} قد يكون من السهل الدخول إلى أي تنظيم مسلح في العالم ولكن ليس هناك اصعب من وضع شخص يدخل، من دون رغبته ومعرفته، وربما تحت وقع أحلامه بعيش أفضل، تنظيماً مسلحاً مثل "القاعدة"، ثم يقاوم من أجل أن يخرج منه على رغم الاغراءات فالتهديد بالقتل. إنها شهادة حية لشاب جزائري متخرج من الجامعة، تزوج قبل سنتين وتحول حلمه بالعيش في ألمانيا إلى كابوس قاده إلى أخطر خلايا تنظيم أسامة بن لادن في تونس وليبيا. وهو اليوم يصارع العزلة والموت البطيء. الشهادة استقتها "الحياة" وحققت فيها لتبرز تجربة قاسية وفريدة من نوعها. بدأت قصة الشاب لعمش نصر الدين، وهو تاجر من دائرة العلمة في ولاية سطيف، قبل سنتين، حين التقى في فندق في شارع ديدوش مراد في العاصمة الجزائر شخصاً يدعى مجدوب، وهو من ولاية مستغانم يقيم في ألمانيا منذ سنوات، والذي تعرف عليه معرفة عابرة وفضل بعد ذلك صداقته "كانت له هيئة وهندام يؤكدان أنه يعيش في ظروف جيدة". هكذا وصف صديقه الجديد. وعلى رغم عدم تواصل المعرفة بشكل مكثف ومنتظم، إلا أن السيد مجدوب كان على اتصال بصديقه الجديد الذي كسب وده قبل أن يشده إليه حين عرض عليه السفر برفقة زوجته إلى ألمانيا للعمل موزع رسائل لمصلحة جمعية خيرية تنشط هناك "وإن رغبت هناك آلاف من المهن الأخرى". وجرى الاتفاق على أن ينتقل لعمش نصر الدين إلى تونس حيث يجد هناك من يتكفل به، وقد طلب منه مسبقاً الحصول على تأشيرة دخول إلى الصين تسلمها له وكالة سياحية في منطقة العلمة بولاية سطيف 300 كلم شرق الجزائر ليتمكن، في تونس، من شراء تذاكر السفر له ولزوجته، على أن تكون محطة التوقف الموقت في مدينة فرانكفورت الألمانية حيث كان مقرراً أن يتولى بعض الأصدقاء إخراجه من منطقة العبور الدولي للتسلل إلى الأراضي الألمانية. بداية الرحلة كانت يوم 28 آذار مارس 2001 حين دخل لعمش نصر الدين مطار هواري بومدين الدولي في الجزائر للانتقال إلى تونس حيث منعته شرطة الحدود من السفر بسبب افتقاده وثيقة تأجيل الخدمة الوطنية التي تشترطها، في العادة، لكل من يغادر الجزائر من الشباب الذين لم يتجاوز سنهم الأربعين عاماً. وعلى رغم الصدمة التي اعترضت رغبته إلا أن نصر الدين لم يفقد الأمل فبادر مجدداً إلى تكرار المحاولة، لكن عبر شبكات التهريب عبر الحدود الجزائرية - التونسية حيث أمضى 20 يوماً للتعرف على عناصر شبكة اشترطوا عليه دفع مبلغ 5000 فرنك فرنسي رشوة لشرطي في مركز الحدود في منطقة المريج بولاية تبسة الحدودية، وقد تحقق له حلم مغادرة الجزائر بتاريخ 21 نيسان ابريل الماضي. كانت زوجته في الشهر السابع من الحمل وقد تكفل السيد مجدوب بجميع مصاريف التنقل. يقول الشاب لعمش: "أعطاني مجدوب رقم هاتف التونسي ر. اللبدي، وعندما وصلت إلى العاصمة تونس التحقت بفندق "دار سليم" حيث بادر ر. اللبدي إلى أخذ جوازي السفر واشترى لنا بطاقتي سفر إلى العاصمة الصينية بيكين من طريق مطار قرطاج الدولي على أن يكون التوقف في مدينة فرانكفورت الألمانية كما هو مقرر". يقول السيد لعمش: "إن اللبدي تاجر كبير على رغم حداثة