} يستعيد الاقتصاد المغربي عافيته تدريجياً بعد ثلاث سنوات من الانكماش الحاد نتيجة الجفاف المتواصل، ومن المتوقع ان يحقق النمو الاجمالي نحو 5.6 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي سنة 2001 ويتطلع الى بلوغ 4.4 في المئة سنة 2002. عززت الأمطار التي هطلت أخيراً على المغرب احتمالات استعادة وتيرة نمو مرتفعة بعدما ظل النمو يراوح في حدود واحد في المئة، طوال الفترة الماضية، بسبب ضعف الانتاج الزراعي وارتفاع أسعار الطاقة الدولية وتدني الطلب على بعض الصادرات الزراعية والنسيجية. وينتظر ان يقر البرلمان المغربي خلال أيام مشروع الموازنة الجديدة التي تقدر اعتماداتها بنحو 16 بليون دولار، وهي آخر موازنة في عهد الحكومة الائتلافية - الاشتراكية قبل الانتخابات العامة المقرر لها صيف السنة المقبلة. وواجهت الموازنة انتقادات عنيفة من أحزاب مشاركة في الحكومة اعتبرتها لا تفي بالمطلوب في مجال معالجة البطالة وتدني الدخل الفردي ودعم القطاعات الجالبة للعملات الصعبة مثل السياحة وصادرات النسيج والتكنولوجيا الحديثة. وكان موقف "حزب الاستقلال" المشارك في الحكومة أكثر انتقاداً، ووصف الموازنة بكونها تمهد للانتخابات الاشتراعية وتعزز مصالح قطاع اقتصادي على حساب قطاع آخر، وتدعم وزارة على حساب أخرى، في اشارة الى الموارد الاضافية التي اتيحت لإدارات تابعة لحزب الاتحاد الاشتراكي الذي يرأس الحكومة ويسيطر على حقائب المال والسياحة والتخصيص والاسكان والتعمير. وتطلب ادخال تعديلات على الموازنة في مجلس المستشارين ارجاعها مرة اخرى الى مجلس النواب بعدما كان صادق عليها نهاية الشهر الماضي، وهي أول موازنة منذ عهد بعيد يظل مصيرها معلقاً بيد البرلمان، وقبل أيام قليلة فقط من موعد دخولها حيز التنفيذ في مطلع كانون الثاني يناير المقبل. واعتبر وزير المال والاقتصاد فتح الله ولعلو ان الانتقادات الموجهة إلى موازنته "غير صحيحة ولها أهداف انتخابية غير سليمة"، وأكد ان خطة الموازنة تستهدف تحقيق تنمية قوية ومستديمة ترتكز على توازنات اقتصادية كلية، تجعل المغرب في منأى عن تقلبات الظرفية الاقتصادية الداخلية والدولية، وتعزز الانسجام الاجتماعي عن طريق تحقيق توزيع أكثر عدالة لعائدات النمو لفائدة الفئات الاجتماعية المعوزة والمناطق الأقل نمواً إضافة الى تعميق الاصلاحات الهيكلية وتحسين أداء القطاع العام من أجل تقوية مردوديته وتعزيز تنافسيته. وتوقع أن يحقق الاقتصاد المغربي العام المقبل نمواً يقدر بنحو 5.4 في المئة من الناتج القومي على أساس بلوغ انتاج زراعي متوسط مقداره 60 مليون قنطار من القمح، ومعدل تضخم لا يتجاوز 2 في المئة وسعر نفط لا يتخطى 23 دولاراً للبرميل. كما حدد نسبة العجز الاجمالي بحدود ثلاثة في المئة على ان يبلغ مجمل التحملات النفقات 8.165 بليون درهم ومجموع الايرادات 159,8 بليون درهم بنقص يناهز 600 مليون دولار. وقال ولعلو إنه على رغم الصعوبات التي يعاني منها الاقتصاد المغربي، تم التوصل إلى ضبط كبير للتوازنات الاقتصادية الكلية، وبذلت جهود من أجل تخفيف آثار الجفاف في الريف عبر ضخ نحو 750 مليون دولار في مشاريع ريفية، كما تمكنت الحكومة من معالجة الدين العمومي الخارجي وتقليصه الى