترات 11 شهراً، ما أعطى المحللين، ومن ضمنهم المحلل المشار اليه، مبررا للحديث عن انتعاش محتمل في غضون شهور قليلة. الا أن 2001 لم تكن كغالبية السنوات وهناك اجماع قوي بين الاقتصاديين والمحللين الأميركيين على أن اعتداءات أيلول والدمار الهائل الذي أحدثته في أهم الرموز الاقتصادية والعسكرية الأميركية لعبت دورا أساسيا في تفاقم كساد بدأ فعلياً في آذار مارس الماضي. ويشير صندوق النقد الدولي في أحدث تقرير له عن آفاق الاقتصاد العالمي الى أن الركود سيقتطع من نمو الناتج المحلي الأميركي 3.1 نقطة مئوية سنة 2001 و3.4 في المئة سنة 2002 بالمقارنة مع عام 2000 فيما يعتقد عدد من كبار المتخصصين في مجال اعداد التقديرات الاقتصادية أن هجمات أيلول ستكون مسؤولة عما لا يقل عن نقطتين مئويتين من هذه النقاط الضائعة وفي المحصلة سيخسر الاقتصاد الأميركي 200 بليون دولار سنوياً السنة الجارية وربما لسنوات عدة. ولا تنحصر خسائر الدخل القومي في قطاع السياحة النيويوركي أو حتى صناعة السياحة الأميركية ككل حيث انخفض المؤشر الأهم وهي نسبة الاشغال الى مستوى شديد الخطورة 30 في المئة. وكان من شأن فقدان المستهلك الأميركي عنصر الأمان الذي اعتبره احدى المسلمات في مجتمعه أن يضمن انتشار آثار الهجمات في غالبية قطاعات الاقتصاد باستثناء الصناعات الحربية وخدمات الأمن والأمان وكذلك صناعة الترفيه التي تزدهر عادة في أوقات الأزمات والكوارث. وكشفت متاعب قطاع النقل الجوي معنى ألا تكون 2001 سنة كغالبية السنوات، اذ أن شركات الطيران الثماني الرئيسية التي تعاني تضخماً مزمناً في قدراتها الاستيعابية منذ اعوام عدة وأفقدتها الهجمات أربع طائرات بأطقمها وركابها دفعة واحدة، اضافة الى اغلاق المطارات يومين كاملين وانخفاض رحلاتها لاحقا بنسب تراوح بين 20 و30 في المئة بسبب تراجع الطلب على خدماتها، كادت تواجه الافلاس لولا تلقيها 5 بلايين دولار بشكل مساعدات حكومية عاجلة وضمانات قروض بمبلغ 10 بلايين دولار. الا أن الهجمات خلفت أضرارا مباشرة تمثلت في خسائر بشرية ومادية ثقيلة. وأدى استهداف مركز التجارة العالمي ومجمع الأبراج في محيطه الذي يطلق عليه اسم "حي المال" الى حرمان المؤسسات الاستثمارية ودور الوساطة التي تشكل العمود الفقري لقطاع المال وأسواقه من عدد لا يسهل تعويضه من كوادرها الأساسية. كما أن الدمار الهائل الذي لحق بمكاتبها وعملياتها المحاسبية واللوجستية تفاقم بسبب الآثار المتربة على اغلاق أسواق المال لمدة أربعة أيام عمل متصلة تعتبر أطول فترة اغلاق منذ الحرب العالمية الثانية. ومما زاد الأمر سوءاً ان هجمات أيلول وقعت بينما أسواق المال لا تزال تعاني تداعيات انفجار فقاعة التكنولوجيا. وتفيد محصلة التقديرات الأولية لعام 2001 أن مؤسسات الوساطة تخلت عن نحو 18 ألف مستخدم في فترة الشهور الستة المنتهية في أول أيلول ثم سرحت 9 آلاف مستخدم في الشهرين التاليين. كما انخفضت أرباحها السنوية من عملياتها في أميركا الى أقل من النصف ويتوقع أن تبلغ في نهاية السنة 10.2 بليون دولار بالمقارنة مع 21 بليوناً عام 2000. وتحمل فاتورة الهجمات بنوداً تفصيلية لم تعد محل تخمين من ضمنها 34 بليون دولار خسائر أبنية وعقارات في نيويورك و14 بليوناً كلفة عمليات الازالة والتنظيف والحراسة و21 بليوناً بشكل مداخيل خسرها أصحاب المتاجر بسبب اغلاق المنطقة المحيطة بمركز التجارة العالمي. وأجملت الشركة السويسرية لاعادة التأمين "سويس انشورنس ري" أخيرا حجم الأضرار التي أحدثتها الهجمات بنحو 90 بليون دولار مشيرة الى أن المؤمن عليه من هذه الاضرار لا يتعدى 19 بليوناً. وعلاوة على خسائر الناتج المحلي والأضرار المباشرة، سيكون للهجمات تبعات يصعب التقليل من خطورتها، منها كلفة مخاطر العمليات الارهابية التي فرضت نفسها على كل جوانب النشاط الاقتصادي ويتوقع أن تساهم في رفع رسوم التأمين بنسب قد تصل حسب بعض المحللين الى 100 في المئة بالنسبة للمصالح التجارية في المدن الرئيسية بعدما ساهمت فعليا في رفع هذه الرسوم في بعض المطارات مثل مطار "أوهير" في شيكاغو بنسبة 5 آلاف في المئة. لكن أهم التبعات ستتمثل في انتقال الموازنة الأميركية من عصر الفوائض الذي استمر طوال الفترة الثانية لادارة الرئيس بيل كلينتون الى عصر العجوزات المتوقع أن يبدأ السنة المالية الجارية ويستمر طوال الفترة الحالية لادارة الرئيس جورج بوش حسبما أعلنه مدير مكتب البيت الأبيض للادارة والموازنة مايكل دانيلز أخيراً. وستكون النقلة كبيرة اذ أن ادارة بوش وعدت بعد أيام قليلة من بدء الركود أن موازنتها للسنة المالية الجارية ستحقق فائضاً بمقدار 231 بليون دولار وتسدد نحو تريليون دولار من الدين العام. ويشكل الركود وتراجع عوائد الضرائب أهم أسباب تدهور الوضع المالي، الا أن المحللين يؤكدون أن الهجمات وما تطلبته من زيادة الانفاق الحكومي لتمويل المساعدات العاجلة لشركات الطيران والعمليات العسكرية والأمن الداخلي ومحفظة الحوافز الاقتصادية التي يتوقع تبنيها بعد عطلة الأعياد للتخفيف من معاناة مئات الآلاف من العاطلين عن العمل، ستلعب دوراً حاسماً في تحويل فوائض الموازنة الى عجوزات يتحدد حجمها النهائي في ضوء ما تحمله الأيام من أحداث ومفاجآت. وتتضارب آراء الاقتصاديين حول احتمالات تعافي الاقتصاد الأميركي من ركوده الراهن. ويعتقد البعض أن الانتعاش قد يحدث في النصف الأول من العام الجديد وفي نصفه الثاني على أبعد تقدير فيما يعتقد البعض الآخر أن أميركا ستضع الهجمات "خلف ظهرها" في غضون ثلاث سنوات. لكن ارتباط الركود بالهجمات وضع أميركا أمام تحد مزدوج وقد يصعب التغلب على الأول منهما قبل السيطرة على الآخر.