كان على المفكّر السوري الكبير انطون المقدسي أن ينتظر الدولة الهولندية لتمنحه أرقى جوائزها العالمية وتُخرجه من عزلته التي بات يعيش فيها منذ أن فصل قبل فترة من وزارة الثقافة السورية. هذا المفكر الطليعي لا يحتاج أصلاً الى الجوائز ولا الى الأوسمة كي يستعيد حقوقه التي ضاعت في أروقة وزارة الثقافة طوال أكثر من ثلاثين عاماً. فهو لو شاء أن يسلك طريق "المجد الباطل" لاعتمد سياسة اخرى لا تتطلب منه أن يبذل ما بذل من تضحيات على غرار النساك والأولياء. أمضى انطوان المقدسي ردحاً من عمره في مديرية النشر يقرأ ويراجع ويختار ويصحح ويوجّه من أجل أن تترسخ في الدولة السورية حركة أدبية جديدة وتنهض حركة ترجمة تتيح للمثقفين والمواطنين والطلاب أن يقرأوا عيون الآداب العالمية منقولة الى العربية. وفتح أبواب النشر امام الأجيال الجديدة التي ستصنع هي المستقبل، مشجعاً المواهب الشابة وكاسراً هالة الثقافة الرسمية والرؤية الثقافية الجاهزة. وعوض أن ينصرف انطون المقدسي خلال تلك السنوات الى تصنيف مؤلفاته وتجهيز مخطوطاته الكثيرة راح يعمل على نتاج الآخرين ابداعاً وترجمة بألفة كبيرة وحماسة كما لو أنه يعمل على ابداعه الشخصي والخاص. ربما كان من حق وزارة الثقافة السورية في صيغتها الجديدة أن تتخلى عن جهود انطون المقدسي، لكنّ الطريقة التي تخلّت فيها عنه لا تليق بها كمؤسسة ثقافية ولا به كواحد من كبار المفكرين العرب، الطليعيين والعلمانيين. كانت بادرة أليمة جداً، بل شنيعة جداً، أن تعمد الوزارة الى تنحية هذا "الاستاذ" كما يُنحى عادة مرتكبو الهفوات و"العظائم"، عبر بلاغ رسمي وضع في صندوق بريده. ولم يكن عليه هو الموظف النبيل إلا أن ينهي عقد العمل مع الوزارة ويترك وراءه تاريخاً من الجهد والعطاء الأدبي والمراس الرصين... كانت التهمة الأولى - كما يشير الكاتب ميشيل كيلو في أحد مقالاته - كونه ينتمي الى الجماعة الشيوعية التي هيمنت سابقاً على الوزارة. وسرعان ما بدت التهمة هذه خاطئة وواهية وأدركت وزيرة الثقافة الجديدة ان انطون المقدسي كان على موقف نقدي من الماركسية وشارك "في تأسيس حركة الاشتراكيين العرب وكتب بخطّ يده دستورها والوثيقة التي وحّدتها مع "البعث" عام 1952". وعندما ارتفعت اصوات الاعتراض والادانة في المعترك الثقافي السوري حيال هذه البادرة السيئة كانت التهمة الثانية أشد ظلماً وبهتاناً و"فضائحية": انطون المقدسي طائفي لأنه نشر أعمال الكاتب الفرنسي "المسيحي" بلزاك كاملة، كما أشار أيضاً ميشيل كيلو. وقد فات الوزيرة أولاً أن بلزاك صاحب "الكوميديا البشرية" ليس من "الأدباء المسيحيين" حتى وإن كان فرنسياً، وثانياً أن انطون المقدسي مفكّر علماني وتقدمي وإن كان نصرانياً. وهذه التهمة الخاطئة تُستغرب حقاً في دولة مثل سورية، هي في طليعة الدول العربية القليلة التي استطاعت ان تكون علمانية بامتياز وأن ترتقي بالانتماء الفردي الى مرتبة الانتماء الجماعيّ من غير أن تلغي حقوق الطوائف والأقليات. وعوض أن تحتفل وزارة الثقافة بهذا المفكّر الثمانيني وأن تبادر الى جمع مؤلفاته ونشرها مكافأةً له على ما بذل طوال تلك السنوات، وخدمةً للقراء السوريين والعرب، جعلته يذهب الى البيت كأي أجير استغني عنه. ولعل تنحية انطون المقدسي تدل بوضوح على نزاهته كموظف رسمي حرص عبر وظيفته أن يكون ذلك المبدع الحقيقي والمثقف النبيل والقارئ النهم والكاتب المتجدد والباحث عن آفاق الحداثة في الأدب والفكر والفلسفة. كانت بادرة المؤسسة الهولندية في منح جائزتها الى انطون المقدسي جميلة جداً، إذ أعادت الى هذا المفكر نزراً ولو يسيراً من حقه الذي كادت تنكره عليه المؤسسة الرسمية في بلاده. لكن البادرة الجميلة لم تخلُ من قدْر من الألم الذي اعترى اصدقاءه، المثقفين السوريين، واعترانا نحن، قراءه العرب. ما أصعب أن تعترف المؤسسة الهولندية بريادة انطون المقدسي في حقل الفكر العربي والحوار الحضاري القائم على الحرية والديموقراطية فيما تمعن وزارة الثقافة السورية في إبعاده وتجاهله وطمس تضحياته وآثاره بل في اتهامه بما يستحيل أن يتهم به مفكّر عربي وعلماني، طليعي وتقدمي.