سنه، وله معارف في تونس وعلاقات واسعة في المطار والميناء، وغالبية السيارات التي يتنقل بها تحمل لوحات ترقيم أوروبية". وهو أيضاً "يمتلك وثائق إقامة في المغرب وإيطاليا". كانت وضعية الزوجة صعبة فالحمل يتثاقل عليها وخلال توجههما، في اليوم التالي، إلى مطار قرطاج الدولي خرج لعمش مع اللبدي الذي سرعان ما أخذه، لوحده، قصد التنزه قرب المطار ليكتشف بعد عودته جمعاً من المواطنين أمام المكان الذي استقرت فيه زوجته "لقد وجدت زوجتي ملقاة على الأرض بسبب أوجاع الحمل". ويذكر هذه الفترة الحرجة فيقول: "لقد استاء مني اللبدي لأنني لم أصارحه بوضع زوجتي، فأخبرته أن الوضع طرأ عليها وهي في الشهر السابع" ونُقِلَتْ مباشرة بعد ذلك إلى مستشفى منجي سليم في منطقة المرسى. في ذلك الوقت، يقول لعمش، بدأ اللبدي في إجراء اتصالات "غامضة" عبر الهاتف النقال "وبعدها اشترى لي ملابس المولود الصبي الجديد، وبقيت مع زوجتي يومين كاملين قبل أن يمنحني في اليوم التالي 900 دينار تونسي لدفع مستحقات المستشفى". وفي هذا اليوم تعرف السيد لعمش على شاب جزائري يدعى ياسين ملياني أبلغه بوجود اتفاق بين الجزائروتونس في ما يتعلق بالاستشفاء المجاني، ودعاه إلى التقرب من قسم الشؤون الاجتماعية في المصالح القنصلية الجزائرية في تونس للحصول على وثيقة تمكنه من إخراج زوجته من دون دفع سنتيم واحد. يقول نصر الدين: "خرجنا من المستشفى وعدنا مجدداً إلى الفندق، وقد دعاني اللبدي إلى البقاء في الفندق واقترح عليّ بعدها الذهاب إلى بيت والديه للتكفل أكثر بالزوجة والصبي". ويشير في هذا الصدد إلى كرم عائلة اللبدي التي ذبحت لهم خروفاً "علوش" تبركاً بالمولود وهي كانت تبرعت، كما يذكر، خلال الثورة التحريرية بمقدار من المال لجبهة التحرير الوطني لدعم الكفاح المسلح ضد الاستعمار الفرنسي. كان لعمش مضطرباً، وقد أجبره اللبدي على الانتقال معه إلى الميناء في منطقة "حلق الوادي" حيث كان يعمل في تجارة استيراد السيارات من طريق شراء وثائق الامتياز التي تمنحها الدول الأوروبية للرعايا الذين يفضلون العودة نهائياً إلى بلدانهم الأصلية. في هذه الفترة بدأ اللبدي يشعر بضرورة المبادرة ومصارحة لعمش بحقيقة وضعه المستقبلي، وكانت البداية بنقله إلى "الفيلا المركز" التي تقع في حي الوردية حيث تعرف هناك، مجدداً، على الجزائري ياسين الملياني وجزائري آخر يدعى نور الدين وهما من منطقة الشرق. "كنت كلما أدخل الفيلا يصعدون هم إلى الطابق الأول لعقد لقاءاتهم المنتظمة وأبقى أنا في باحة الطابق الأرضي أنتظرهم وكان بينهم مغربي، ليبي، ولبناني تكتموا على أسمائهم في البداية". ومع توالي الأيام بدأ "الأصدقاء الجدد" بمصارحة لعمش. وكان النقاش يدور، في كل مرة، "عن الأنظمة الحاكمة، سواء في الدول العربية أو في الجزائر، ويتحدثون عن الحكام والبوليتيك أي السياسة ويحاولون، في كل مرة أدخل معهم في النقاش، أن يفرضوا آراءهم على أساس أن الإسلام دين كامل وليس ناقصاً". كما شملت أحاديثهم قضايا تكفير الحكام والشعوب العربية "لأن الساكت عن الحق، كما