يُسمّي الكاتب محمد العباس الجدال القديم المتجدد حول "قصيدة النثر"، في كتابه الصادر له حديثاً عن المركز الثقافي العربي في بيروت بعنوان "ضد الذاكرة... شعرية قصيدة النثر" "تلاسناً استاطيقياً". وهذه العبارة القلقة، لها مثيلاتها في الكتاب، كقوله مثلاً في ما يشبه تعريفاً بالشعر إنه "إمكان جمالي إنساني هائل... إنه اندهاش كوني أو فعل خيلولة ووعي". والكتاب، في سياقاته العامة، وتنقله القلق والدائم من كلمة الى أخرى، وموضوع الى آخر، ينطوي على لغة تهويمية، من نوع "تلاسن" و"خيلولة" و"قهقهة على الأطلال" و"استدماج" و"جوهرانية" و"قهقهة مالارميه"، ومن نوع العبارات التالية "... تأوين الظاهرة ومفهمة سرّ تعاظمها" و"استخدام أقلوية القاعدة القرائية بمحايثة نخبوية"... و"محقونة بنيات حفر واعٍ وغوري"... و"الوجود الأنطوقي"، وما شابه ذلك من عبارات تنمّ عن لغة مرتبكة وتشير الى مفاهيم مرتبكة. يضاف الى ذلك ما يشبه الكلام الإنشائي العاطفي، عن الشعر وما هو؟ والشاعر، والحداثة، كقوله في تعريف الشاعر: "... ذلك هو الشاعر الذي تنفذ الأشياء الى ما تحت جلده فتصطك بعظامه حتى تختزن في أقاصي الروح"، أو كقوله في تعريف اللغة "اللغة شكل من أشكال التجابُه الدائم بين الانسان ومصيره، يتطلبها القول الشعري كفعل تسمية لا حدّ لمرونته لردم هوّة الرعب الوجودي الفاصل ما بين الكلمة والحقيقة"، وقوله في نقده للحداثة إنها "حداثة مستريبة، مشروطة، مرتبكة، وأحياناً متطرفة، انقطاعية، وغير عابئة، ولا واعية بمشروطية الحوار المنفتح حول أسئلة الشعر الجوهرانية، بل تائبة عن نواياها، ومؤجلة لينبغيات تناميها...". إن هذا القاموس الهلامي المرتبك والفنتازي، هو المسيطر على عبارة الكتاب والموجّه لأفكاره في مسألة "قصيدة النثر"، مع بعض استثناءات في صفحات قليلة من الكتاب، سنأتي على ذكرها، وكان من الممكن ضمها لتشكل مقالاً جيداً في موضوعه، لا أن تضيع في سيل متدفق من تشويش العبارة والموقف والفكرة. ومن خلال فصول الكتاب، بل من خلال فقرات الفصل الواحد، يسأل القارئ نفسه سؤالاً حول موقف الكاتب من قصيدة النثر: هل هو منحاز لها، أم منحاز ضدها؟... وحول الحداثة: هل هي حقاً قلقة مرتبكة تائبة عن نياتها، أم انها كانت ضرورة تاريخية لا بد منها في صيرورة الحياة والفن معاً... فهو في شأن قصيدة النثر، أو "مفهمة قصيدة النثر" بعبارته، "كصيغة ابداعية مغايرة ومؤهلة لنبش الذاكرة"، يرى أنه لا يمكن ردها الى نسب أو مرجعية، وبالتالي فهي ذات "أبوّة غائبة"... من جهة... وهذه المسألة غير دقيقة تاريخياً، بل لعله صار من المسلَّمات المدرسية، اليوم، وضع تاريخ لهذه القصيدة، من بودلير الفرنسي وولت ويتمان الأميركي حتى هذه الأيام، وقد كفت "سوزان برنار" الباحثين هَمّ التقصي في هذا الباب، من خلال كتابها الشهير الذي يعتبر بمثابة مرجع بديهي عن قصيدة النثر في الغرب، فما معنى الادعاء أنها "ذات أبوّة غائبة"؟ كما أن احتكام المؤلف للذائقة، بشأنها، يبقى احتكاماً مبهماً، بل هو احتكام غير نقدي، على الأرجح ص 31 وما بعدها من الكتاب. انه يقول وذلك من جملة تعريفاته العجيبة: "هكذا يمكن أن تندغم الذائقة بالذاكرة وتعاندها أيضاً ببعض مكوناتها، أي بجدلية الحس/ المعرفة، فهي آلية استبصارية أكثر تعقيداً والتباساً من خطاب الحفر المعرفي، إذ الذائقة حدس بالموارب من الأشياء، وهَوَس بالموحي من عمى العلامات، وهي إيغال في إخفاء المغيّب، وحضور في لحظة ومكان الغياب. ومفهومياً، هي آلية استقصاء معرفية ضمن تخومها ومداراتها بالتأكيد، وليس ضمن الإطار العام للقوانين الجمالية والمعرفية، وهي بالتالي موقف ثقافي جدلي بالضرورة، متعدد الأبعاد ازاء قيمة جمالية، من دون أن تكون هي ذاتها معرفة محضة، أو خاضعة لأطر وقوانين المعرفة العامة". ونسأل أنفسنا تجاه ما ورد من نصوص المؤلف، وبالأخصّ، النص الأخير منها المتعلّق بالذائقة التي يحتكم إليها في الاختيار الفني لقصيدة النثر، ما هي "جدليّة الحسّ/ المعرفة" مثلاً؟ وما هو "الحدس الموارب"؟ و"الهوس بالموحي من عمى العلامات"؟ وكيف تكون هذه الذائقة "الغائمة" والفاعلة في "الغياب"، في الوقت عينه "آلية استقصاء معرفية" و"موقفاً ثقافياً جدلياً بالضرورة"؟ فما هذا التناقض الصارخ في الجمع بين العماء وآلية الاستقصاء؟ وبين جدلية "الحس/ المعرفة" و"الحدس الموارب"؟ ... الأرجح ان ثمة ما يشبه خبط عشواء، في اختيار مفاهيم الكاتب، واختيار المفاتيح التعبيرية عنها... يلاحظ أيضاً حشد هائل لمعلومات وإشارات مرجعية في مسألة الشعر والحداثة بعامة، ومسألة قصيدة النثر بخاصة. ففي صفحتين من القطع الصغير، اخترناهما تلقائياً من الفصل الأول للكتاب وهو بعنوان "قهقهة على الأطلال" تراه يحشد المفاهيم والأسماء التالية: تمظهرات جمالية، غنائية، كلاسيكية، انتصابات الشعر!!، فينيلون، الحقيقة الانقلابية، الوزن، شيطان الشعر، وادي عبقر، غوته، شكسبير، هوغو، كوكتو، ستاندال، التلاسن الاستاطيقي، وثنية، جنس إبداعي، هلوسات، لا وعي، لا شكل، فرلين، أعجوبة النثر الشعري، بودلير... وذلك يعود، في أغلب الظن، الى خلل في تصميم الكتاب، وعدم الرجوع الى مراجع ذات قيمة في موضوعه وسائر المواضيع التي تناولها. فهو غالباً ما يسوق شواهد من مقابلات صحافية أجريت مع بعض الشعراء النقاد من أمثال الغذامي وبنيس وحاتم الصكر، في حين أن لهؤلاء كتباً بمتناول اليد، كما ان الكثير من اسناداته يعود الى المتداول الصحافي بين أدباء وكتاب وشعراء كانت لهم آراء ومداخلات عابرة في مسألة قصيدة النثر مثل سليم بركات وادوار الخرّاط ومحمد العلي ونبيل ياسين وشربل داغر والبازعي وتليمه، وسواهم، وهم يردون في ثبت المراجع يسميها هو، المصادر مقترنين بمقالاتهم في صحف متنوعة كالحياة والجزيرة والرياض وعكاظ والمشاهد السياسي... وقد لاحظت خلوّ مسرد مراجعه من مراجع فرنسية وانكليزية مكتوبة بلغتها الأم... وهو أمر من المستحسن أن يستند إليه قارئ قصيدة النثر والباحث فيها، سيما أنها ذات أصل غربي فرنسي تحديداً، ولا يكفي الاستناد الى ما ترجم للعربية من كتب مثل كتاب سوزان برنار في قصيدة النثر الذي يستند اليه المؤلف من خلال ترجمة محمد رضا المصري لبعض فصوله. وهو يستعيد الكثير من التلاسن الصحافي بين شعراء ونقّاد حول قصيدة النثر. ومن عجيب هذه الاستعادة غمزه من قناة محمود درويش، وتفضيل جورج جرداق عليه!! من خلال المقارنة التالية: "لنتأمّل مآلنا الشعري من أفواه الكبار... فمحمود درويش... يباهل النثريين بمنتهى الغياب واللاشعرية عن الوعي الابداعي... تعالوا نتبارز نصاً لنصٍ، ثم يعلن انه يخاف من ميليشياتها. أتراه مذعوراً من القادم؟ خصوصا أن "الفلسطنة" والقضية تحديداً كوقود لشعريته نفذ تقريباً؟ يقصد نَفَد بالدال وليس بالذال. ربما، فقبله جورج جرداق بقامته ومكانته الأدبية والفكرية تقوّل على النثريين، وعيَّرهم بالفيل الذي داس على شارب البرغوث، ربما لأنه لم يحس بالمرأة في ثنايا القصيدة النثرية أو رآها متخشبة، وهو الذي... ...". فهذا المسرد الصحافي السريع للتلاسن الشعري والنقدي وهو كثير في الكتاب يقلل من أهميته، ويجعله مسطحاً وغير قابل للنفاذ الى الجوهر. أما مرجعياته الأجنبية، فسريعة هي بدورها على العموم، ومعظمها مما تتناوله الصحف السيارة من آراء وأقوال. وحماسة محمد العبّاس لقصيدة النثر، لا تستقيم، على كل حال. فتارة تراه يجلّها لحد التقديس، وطوراً تراه ينتقد مجراها وأسماء كتابها بالعربية لحدّ الاعتقاد بأنه يلعنها ويخذلها. فأنت لا تعرف هل هو يمتدح الماغوط أم يذمّه؟، وإذا كان ينتقد أحمد عبدالمعطي حجازي "الذي كفّ عن الشعر وامتهن التصريحات التقويمية ليدخل الشعر في مناحة ويبشر بعصر انحطاط جديد عنوانه "قصيدة النثر"" على حد قوله، وعز الدين الناصرة الذي شخّص المولود الجديد القصيدة النثرية على أنها "خنثى" ولم نكن قد سمعنا من قبل أن أحداً أراد أن يذكرها أو يؤنثها..." الخ... ويشير الى اعتقاد كوين بنقص الدلالة الصوتية لهذه القصيدة، إلا أنه يعتبرها "نزوة فنية" ثم يعود فيعتبرها "فرصة الشعر العربي لقراءة جدلية أعمق لمعنى وكنه الشعر" و"صيغة امتحانية للذائقة"... فإنه يوجّه النقد لأنسي الحاج في مقدمة ديوانه "لن" فيرى في هذه المقدمة "جرأة السطو على منجز الآخر واعلان الولاء التام لقصيدة الملاعين والمرضى من عائلة رامبو بتعبير الحاج"، ونحن نعلم أن أنسي الحاج ذكر مرجعيته لدى سوزان برنار في مقدمته لديوان "لن" فكيف يكون ذلك سطواً؟ وهو ينتقد أصوات قصيدة النثر اللبنانيين من أمثال الحاج ويوسف الخال وشوقي أبي شقرا وتوفيق صايغ الذي يسمّي نتاجهم "نتاج الفورانات والاستعراضات الكرنفالية حيث كثافة الانتاج والتنظير والادعاء بكل الصيغ الشكلانية تقليداً لآباء معلومين وطيفيين سرعان ما تكشف الترجمات سر تواريهم التي أودت الى أدائية شعرية لا تنتج بحال إلا قصيدة ملساء مهجنة خجولة ليس فيها من حرقة التجربة وفطنة الذاكرة ما يكفي لشعر شجي اختراقي مؤجج وصادق...". وينتقل الى نقد مجلة "شعر" اللبنانية التي حضنت تجارب هؤلاء التي "لم تكن كخبرة جمالية ترى العالم إلا بعين واحدة ولا تسمح للفرد باكتساب خبرة معاشة، بقدر ما تلقنه ذهنياً وفقهياً، ومدرسياً بالفكر الميتافيزيقي..." ويوالي هجومه على قصيدة النثر العربية التي يعتبرها "عرضة لشبهة اللاإنتساب والاغتراب اللغوي خصوصاً والانفكاك المجاني من مركزوية هكذا الأداة الثقافية أو الشعرية الأم، واستعارة تجربة الآخر...". فإذا كان هذا حال قصيدة النثر العربية، من خلال أبرز رموزها واتجاهاتها، بحسب رأي الكاتب... فكيف بالإمكان اعتبارها وبحسب رأيه أيضاً، مخلّص الشعرية العربية الوحيد من "لاهوت وثابت ودوغمائية الموروث" "وصيغة امتحانية للذائقة"، و"نصاً قيامياً لاهباً" مستعيداً بذلك قهقهة مالارميه الشهيرة حين قال: "لقد جئتكم بنبأ مثير. فقد عبثوا بقوانين الشعر"، ومقترحاً "نثرية النص في مقابل نثرية الحياة"، ومعتبراً أنها اليوم "معيار لعافية الثقافة العربية" باعتبارها نتاج الجدل الاجتماعي والفني معاً، وأنها الإمكان الجمالي الأوفى لهذا الزمان؟