قبل أن يجرفه الطوفان الى أعماق النهر، أوصى مصطفى سعيد، بطل رائعة الطيب صالح "موسم الهجرة الى الشمال"، في رسالته إلى الراوية، أن يجنّب ولديه "مشقة السفر" وكما نعلم، رفض الاخير هذه الوصية قائلاً "إن العالم في طفولة لا تنتهي". للأسف، انعكس مضمون هذه العبارة "التقدمي" إذ ان المرء لا يمكنه عبور النهر مرتين، على نحو سلبي ليغدو، منذ مطلع تسعينات القرن الماضي، وبلا وعي غالباً، نقطة بدء استراتيجيات عمل ثقافية، انطلق منها، خلال الفترة المذكورة، معظم دور النشر والمراكز السودانية "ذات الرسالة" زاعمة، عبر هذه الخطوة، أن حركة التنوير والحداثة السودانية، على الاقل في جزئها "التدويني" محايثة لها، وهي مصادرة تاريخية، كما هو واضح، على ما تقدم من مسار هذه الحركة، التي اخذت تتشكل، من خلال آليات عدة، منها "التوثيق والكتابة" في بدايات القرن نفسه. هذا الزعم الضمني والمعلن في آن، أثار حفيظة عدد من المثقفين، من أمثال الناقد والتشكيلي المقيم في فرنسا عبدالله بولا، الذي ادار سجالات مباشرة، وغير مباشرة، مع حيدر ابراهيم مدير مركز الدراسات السودانية، الذي تراجع، في اصداراته الاخيرة، ربما تحت تأثير النقد، عن الشعار المطروح لحظة التدشين "بالكتابة نهزم سلطة البياض وعقل المشافهة - والنقد ننقض بلادة المؤسس والمستقر" وهو شعار ينطوي، بصورة ضمنية، دعمها حيدر صراحة عبر منابر عدة، على نقد لاذع لدور المثقف السوداني "السلبي" في الماضي، قياساً، في الغالب، على كم المُنتح الثقافي "المدون" ما جعله يعتبر "المشافهة" قرينة ملازمة لهذا المثقف، كما ينطوي الشعار، من ناحية اخرى، على تناقض داخلي، يُحيل، في التحليل العام، إلى طابع حكم القيمة المميز له. ذلك ان الشق الاول من الشعار "التدوين" كضرورة منطقية لوجود الثاني "النقد" بدا مفتقراً الى "الجدل" وهو ما يوضحه الفعل "نهزم" الذي يستخدم عادة داخل حقل صراع ايديولوجيات "متناقضة". بينما يتطلب الامر، ها هنا، اي داخل حقل الثقافي، تحديد العلاقة مع تراث حركة التنوير والحداثة بعيداً من مفاهيم الاحتراب اللاعقلانية، ما يتطلب، أولاً، من طارحي الشعار، إعادة بنائه، بما يضمن القيام بعمليات توصيف دقيق لحجم أو أبعاد إشكالية "المشافهة" ومن ثم تقديم تحليلات تعمل على تفكيك ومعالجة اسبابها الاجتماعية والتاريخية، وصولاً الى ما يُبرر مشروعية زعم هذه الدور والمراكز "الطليعي". كل ذلك، دفع بولا، فيما بدا ملاحظة هامشية خلال محاضرة حملت عنوان "المثقف" أقامها المركز السوداني للثقافة والاعلام في القاهرة اخيراً، الى القول بضرورة تحديد المفاهيم كأساس للحوار، مشيراً بذلك الى ان تيار الهجوم ضد المثقف، الذي يمثله حيدر، على "غير إمساك دقيق بالمشكلة" إذ ينطلق في العادة، من مطابقة ما بين مفهومي المثقف ntellectualI والتكنوقراط Technocrat. وهكذا أعقب حيدر ابراهيم، في "الطريقة ذاتها" مراكز ودور نشر اخرى، عملت برصانة اقل، على ترديد مقولات المصادرة، وكما هو متوقع، لم تقدم، في مجمل جهدها، سوى تسجيلات وصفية، اعطت المشافهة طابعاً عقلانياً "زائفاً". إذ فات هذه المؤسسات، ربما لأن في الامر بداهة ما، أن الطريق الى "إنتاج الثقافة النقدية" أو الى فعل ما لم تفعله حركة التنوير والحداثة في السودان طوال تاريخها، يحتاج الى اكثر من عمليتي "التدوين" و"الكتابة" اللتين اشاعتهما منجزات الثورة العملية الثالثة اخيراً على نطاق واسع، وهذه بداهة اخرى. إن الحكم بصورة مطلقة، أو بالغة التعميم، على منجز الثقافة السودانية الحديثة، باعتباره فضاء واسعاً، تحتل فيه سلطة البياض، او عقل المشافهة، موقع "البنية الدالة" وذلك بمعزل عن عمليات التحليل اللازمة، وهي عمليات بحاجة الى جهود مؤسسات ثقافية متعددة ومتنوعة في آن، فضلاً عن المدى الزمني المتعين لانجاز مثل هذه العمليات المعقدة - من شأنه، والحال تلك، أن يُعطي الانطباع بتهافت النقد، بل وتحوله الى مجرد ايديولوجية اخرى، لا تُفضي، وهي تقارب معطيات الواقع، سوى الى المزيد من أحكام القيمة المجانية، ما يؤدي في نهاية المطاف، الى تفريغ مضامين التنوير والحداثة من داخلها. ويمكن القول، في المقابل، إن حركة التنوير والحداثة السودانية، لم تنحل، منذ النشأة، من معضلات بنيوية مزمنة، سواء تعلق الامر، ها هنا، بالتكوين المعرفي لغالبية المثقفين، أو بالسياسات الثقافية، أو بغياب الوسط الثقافي الفاعل، الا ان كل ذلك لا يقلل من ايجابيات هذه الحركة، أو يلغي التعامل بصورة موضوعية، مع ما أفرزته، من مضامين، واشكال نقدية، أو معرفية، أو جمالية، او فكرية، جديرة بالاعتبار، تشكل اساس استراتيجيات عمل ثقافي لاحقة، ولا ريب، إذ ليس ثمة اشياء بكر، او مجالات طازجة، تعطي مؤسسات راهنة حتى تدشين الوعي النقدي لمجتمع راكم من التجارب والخبرات بما جعله واقفاً على قدميه حتى الآن، ولكن تلك قصة اخرى. إذاً، العالم، على هذا النحو، اي بوصفه تجربة "جماعية" وليست "فردية" قد غادر مرحلة الطفولة منذ أمد بعيد؟! * كاتب سوداني.