كانوا يقولون، شيطان أخرس". وشملت النقاشات أيضاً "الحديث عن هؤلاء الذين يموتون لتحقيق هدفهم، وإذا تحتم على الواحد شرب الخمر فليشربه ما عليهش المهم الله يعلم بالنية". ويلخص لعمش هدف هذا التنظيم بوضوح: "إنهم يريدون الجهاد في الدول الغربية وأميركا على أساس أن الأمة الإسلامية محتقرة سواء في فلسطين أو في العراق". ويتابع: "كانوا يقولون لي ان الولاياتالمتحدة والغرب سيأكلوننا بالواحد، وكان الحديث أيضاً عن الجهاد ضد الحكام العرب لأنهم تابعون لأميركا". يشرح نصر الدين وضعه النفسي بعد أن تفاجأ، كما يقول، بهذه "الخرجة" ووجوده في قلب تنظيم القاعدة ويوضح: "لم أستطع أن أقول لهم لا، لأنه يصعب علي أن أخرج عنهم، وعليه قررت مكرهاً البقاء على هذا النحو لفترة جديدة". كانت اللقاءات تعقد مساء كل يوم في فيلا حي الوردية وكانت تستغرق بين الثلاث ساعات وأربع "وفي كل مرة كنت أشعر أكثر فأكثر بأني وحدي بينهم وهم كلهم ضدي". وبعد أيام كلف نصر الدين أول مهمة برفقة اللبدي، وكانت الوجهة العاصمة الليبية طرابلس للقاء أحد "الأصدقاء" يدعى سيف الله ويقيم في ضواحي العاصمة، وكان الشرط "ألا أتكلم أمامه ولا أتحدث إليه". سيف الله، كما يذكر، شخص بدين، طويل وعريض، له لحية قصيرة، استقبلهم، كما يذكر، بحفاوة، ودخل بهم إلى البناية الكبيرة، وكان المسار هو الصعود في السلالم قبل أن يصادفوا مدرجاً أرضياً جديداً يؤدي إلى دهاليز البناية "كانت فيها قاعات تحت الأرض تضم كراسي ولوحات وصبورات وخزانة كبيرة رأيت فيها ثماني قطع سلاح من نوع كلاشينكوف ومختبراً كان مجهزاً وحديثاً للغاية، وفي القسم الآخر من البناية كان هناك ضجيج يصدر عن أشخاص تقاسموا إحدى القاعات". وبعد تناول القهوة سلم سيف الله "الأمانة"، وهي كما يذكر محدثي، عبارة عن ظرف كبير فيه مجموعة من الوثائق، وقال إن الظرف وصل قبل يومين فقط. ولنقل هذه "الأمانة" فككت براغي فراش مقاعد السيارة ووُضعت تحت الغطاء وشُدّت من جديد، وقد اقترح التونسي اللبدي على السيد لعمش منحه سيارة "بيجو 405 براك". وتم ذلك خلال عملية التعاقد التي جرت رسمياً في مقر السفارة التونسية في طرابلس. وفي اليوم نفسه عاد أصحاب "المهمة" إلى تونس عبر النقطة الحدودية المسماة "رأس الجدير" حيث سلكوا المعبر المعزول المحاذي للساحل وكان في انتظارهم بقية عناصر المجموعة على متن سيارة من نوع باجيرو تحمل لوحة ترقيم ألمانية من مدينة بادن بادن. تسلم "أبو الغيث" المغربي، صاحب السيارة، الظرف وردد عبارات لتهدئة نفسية الجزائري لعمش الذي بدت عليه علامات الاضطراب والذهول لما رآه في طرابلس "إننا مغتربون عن هذه الأمة وما عملنا هذا إلا لرفع شأنها". وخلال هذه "الخلوة" كان الحديث يدور، كما يذكر، عن عظمة الخالق وروعة الكون. وفي آخر المساء تُرك لعمش وحده في فندق هذه المنطقة، فيما ذهب عناصر المجموعة إلى منطقة أخرى، وفي اليوم التالي عاد إلى العاصمة تونس، حيث التحق بزوجته وابنهما الجديد المقيمين في مسكن والدي اللبدي. وفي كل مساء، وكما جرت العادة، كنا نلتقي بالفيلا "وفي الحقيقة، وبعدما رأيت المختبر وخزانة الأسلحة في طرابلس شعرت بالرعب، وقررت أن أظهر لهم تجاوبي معهم إلى أقصى الحدود. وسألت في المناسبة، عن تاريخ التحاقي ببكين عبر فرانكفورت". وكان رد اللبدي: "إننا نملك القدرة على أن ندخل أي إنسان إلى أي دولة بما في ذلك الولاياتالمتحدة الأميركية بشكل عادي تماماً". ومع توالي الجلسات بدأ عناصر التنظيم يطمئنون إليَّ أكثر فأكثر "فأصبحوا يتحدثون عن تحويل الأموال وطرق جمعها والتي كانت تسلم إلى المغربي، بينما كانت مهمة راشد هي جمع الأموال"، وحتى عن شخصية نزار الطرابلسي مسؤول التنظيم في أوروبا الذي كانوا يذكرونه بخير ويمجدونه. ولضمان عدم تعرض لعمش إلى أي ضيق مالي كان اللبدي يوفر له يومياً 300 دينار تونسي أي ما يعادل "18 ألف دينار جزائري"، بينما كان بقية عناصر المجموعة في تنقل دوري بين تركيا ودبي. ولتأمين تنقل لعمش طلب منه عناصر المجموعة حمل آلة تصوير للتمويه في شخصية سائح وبالتالي تجنب شكوك عناصر الأمن التونسي. وخلال لقاء ليليّ داخل الفيلا رن هاتف المغربي النقال الذي كان يستأجر في ذلك اليوم سيارة فولفو. وبعد تبادل قصير للحديث دعا بقية عناصر المجموعة إلى الذهاب معه، وطلب من الجزائري لعمش البقاء وحده في هذه الفيلا على أساس أنهم سيعودون بعد ساعتين. يقول نصر الدين: "بعد تفكير قررت أن أجول داخل الفيلا وأعرف أسرارها، وتمكنت من أن أتأكد أنها فارغة وأن لا أحد في داخلها. بدأت البحث والتعرف على هوية هؤلاء، وفتحت الخزانة وتفحصت ما في داخل حافظة الأوراق التي عثرت عليها، وقررت المجازفة بتصوير محتوياتها بالآلة التي كانت في حوزتي". كانت هذه الخطوة حاسمة "اقتنعت بضرورة الفرار وقمت بإرجاع الوثائق بالترتيب الذي كانت عليه، وأخرجت من بدلة المغربي مفكرة صغيرة كان فيها أرقام هاتف وحسابات بنكية في أوروبا". ولتأمين وضعه، قام بوضع فيلمي آلة التصوير داخل جواربه. "كنت خائفاً، وقلت في قرارة نفسي إنه لا بد أن أجد العذر الذي يمكنني من الانصراف". وبعد ساعتين عاد اللبدي وحده فأبلغه نصر الدين بأنه مريض ويشعر بالقيء فبادر إلى نقله إلى المركز الصحي "حيث تلقيت حقنة طبية للعلاج". لم يكن ممكناً أن يبادر لعمش إلى طلب التخلي عن هذا التنظيم لأن مصيره سيكون الموت، وعليه "فضلت التمهل لمدة أسبوع قبل أن أبلغه رغبتي في العودة إلى الجزائر حتى يرى أهلي وعائلة زوجتي ابننا الجديد، على أن أعود مجدداً أيام قليلة". كانت هذه الحجة الوحيدة التي توافرت لنصر الدين للتخلص بذكاء من قبضة التنظيم، لكن اللبدي رفض هذا الطلب، وأمام إصرار لعمش على ضرورة العودة إلى الجزائر لبعض الوقت "قرر إحالة القضية على عناصر المجموعة لكنهم رفضوا خلال اللقاء وتبادلوا نظرات غريبة، فشعرت أن هناك شيئاً ما يدبر ضدي". في الصباح الباكر "أبلغت أن السيارة التي كانت باسمي قد سرقت وقالوا لي انه يستحيل عليّ مغادرة التراب التونسي لأن السيارة دخلت إلى تونس باسمي وستسجن إن حاولت مغادرة تونس دونها. كان ذلك عاملاً عمّق الخوف فيّ وهز مشاعري أكثر من صعوبة هذه