بعد 100 يوم من اختتام دورة ألعاب البحر الابيض المتوسط التي احتضنتها تونس في الفترة من 2 أيلولسبتمبر الماضي الى 15 منه ، غابت تلك الأجواء الاحتفالية والمدرجات المحتشدة بالجماهير وأنغام السلام الوطني الذي يعزف على شرف الأبطال، وبقيت ذكريات خالدة وبنية تحتية حديثة وغصّة في القلوب. لقد أحدثت الدورة تغييراً جذرياً في حياة التوانسة، فنسقت حياتهم التي كانت تتوزع بين المكاتب وعربات المترو الأخضر وطاولات المقاهي في المساء، وأوجد وسيلة ترفيه جديدة تمثلت في السهر حتى ساعات الصباح الاولى في الشارع الرئيس للعاصمة تونس، الحبيب بورقيبة، الذي خضع لعملية تأهيل بلغت تكلفتها 17 مليون دولار، والمضاء بمصابيحه التي ناهز عددها ال9 آلاف، ونافورته العملاقة التي تتداخل فيها حركة المياه بأصوات الموسيقى وأضواء الليزر، وارتياد المقاهي الجديدة على جادة الشارع والاستمتاع بالأجواء الاحتفالية التي تترافق مع انغام الموسيقى الشعبية، وخيمات الإنترنت المجانية. ويمكن القول إن تونس التحقت بمدن العالم الكبرى من القاهرة الى بيروت وباريس، حيث الحركة التجارية لا تهدأ والمقاهي مفتوحة، ما شكل ظاهرة ثورية لم يعرفها التوانسة منذ اكثر من 100 عام، تاريخ بناء هذا الشارع. ويلفت انتباه المارة أثناءالتجوال في أسواق المدينة في أمسيات رمضان، الكم الهائل من "الولاعات" التذكارية للألعاب المتوسطية، وكذلك مجسمات تعويذة المتوسط التي تباع على قارعات الطرق بأثمان تتراوح بين 5 دنانير و9، إضافة الى المنتجات والهدايا التذكارية المتوسطية كلها، وتتساءل: كيف انتقلت هذه الهدايا الى السوق التجارية ومن يستفيد من عائداتها؟ من جهة أخرى، غادرت اللجان المنظمة مقر الدورة الضخم والجميل، والذي تسلمته الاتحادات المحلية، ما عنى انتهاء معاناتها الطويلة بسبب ضيق مساحة مقراتها السابقة، وتوفير الامكانات المناسبة لها لتعزيز اضطلاعها بدورها في الارتقاء بمستوى الرياضة التونسية قارياً وعربياً. وعلى مسافة10 كلم من العاصمة التونسية ومن مدينة رادس الواقعة في الضاحية الجنوبية، والتي احتضنت الجزء الأكبر من المسابقات، وشكلت مقر إقامة الضيوف، تشوب الاجواء مسحة من الحزن وغصّة في قلوب المالكين الجدد لشقق القرية المتوسطية، الذين لا تزال فرحتهم معلقة بتسلم مفاتيح هذه الشقق ال1007، والتي بلغت تكلفتها 50 مليون دولار، والحصول على أثاث كامل هدية بسبب خلاف على ثمن الارض، علماً ان الموعد السابق المقرر لتسلمها كان في 16 ايلول الماضي، اي بعد 24 ساعة. ويبقى السؤال الاهم الذي يؤرق التوانسة حول معطيات الافادة من الملعب الأولمبي "7 نوفمبر" في رادس، والذي بلغت تكلفته نحو 135 مليون دولار، بعدما لم يشهد الا ثلاثة نشاطات منذ انتهاء الأشغال فيه في نيسان ابريل 2001، وهي: نهائي كأس رئيس الجمهورية في 6 حزيران يونيو، وحفلا افتتاح الألعاب المتوسطية يوم 2 أيلول واختتامها يوم 15 الماضي. فهل بني هذا الملعب للعصافير كما يقول بعضهم أو لمشاهدته على شاشات التلفزيون. ولماذا لم يحتضن نهائي كأس الكؤوس الافريقية بين النادي الافريقي وكور شيفرز الجنوب لأفريقي، أو نصف نهائي كأس رابطة الأبطال بين الترجي التونسي والأهلي المصري، أو مباريات أندية العاصمة التونسية. وهل سينتظر التوانسة استحقاق استضافة نهائيات كأس الامم الافريقية عام 2004 للعودة اليه. وأشارأحد مهندسي الشركة المسؤولة عن صيانة عشب الملعب ل "الحياة" أن أحد أهم أسباب غلق الملعب في وجه المباريات هو الضرر الكبير الذي لحق بالعشب من جراء عمليات تحضير حفلة الافتتاح، والتي دامت أسبوعين بمعدل 12 ساعة في اليوم، علماً أن الاضرار كانت ستكون أكبر في حال عدم الغاء حفلة الاختتام تضامناً مع الشعب الأميركي اثر حوادث الاعتداءات الارهابية في 11 ايلول الماضي. وكشف هذا المهندس احتمال عودة الملعب الى احتضان النشاطات في نهاية شهر كانون الثاني يناير 2002، مع تخصيص مصاريف إضافية له لم تكن في الحسبان. من جهة أخرى، بدا أن الهبة الرئاسية التي قدمها الرئيس زين العابدين بن علي بعد أيام قليلة من نهاية الألعاب الى الأبطال التونسيين المتوجين، وفي مقدمهم أصحاب الميداليات الذهبية الذين حصلوا على مبلغ 100 ألف دولار كانت وحدها على الموعد. وظهر يوسف السباعي، الذي كان أول المتوجين في مسابقة رفع الأثقال، اكثر اتزاناً وهدوءاً، بعدما تمكن من تعويض غياب والده الذي قتل على يد بعض المجرمين الأشرار وهو يحرس سوق سيدي البحري ليلاً، وهو كفف الدموع من مقلتي اخوته الأيتام، واشترى لهم منزلاً جديداً وجهزه باثاث كامل وعلق صورة والده في وسط غرفة الاستقبال ووضع الى جانبها ميداليته الذهبية وعنوان الانتقال من الفقر الى غنى المتوسط. وشرعت هالة بودي بطلة المتوسط في الكاراتيه في تعلم قيادة السيارة وتحلم بافتتاح مطعم للبيتزا بعدما اشترت منزلاً جديداً لعائلتها، في حين جمد حاتم غولة بطل سباق نصف الماراثون مبلغ ال100 ألف دولار في احد المصارف في انتظار الاستقرار على مشروع مميز. أما أنيس الونيفي، الذي أصبح بطلاً قومياً جديداً بعد العدّاء محمد القمودي، فقد كان نصيبه من العطف الرئاسي مضاعفاً، اذ حصل على 60 ألف دولار أو وزنه ذهباً بعد احرازه لقب بطولة العالم في ميونيخ، و100 ألف دولار جراء فوزه بذهبية دورة المتوسط. بدأت رحلته في عالم الاثرياء بشراء سيارة ذات دفع رباع وخطبة فتاة من الوسط الرياضي.