دائماً حين أُضطر الى ملء قسائم ادارية، لا أعرف الجواب عن السؤال المتعلق ب"هويتي الإثنية". وما لا بد من قوله ان الخيار الذي تحمله القسائم، على الأقل في البلدان الأنغلو ساكسونية، فعلاً محدود إن لم يكن ناقصاً. فأنا لست أوروبية، ولا أفريقية وهو ما أتمنى أن أكونه، ولا آسيوية حيث يُقصد بالتعبير الهند أو الصين. ولأني لا أندرج في أي من هذه الخانات، فإني غالباً ما أضيف بيدي خانة جديدة وأكتب بأحرف صغيرة: "متوسطية". وهذا، في أغلب الظن، ما يجعل قسيمتي لاغية، فالكومبيوتر لم يُعدّ لقراءتها. بالنسبة الى الذين قد يعترضون، فإن خياري يقع كلياً خارج السياسة. انه، عندي، طريقة أجد بها موقعاً لنفسي داخل هذه الخريطة الاثنية الضيقة ضيقاً مدهشاً. وبهذا المعنى، فكلمة "عربي"، أو "عربية"، لا تفي بالغرض لأنها تضم العديد من المجموعات الاثنية. لقد عرفت دوماً ان تبويب الهوية الذي اخترته لنفسي قد لا يكون مقبولاً. مع هذا، صرت مؤخراً على قناعة مطلقة باستخدام كلمة "متوسطية" كلما أتيح لي ذلك: في إحدى الأمسيات، قبل أيام في بيروت، وعلى شاطىء عين المريسة، كان المطعم يشرف على بحر أزرق معتم، وبدا الهواء منعشاً فيما كان الطقس لا يزال حاراً. لم يكن واحدنا بحاجة الى الكنزة رغم تقديم العشاء على الشرفة. صحيحٌ أن بعضهن رمين شالات على أكتافهن، على ما فعلت غالبية النساء. الا ان هذا بدا تنازلاً للموضة اكثر منه استجابةً لمطالب الطقس. فالشالات الملوّنة هي، هذا العام، دارجة كثيراً! الكثيرات من النساء المتألّقات بهجةً ولوناً كن يجلسن على طاولات متجاورة: نساءٌ وجوههن مألوفة جداً. وجوهٌ كثيراً ما رأيتها وجعلتني أحس أني في مكان حميم: في تركيا، في اليونان، في صقلية وعلى امتداد الطريق من اسبانيا الى جنوبفرنسا. النساء اللواتي لم يعدن في عشريناتهن، يخرجن مساء للتمتع مع أزواجهن قرب البحر. هؤلاء بعض "السهّيرة" هناك. يأتين لمشاركة أصدقاء وصديقات بعض أوقات سعيدة حول طاولة ملأى بالأطباق الملوّنة، وفي جو ترفع الأوركسترا درجة حيويته. النساء رتّبن تسريحات شعرهن بأكثر الطرق رهافة. هن لا تزال عليهن سمرة البحر في أواخر الخريف. عيونهن غامقات على نحو درامي، بما فعله الكحل والمسكره ذات الصناعة الفرنسية. المانيكور على أظافرهن لا يزال طرياً وهن يشعلن السيكارة. ثيابهن بالغة الزهو حتى لتكاد تطفىء أقرانهن الرجال، مع ان الاخيرين الجالسين حول الطاولات ليسوا اقل اعتناء بملابسهم او استعداداً للتسلية والمرح. معظم الرجال ذوو شعر أسود. قليلون منهم تصرّفوا، على نحو خفيّ، باللون الرمادي الذي يحوّل العمر الى أناقة محترمة. أكثرهم بدأوا يستسلمون لكرش صغير، إذ ليس من الصعب ان يستدير المرء في ظل طاولات كهذه حيث الاستعمال السخي لزيت الزيون على الحمص واللبنة، وخصوصاً صحون الزيتون الشهي السابح في زيته. الموسيقى ترتفع. الطبول تعلن عن "الهيصة" المقبلة. الهواء أعذب، والليل يطارد هدوء السهرة ويطرده. امرأة تطفىء سيكارتها وتحاول أن تدعو الآخرين الى حلبة الرقص. هم مترددون مستحون. هي لا. تنتقل الى وسط الحلبة وتباشر بمفردها حركاتها الفخورة. بعد ثوانٍ، نسوة أخريات ورجلان يتشجعون وينضمون اليها. كل النساء يعرفن الرقص. كلهن يرقصن جيداً. كذلك الرجال. الضحكات تملأ الوجوه كلها. المغني يرفع صوته والآلات الوترية ترفض أن تنحصر في الخلفية. شابة. شابة جداً وجميلة جداً ترقص وحدها، قريباً من حلبة الرقص. انها متنبّهة الى أن الأعين عليها والى استحسان الناظرين، فتمضي مُبالغةً في حركاتها. أنظرُ الى النساء. الى حلقتهن. الى أشكالهن الرحبة التي تلائم الرقص فيما لا يبدو ان أوراكهن الثقيلة تُبطىء حركاتهن. انهن يتمايلن ويستدرن كما لو كن في خفّة ريشة. الرجال سُعداء وهم يهزّون بطونهم المستديرة بوجوه فرِحة. رجل مُسنّ، نحيف ويلبس بذلة مُقلّمة، يتقدم باتجاه الحلبة. لا بد انه كان جميلاً جداً في شبابه، وهو لا يزال جميلاً. انه راقص ماهر، يهزّ كتفيه مع الطبلة وحين يتغير اللحن تروح رِجلاه تدبكان. أنظرُ اليه. أنظرُ الى انعكاسات أضواء بيروت وحياة ليلها على سطح الماء. وبصوت يعلو على صوت الموسيقى أقول لرجل يصفّق بحماسة، قبالتي على الطاولة: "ممتعٌ فعلاً... كم أشعر في هذه اللحظة بانتمائي المتوسطي!". يوقف التصفيق. ينظر اليّ ويقول: "تتحدثين مثل الأوروبيين. مفهوم المتوسطية أوروبي". "لا بأس. لا يهمّني ذلك. أفضّل أن أختار هويتي على أن أرثها". هذا ما سمعت نفسي أجيبه. أنظرُ الى المطعم وزبائنه. أراقبهم بالجمال الذي هم فيه. بالمتعة، رغم الأزمة الاقتصادية. رغم قضية بن لادن وذيولها. رغم مصاعب أخرى كثيرة. نعم، أنا سعيدة بأن أكون قد وُلدت على شواطىء المتوسط. أصير أبعد ما يمكن الابتعاد عن البيروقراطيين وقسائمهم البليدة.