المجموعة". وفي خطوة لمواجهة عناصر التنظيم بادر لعمش إلى التعبير عن قناعته أن السيارة لم تسرق وأنهم حاولوا فعل ذلك لشله عن التنقل، "فحاول بعضهم، بشكل يائس، نقلي إلى بعض محلات بيع قطع الغيار لعلها تكون هناك". في هذه الظروف قرر لعمش، كما يذكر، مصارحة زوجته التي كانت تتساءل، في كل مرة، عن سر هذا السخاء غير المحدود "وقررت بالموازاة مع ذلك تهديدهم بتبليغ السلطات التونسية والسفارة الجزائرية بالأمر إن لم يتركوني أعود إلى بلدي". وفي مقابل ذلك وعدهم بالعودة مجدداً إلى تونس. وتقرر في نهاية الأسبوع الأول من شهر حزيران يونيو عقد لقاء طارئ في الفيلا. وتم، على غير العادة، في حدود الساعة الثالثة مساء: "شعرت بالخوف من أن يعمدوا إلى اختطافي، ولتجنب أي مشكل أعطيت الأفلام لزوجتي". ومباشرة بعد وصوله بادر أبو الغيث المغربي، مسؤول التنظيم، إلى مساءلة لعمش عن سر رغبته في العودة إلى الجزائر "ونحن ساعدناك ووفرنا لك كل شيء حتى لا تشعر بالحاجة"، فوعدتهم بالعودة مجدداً. وقدم لهم، مكرهاً، كما يوضح، العهد والقسم اللذين طلبا منه للعودة. وبعد قرارهم قبول عودته إلى الجزائر على أن يلتحق بهم مجدداً، تعهد عناصر التنظيم، في مقابل ذلك، ضمان كل الإمكانات "لقد استغليت تذاكر الرحلة الأولى التي ألغيت بسبب أوراق الخدمة العسكرية للعودة مجدداً واشتريت تذكرة للطفل، ومنحني اللبدي، الذي رافقه إلى المطار ياسين ما يعادل 4200 فرنك فرنسي". وقام أيضاً بسحب تذاكر السفر الخاصة به وبزوجته إلى بيكين عبر فرانكفورت وكذا بطاقات الإقامة، على أن تستأنف الرحلة مباشرة بعد عودته، وطمأنه اللبدي: "لا تخف. عندما تكون مع زوجتك في أوروبا لا أحد يشك فيك لأنك غير معروف عند السلطات". كانت كلمة السر عند العودة مجدداً إلى تونس ورقة دولار اميركي واحد سلمت له وكان المطلوب أن يبقى في الفندق حتى يظهر له الشخص المعني ورقة مماثلة "مزورة" لكن تحمل الترقيم نفسه. بداية المشكلات كان يفترض أن يكون لعمش نصر الدين، خلال الفترة الماضية، في ألمانيا، لذلك كان يصعب عليه إقناع أفراد عائلته أن عودته بهذه السرعة عادية: "قلت لهم إنني سأعود إلى ألمانيا حال تسويتي بعض القضايا ولم أستطع مصارحتهم على الإطلاق بهذه القصة". ولتأكيد صحة أقواله أمام عائلته قام بإضافة مدينة "فرانكفورت" و"ألمانيا" في أسفل صورة ابنه في جواز سفر زوجته، لكن ذلك لم يحل دون تردي العلاقة بينه وبين عائلته وبينهم وبين زوجته "لقد طردت، بشكل غير مباشر، من البيت ما دفعني إلى الإقامة عند صهري". وبعد أيام من الإقامة قرر لعمش، في نهاية تموز يوليو الماضي، أن يبلغ طواعية ما حدث له إلى مصالح الأمن: "اتصلت بالشرطة القضائية في ولاية سطيف فليس لدي ما أخشاه ما دمت بريئاً". دام التحقيق ثلاث ساعات كاملة "تجنبت فيها الخوض في الطابع الإسلامي لهذا التنظيم لأنني كنت أخشى السجن على رغم براءتي". وعقب التحقيق سحبت مصالح الأمن جواز سفره وكل الوثائق الشخصية: "بقيت من دون وثائق، حتى للتنقل". وفي التحقيق الثاني جاء إلى المكتب عناصر من الأمن العسكري