أقل من 40 في المئة من الناتج المحلي، واصلاح عملية استيفاء رسوم البورصة بإعفاء حملة الاسهم من بعض الضرائب على الصفقات، وجدولة ديون المزارعين، علاوة على انقاذ "مصرف القرض العقاري والسياحي" الذي كان مشرفاً على الانهيار، إضافة الى بداية تحويل مؤسسات عامة الى شركات تخضع لاشراف الدولة مثل "مكتب السكة الحديد" و"مكتب الكهرباء" "ومكتب الماء الشروب" والموانئ والمطارات والاعداد لتحرير قطاعات اقتصادية اخرى وتعديل قانون المصارف وشركات التمويل. وأكد الوزير أنه بين المكاسب المهمة تقليص الديون الخارجية الى15 بليون دولار حالياً ونحو 14 بليون دولار في نهاية السنة المقبلة، بعدما كانت تقدر بنحو 21 بليون دولار عام 1996، واعتبرها من الانجازات الكبيرة التي حققتها الحكومة في السنوات الماضية بفعل التدبير الديبلوماسي النشط للديون واستجابة دول صديقة وشقيقة لدعوة المغرب لتحويل 30 في المئة من الديون العمومية التعاقدية الى استثمارات محلية بعدما وافق صندوق النقد الدولي على هذه الصيغة التي مكنت المغرب من توفير نحو بليون دولار سنوياً. لكن المنتقدين للموازنة اعتبروا انه في مقابل انخفاض الدين الخارجي زاد الدين الداخلي الى 15 بليون دولار وباتا معاً يمثلان نحو 74 في المئة من اجمالي الناتج ويتطلب تسديدهما تخصيص نحو أربعة بلايين دولار سنوياً، ما يجعل الموازنة تعتمد على النظام المصرفي المحلي لتمويل العجز المالي وتحد من فرص القطاع الخاص في تحصيل قروض بشروط ميسرة. واعتقد هذا الفريق ان استمرار العجز في الموازنة يقلص من فرص خفض اسعار الفائدة ما يجعل كلفة القروض مرتفعة لدى الشركات الراغبة في توسيع الاستثمار. وكانت مؤسسات تصنيف دولية مثل "ستندار اند بورز" و"موديس سيرفس" انتقدت ارتفاع الدين المحلي في المغرب واعتبرت أنه يهدد الاصلاحات الاقتصادية المالية التي اعتمدتها الرباط منذ نحو 20 سنة، ويزيد نسبة مخاطر الديون السيادية. ورتبت تلك المؤسسات المغرب في الرتبة "بي بي 1"، وكان المغرب يتطلع الى تصنيف "أ" الذي يمنحه درجة الاستثمار، التي تتمع بها غالبية دول شمال ضفة البحر الابيض المتوسط. آمال وتصنيفات وردت وزارة المال على هذه الانتقادات بالإشارة إلى أن تحرير جل القطاعات الاقتصادية السنة المقبلة مثل الطاقة والكهرباء والتأمينات والنقل الجوي والبري والمصارف والاتصالات وخدمات البلديات وبناء السدود يجعل المغرب في تصنيف الدول الأكثر ليبرالية ويستحق معها صفة "درجة الاستثمار". وذكرت مؤسسة "ستندار اند بورز" أنها ستعيد تصنيف درجة ترتيب المغرب في السنوات الثلاث المقبلة، وهي وضعت اقتصاده تحت المجهر وتنتظر نتائج افضل في النمو ومعالجة الخلل الاجتماعي وتقليص الديون الداخلية. وبررت الحكومة ارتفاع حجم الدين الداخلي بحاجتها الى تمويل الاستثمارات عوض اللجوء إلى الاقتراض الخارجي. وقالت إن الديون المستحقة بالدرهم لا تضع شروطاً مجحفة للسيادة على غرار الديون الخارجية التي كانت تفتح الباب امام "املاءات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي"، كما كانت الحال عليه بين اعوام 1983-1993. وقالت الحكومة إن "الهدف هو تقليص الديون على الأجيال المقبلة وتعزيز السيادة الاقتصادية وتمويل