«مهمتنا التزام الحياد، ونقل أجواء الساحة السياسية من دون تجميل يُحَسِّن أو يُقَبِّح صورة الأحزاب. ليس مسموحاً لنا أن نهتم بشخص على حساب آخر، أو بتيار على حساب تيار. لا نريد أن يفوز هذا الائتلاف على ذاك، وليس في مصلحتنا أن يتفوق هذا الحزب على آخر. ومن منا لديه انتماءات سياسية أو ميول حزبية يخلعها قبل دخوله مكتبه والجلوس أمام الكاميرا أو الوقوف خلفها». بهذه الكلمات يتحدث مدير البرامج في هيئة الإذاعة والتلفزيون الدنماركية «دي آر» - أشبه ب «بي بي سي» - ياكوب كوون هنريكسون عن التغطية التلفزيونية إبان حملة الانتخابات البرلمانية في الدنمارك – والتي عقدت قبل أيام – باعتبارها مهمة عمل إعلامية بحتة خالية من الترويج لهذا الحزب أو تكييل الاتهامات لهذا المرشح. فمسألة ارتباط حزب ما أو تيار سياسي معين بقيادات هذه القناة أو تلك، ومن ثم محاباته على حساب آخر أمر غير وارد أصلاً، أو على الأقل لا يمكن كشفه بالعين المجردة. وتماماً كما تشمِّر القنوات التلفزيونية العربية عن سواعدها استعداداً للاحتفال بمناسبة وطنية أو عيد ديني أو حملة قومية، فإن «دي آر» تنتظر مثل هذه الأجواء الانتخابية لتشمِّر سواعدها عن كم من الأفكار الجديدة والمواد الإعلامية المبتكرة لتقديمها للناخب الدنماركي في قوالب غير تقليدية وبعيدة من الوعظ والإرشاد، أو التهليل والتبجيل، أو حتى الفضح والتنكيل، باستثناء الحالات التي توافرت فيها معلومات مؤكدة تفيد ذلك. ويعترف هنريكسون بصعوبة التزام الحياد الكامل وعدم الوقوع في فخ الانحياز، خصوصاً أنه أثناء الحملة الانتخابية كثيراً ما تتلقى قنوات «دي آر» شكاوى من ساسة ومرشحين يحتجون على تجاهلهم أو عدم إعطائهم مساحة كافية للحديث عن برامجهم الانتخابية أو ما شابه. نهائي دوري التلفزيون التغطية الإعلامية للانتخابات هذه المرة اعتمدت على ملازمة زعماء الأحزاب التسعة في البرلمان على مدار ال24 ساعة. وتعتمد الفكرة على وجود مراسل للقناة طيلة الوقت – باستثناء ساعات النوم – مع السياسي، وبهذه الطريقة يكون في إمكان القناة الحصول على تعليق أو تصريح وقتما لزم الأمر. «بعضهم شعر بتوتر نتيجة هذه الملازمة، وآخرون كانوا يشعرون بالتعب والإرهاق، لكنها ملازمة موقتة تنتهي مع حلول يوم الانتخاب. ليس هذا فقط، بل يُتابع الزعيم السياسي عبر جهاز «جي بي إس» ليتعرف المواطن العادي الى خط سيره طيلة الوقت». ويطلق الدنماركيون على يوم الانتخابات «نهائي دوري التلفزيون»، بخاصة أن النتائج الأولية تُعلن مساء اليوم نفسه. وتكلل هذه التغطية الانتخابية الساخنة في الليلة ذاتها بمناظرة حية تجمع زعماء الأحزاب المتنافسين الفائزين والخاسرين. وهو نظام متعارف عليه، ينتظره المشاهد الدنماركي بفارغ الصبر في كل موسم انتخابي. وإذا كانت هذه المناظرة التي تعكس مقداراً كبيراً من الجذور الديموقراطية معروفة مسبقاً، إلا أن جعبة البرامج التي تخرج عبر الشاشة تحمل مقداراً كبيراً من الإبداع والابتكار لجذب المشاهد الناخب. فبدلاً من البرامج المملة التي يعرفها الناخب العربي جيداً، في حال كان يُسمح أصلاً ببرامج تعرض برامج الأحزاب والمرشحين، وفي حال وجود أحزاب ومرشحين، خرجت هيئة الإذاعة والتلفزيون الدنماركي هذا العام بمجموعة أفكار مبتكرة. فمثلاً برنامج «قابل الأحزاب» اعتمد على إعطاء كل زعيم حزب من الأحزاب التسعة مدة 30 دقيقة للرد على أسئلة المذيع المعروف بحدَّته وأسئلته الناقدة للجميع. أما برنامج «مزدوج» فيعتمد على حوار ثنائي بين رئيس الوزراء وزعيم حزب آخر يحاوره ويجادله في سياسات الحكومة ومدى تحقيق البرنامج الحزبي الذي وعد به حزبه الحاكم. نموذج ثالث هو برنامج «مناظرة المرشحين» ويستضيف المرشحين البارزين في كل حزب في استوديو يضم نحو 1500 شخص يحاورون المرشح حول برنامجه وحزبه. بين العام والخاص ويوضح مدير التحرير التنفيذي للبرامج في «دي آر» رالف أندرسون أن «أبرز العوامل المساعدة لتقديم مادة إعلامية تتمتع بالحياد هو أننا غير مملوكين لقطاع خاص أو للدولة، ومن ثم لا يشعر أي منا بالحاجة إلى منافقة هذا أو معاداة ذاك. كما أنه لا يسمح لأي من العاملين في «دي آر» القيام بأي عمل حزبي، وذلك منعاً لأي احتمال بمحاباة حزب أو مرشح ما حتى من دون قصد». ويبدو أن الأجواء الديموقراطية تنعكس كذلك على العمل الإعلامي في شكل كبير. فما بُث عبر الشاشات خلال الانتخابات قبل الأخيرة في عام 2007 يبدو بالنسبة إلى العاملين في المجال التلفزيوني كأن عمره أربعين عاماً وليس أربعة أعوام. يقول أندرسون أن الطريقة التي ينظر بها المشاهد إلى الإعلام تتغير في شكل كبير في فترة قصيرة، خصوصاً الإعلام المرئي. «الناس تريد أن تعرف ما يحدث الآن، وليس ما حدث قبل دقيقة. وقد نجح «تويتر» مثلاً في ذلك، لذا كان علينا تغيير منهجنا التلفزيوني تماماً في التغطية الانتخابية». ويضيف: «لو أصررنا على الاستمرار في تقديم الشكل التقليدي من البرامج في هذه الفترة لكُنَّا فقدنا القطاع الأعظم من مشاهدينا. الحوارات والتحليلات التقليدية والمعروفة مسبقاً لم يعد لها مجال أو نصيب من المشاهدة». المثير هو أنه لا يسمح لأي من الأحزاب السياسية، سواء الحاكمة أو المعارضة، ببث إعلانات مدفوعة الأجر عبر قنوات التلفزيون، ضماناً لمبدأ العدالة في توزيع الوقت التلفزيوني المتاح للجميع.