وقاموا بتصوير جواز سفر زوجته وأخذوا منه ملصقة السيارة التي كانت باسمه ومفتاح علبة البريد في تونس. ووسط هذه العزلة اضطر لعمش نصر الدين إلى قضاء كامل وقته في الشارع فليس لديه أي عمل. وفي منتصف شهر آب اغسطس الماضي فوجئ بابن صهره وهو يسلمه رسالة قيل له ان أفراداً جاؤوا بها على متن سيارة من نوع بيجو 505 سوداء: "الرسالة كانت من اللبدي وقال لي فيها انك وعدتني ولم تعد على ما وفرته لك". كانت الرسالة مكتوبة بالآلة الكاتبة وباللغة الفرنسية وكانت مرفقة بصك قديم يحمل تبرع جده خلال الثورة لجبهة التحرير الجزائري، إشارة إلى أن الرسالة فعلاً صادرة عن اللبدي. وأرسل معها مبلغ 6000 دينار جزائري وأبلغه أنه يعلم بمشكلاته العائلية، وحدد له موعداً منتصف نهار الأربعاء في ساحة "السيكوار" في الجزائر العاصمة حيث كان مقرراً أن ينتظره وسطاء تابعون للتنظيم كانت مهمتهم تزويده الأموال لضمان عودته مجدداً إلى تونس. وبعد أسبوع، وفي حدود الساعة الثامنة مساء، وعندما كان في طريقه إلى المقهى، قرب ثانوية شهاب في العلمة، توقفت أمامه سيارة سوداء من نوع بيجو 505، كانت تحمل الترقيم الفرنسي. "عندها توجه نحوي رجلان، الأول عيناه زرقاوان وكان يحمل سلاحاً من نوع HK، والآخر عريض وله شنبات، قال لي: "كيف حالك. لا تخف لقد بعثنا إليك اللبدي. لقد كان الموعد محدد يوم الأربعاء في السيكوار فلماذا تتلاعب بنا". وتابع "إن مشكلاتك تهون". وبعد تبادل قصير للحديث لم يتجاوز عشرين دقيقة، قرر لعمش، كما يذكر، إبلاغ محدثيه أنه لن يعود. وحملهم وصية إبلاغ "صديقه" بقراره عدم العودة مجدداً إلى تونس، وبالتالي لا داعي للانتظار، لكنهم ردوا عليه بتهديد آخر "سنرسل رسالة إلى السلطات الأمنية وسنبلغ عنك ونوسخ صورتك وستعتقل وتعذب، فالأفضل لك أن تذهب إليه". وبعد أيام عادوا مرة ثانية والتقوه في المنطقة نفسها تقريباً، لكن هذه المرة كانوا على متن دراجة نارية كبرى خاصة بالسباق، لونها أصفر وأزرق. جاء هذه المرة أزرق العينين، وهو يبدو بحسب لهجته من العاصمة، ومعه شخص يحمل منقاشة في الأذن: "كانت رسالتهم واضحة. إن لم تطاوعنا سنمحوك من وجه الدنيا". ويتابع روايته: "حاول بعد مناوشة كلامية إبراز السلاح الذي بحوزته، وقد تمكنت من شل حركته بضربة رأسية. ولحسن حظي أن صديقه لم يعرف استعمال السلاح الذي سقط منه قبل أن يضربني بالسكين، ومزق قميصي وألحق بي إصابات وجروحاً على مستوى الصدر والذراع". مباشرة بعد هذا الاعتداء الذي تركه غارقاً في الدم عاد نصر الدين إلى البيت وطلب من ابن صهره دعوة الشرطة التي تكفلت بنقله إلى المستشفى ثم إلى مركز التحقيق، واستخرجت شهادة الطب الشرعي لتأكيد الضرر وخطورته و"أصبحت بعدها لا أخرج من البيت". وفي مطلع شهر أيلول سبتمبر الماضي وجد رسالة موضوعة في حافة الباب فيها تهديد بالقتل وبعدم النجاة وإن اختبأ هو وزوجته، كتبت بالعربية من دون أن تحمل أي تسمية "عندما بلّغت مصالح الأمن في ولاية سطيف تعهدوا توفير الحماية الكاملة لي لكن ذلك لم يبدد الخوف الذي تملكني". "وبعد