الاستثمارات من دون قروض خارجية وبالاعتماد على عائدات التخصيص والتحويلات والمشاريع الاجنبية الخاصة". وكانت الاستثمارات الاجنبية بلغت ثلاثة بلايين دولار سنة 2001 واعتبرت من اعلى النسب المسجلة في منطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا السنة الجارية. ويتطلع المغرب الى تحقيق مبالغ مماثلة السنة المقبلة على رغم توقع انخفاض ايرادات التخصيص الى 2.1 بليون دولار مقابل 3.2 بليون دولار سنة 2001. وقال وزير المال: "نتوقع ان تنخفض عائدات التخصيص بنسبة 41 في المئة، لكن ذلك لن يؤثر في عجز الموزانة أو حجم الاستثمارات العامة التي قد تصل ستة بلايين دولار باحتساب مشاريع صندوق الحسن الثاني للتنمية واستثمارات شركات القطاع العام". واعتبر ان التخصيص وسيلة لادماج المغرب في الاقتصاد العالمي وجلب التكنولوجيا المتقدمة أكثر منه مسعى إلى تمويل الموازنة العامة على رغم ان جزءاً من تلك العائدات يذهب الى الخزانة العامة وإلى "صندوق الحسن الثاني للتنمية" الذي يتولى تمويل مشاريع اجتماعية، خصوصاً في الارياف. واقترحت "الفيديرالية العامة للشركات المغربية" في الدار البيضاء، تحويل عائدات التخصيص بالكامل الى الاستثمار وتوقعت ان تدر عملية بيع الشركات العامة نحو 15 بليوناً إلى 20 بليون دولار في السنوات الخمس المقبلة، مقابل نحو أربعة بلايين دولار في الفترة الماضية. وأعربت عن اعتقادها أن مبالغ ضخمة تُضخ في الاستثمار قد تغني الموازنة عن الاعتماد على الضرائب الصغيرة المفروضة على اجور الموظفين والمستخدمين لجهة تحريك عجلة التنمية عبر دعم الاستهلاك، واقترحت "الفيديرالية" مزيداً من تحرير الاقتصاد لاعطاء القطاع الخاص دوراً أكبر في الاستثمار والتنمية باعتباره يحصل 75 في المئة من تكوين رأس مال الثابث القومي، والابقاء على تدخل الدولة في المجالات الاجتماعية والتعليم والصحة ومراقبة الأنشطة الاقتصادية من دون تدخل مباشر فيها. وبرر ولعلو اعتماد الموازنة الحالية على استثمارات القطاع العام بكون الظروف الدولية غير المساعدة تتطلب تدخلاً أكبر للدولة لانقاذ القطاعات المتضررة مثل الطيران والنقل والسياحة والصادرات. وقال إنه حتى الدول الكبرى اعتمدت نوعاً من تنفيذ النظرية الكينزية في توجيه الاقتصاد منذ نهاية الصيف الماضي. وعلى رغم ان المغرب أعلن رسمياً أنه لن يتضرر كثيراً من مضاعفات احداث 11 ايلول سبتمبر، إلا أنه لم يستبعد تقلص النمو بنصف نقطة من الناتج الاجمالي بسبب تباطؤ النمو في أسواق دول الاتحاد الاوروبي التي تمثل نحو 75 في المئة من مجموع تجارة المغرب الخارجية المقدرة نحو 16 بليون دولار. ويتوقع المغرب ان تتضرر قطاعات السياحة والنقل الجوي وصادرات الملابس بالوضعية الدولية الجديدة، وكانت "الخطوط الملكية المغربية" حصلت الشهر الماضي على دعم أولي بنحو 60 مليون دولار لمساعدتها على تجاوز الركود التجاري وانخفاض أعداد المسافرين. وسجلت حركة السياحة بدورها تراجعاً في أهم المدن السياحية مثل مراكش واغادير وطنجة وفاس، لكن المشرفين على القطاع قللوا من حجم التأثير واعتبروا ان العائدات في كل الاحوال لن تقل عن بليوني دولار وهي مبالغ مشجعة للاستثمار في قطاع السياحة الذي يراهن على بلوغ عشرة