التفجيرات التي هزت الولاياتالمتحدة الأميركية في 11 أيلول الماضي، ودعوة الولاياتالمتحدة كل الناس الى التعاون معها لاستئصال الإرهاب قررت المغامرة والاتصال بالسفارة الأميركية في الجزائر". "كتبت الفاكس إلى السفيرة جانيت سندرسون باللغة الفرنسية، وتولت زوجتي إرساله من محل خدمات الهاتف القريب من البيت وأبديت فيه رغبتي في التعاون معهم للقضاء على الشبكات الإرهابية في الخارج، ولكن، على رغم أنني وضعت رقم الفاكس الخاص بمكتب الخدمات الهاتفية، إلا أن الرد لم يأت. ربما لم يأخذوا الأمر بجدية". بعد أسبوعين قرر لعمش الاتصال مجدداً بالسفارة لكن عبر الهاتف: "تحدثت معي جزائرية فأبلغتها بالموضوع وطلبت منها مساعدتي على الحديث مع المسؤول الأمني الأميركي لكن ليس في الهاتف ولكن في لقاء مباشر معه، وبعد تردد من جانب مسؤولي السفارة قُبل العرض". كانت الساعة العاشرة صباحاً وتعهدت بأن أكون عندهم قبل انقضاء المساء، واشترطت أن أذهب برفقة زوجتي وابني، وقد قبل مسؤولو السفارة الطلب على مضض: "أخذت أمتعتي وركبت سيارة الأجرة في حدود منتصف النهار ووصلنا إلى ساحة بور سعيد في حدود الساعة السادسة ورفض سائق الأجرة نقلنا إلى شارع الإبراهيمي حيث مقر السفارة". "كنا في سباق مع الزمن فاستقلينا سيارة "كلاندستان" اشترط سائقها نقلنا إلى شارع البشير الإبراهيمي في مقابل مبلغ 500 دينار "حيث وجدنا في السفارة من ينتظرنا. وقد رفض مسؤولو أمن السفارة أن يكون اللقاء بحضور زوجتي وابني". اللقاء مع مسؤول الأمن في السفارة الأميركية في الجزائر السيد جوزيف بران ديركاست "كان مثيراً للغاية"، كما يذكر، وبدأ في رواية قصته بالكامل وقدم له وعداً بإعطائه الأموال التي يطلبها فضلاً عن اغراءات أخرى مثل إجراء اتصالات مع السلطات الجزائرية لمنحه جواز السفر الموجود عند مصالح الأمن الوطني. وقيل له إنهم سيعملون ما في وسعهم لأخذه معهم للتعرف على هذه المختبرات الموجودة في ليبيا لكنهم رفضوا بالموازاة مع ذلك منحه ترخيصاً بالبقاء في مقر السفارة "لا بد من الحصول على الاذن من واشنطن". ويتابع السيد لعمش موضحاً: "لقد سلمته شرائط التصوير التي تتضمن مخطط هذه الجماعة في أوروبا وأسماء عناصرها، وقدم لي مبلغ 3000 دينار جزائري، وقال إنهم سيبقون على اتصال معي، وطلب مني إعادة الاتصال بهم بعد عشرة أيام". "ومنذ هذا اللقاء، كلما أحاول الاتصال بهم يرجئون الأمر إلى موعد لاحق"، وكانت الردود "إن واشنطن منشغلة في الوقت الراهن بالحرب العسكرية في أفغانستان وسيفصل في قضيتك قريباً". لقد "كلحني" أي خدعني مسؤول أمن السفارة الأميركية. فمنذ هذا التاريخ انقطع الاتصال وذهبت هذه الإغراءات بعد أن استنفد كل المعلومات.ومنذ هذه الحادثة يعيش لعمش وحيداً "لقد قضيت رمضان خارج البيت، وكان العيد حلقة مرّة تجرعتها مجدداً في الوحدة والعزلة". واجه السيد لعمش إغراءات وتهديدات تنظيم القاعدة فوجد نفسه أمام عزلة قاتلة وتهديدات بالموت. وهو قرر أن يفجر هذا الكابوس القاتل لعله يتمكن من مواجهة الوضع الذي يعيشه ويعكر عليه صفو حياته.