ملايين سائح سنة 2010، وبناء 80 ألف غرفة جديدة بكلفة ثلاثة بلايين دولار. وتعتقد مصالح وزارة المال من جهتها أن النقص المرتقب في السياحة قد تعوضه تحويلات المهاجرين التي اصبحت اول مصدر للعملة الصعبة في البلاد. كما ان استقرار اسعار الطاقة بين 18 الى 22 دولاراً للبرميل الواحد قد يقلص من فاتورة النفط التي كانت كلفت المغرب العام الماضي أكثر من بليوني دولار. وكانت اسعار الطاقة من الاسباب غير المباشرة التي قلصت النمو الاقتصادي في المغرب العامين الماضيين الى جانب الجفاف وانخفاض سعر صرف اليورو. ويبدو المغرب من الدول العربية القليلة او النادرة التي تتضرر من ارتفاع أسعار النفط بسبب عدم انتاجه للنفط، وهو يراهن على التغلب على هذه المفارقة في السنوات الثلاث المقبلة بالانضمام الى نادي الدول المنتجة للنفط بعد بروز مؤشرات هامة في مجال الاستكشافات. المفارقة بين الاقتصادي والاجتماعي يجمع الخبراء على ان المغرب لا يواجه أزمة تمويل كما كان الشأن في عقد الثمانينات والتسعينات بدليل انه ارجأ اكثر من مرة اقتراضاً دولياً كان سيوجه الى تمويل ديون قديمة متعاقد عليها بفوائد عالية لزيادة سمعة صدقيته المالية الدولية وتحسين صورته الخارجية. وتقول دوائر "المصرف المركزي" إنها تملك احتياطياً نقدياً يزيد عن تسعة بلايين دولار، وتمتلك الخزانة فائضاً في الموازنة يقدر بنحو 2.1 بليون دولار الموارد - النفقات وعائدات سنوياً تزيد عن أربعة بلايين دولار يحصلها من السياحة وتحويلات المهاجرين في أوروبا تكفي لتمويل عجز التجارة الخارجية. كما بات المغرب يحقق ايرادات كبيرة من قطاعات واعدة مثل تكنولوجيا الاتصالات والصيد البحري والملابس الجاهزة، وهي تدر مجتمعة نحو خمسة بلايين دولار. لكن البلد يواجه مع ذلك ركوداً اقتصادياً مزمناً فاقم الأوضاع الاجتماعية وزاد في اعداد الشباب العاطلين عن العمل داخل المدن الكبرى الذين يبلغ عددهم نحو ربع القوى العاملة المقدرة بنحو عشرة ملايين شخص تزيد اعمارهم عن 16 سنة. ولا يكاد يمر يوم من دون ان يشهد المغرب اضراباً في بعض القطاعات او اعتصامات لشباب غاضب يطالب بحقه في العمل. وتعيب هذه الفئات على الحكومة عدم قدرتها على تأمين فرص عمل كافية وعدم تحسين وضعية العاملين والموظفين الذين تآكلت اجورهم بارتفاع الاسعار وزيادة التضخم. وتتراشق الاحزاب المشاركة في الحكومة مسؤولية الأزمة ويسعى كل طرف الى استمالة الشباب بتقديم وعود غالباً ما تبقى مجرد وعود. وتتباين أسباب الركود الاقتصادي في المغرب: فالبعض يعيدها الى الجفاف وأسعار الطاقة وصرف اليورو والبعض الاخر يرجعها الى غياب الرؤيا في اعداد الموازنة وانخفاض رصيد الثقة من قبل اتحادات رجال الأعمال التي فشلت في اقناع الحكومة في خفض بعض الضرائب وتشجيع القطاع الخاص للتأقلم مع متطلبات العولمة. والطرف الثالث يعتقد ان الازمة هي نتاج سوء تدبير امتد لعقود من الزمن كانت تغيب فيه الشفافية في ادارة الاموال العامة. ويتوقع المراقبون ان يشهد المغرب السنة المقبلة نقاشاً اقتصادياً ساخناً على هامش الانتخابات التي ستجرى الصيف المقبل حيث يتوقع ان تكون قضايا الشغل والتعليم والصحة والتنمية الريفية والأجور والضرائب احد عناوينها الكبيرة.