في كتاب "النهايات" صدرت نسخته العربية عن "دار قُدمس للنشر والتوزيع" في سورية بترجمة أنجزها ميشيل كيلو وراجعها زياد منى يعالج الباحث الألماني ديتر تسمرلينغ الهوس القياميّ الألفيّ محيلاً إياه على جملة من "أسباب وجيهة"، كل سبب منها قمين بقراءة خاصة معمقة تضبط ايقاعها على وقائع التاريخ وصيرورة التفكير العلمي لدى البشر. ومع ان النسخة العربية من هذا الكتاب صدرت قبل احداث 11 ايلول سبتبمر 2001 بسنتين او أكثر، فإن "الوهج" الذي أعادته تلك الأحداث، بكيفية ما، الى الأدب القياميّ الأبوكاليبتي في النص المكتوب، وأكثر فأكثر في الفنون المشهدية، ليس مفتقداً داخل سطورها وبينها، وتحديداً من حيث الإشارة الى انطواء ذلك الأدب، عادة، على نزعة رؤيوية، تقول بالفناء او بانتقال الزمن من طور أسود الى طور أشد قتامة. ولدى محاولة تقريب المسألة منا، بمنأى من حوادث ذلك اليوم الأسود في الحادي عشر من ايلول، لكن غير بعيد عن خلفياتها، نرى الى أن الأدب الإسرائيلي المكتوب بالعبرية اخذ ينحو منحى الرؤيا القيامية، بصورة واضحة، منذ بداية الثمانينات. ويمكن، في هذا الصدد، اعتبار رواية "الطريق الى عين حارود" التي كتبها عاموس كينان من النماذج الأولى التي في مقدورنا تأطيرها في خانة هذا "الفن" من الأدب، بل وشكلت إرهاصاً به وكنت قد ترجمت هذه الرواية الى العربية وصدرت في السنة نفسها في مجلة "الكرمل" الفصلية الثقافية الفلسطينية، وعادت وصدرت في كتاب عن دار الكلمة للنشر في بيروت، في 1987. تحكي الرواية قصة إسرائيلي، يفترض انه الكاتب ذاته، ومحاولته العسيرة المشبعة بالعثرات والمغامرات للهروب من تل ابيب والوصول الى عين حارود، وهي البقعة الوحيدة الباقية المحررة من حكم الجنرالات الذين يرتكبون موبقات مماثلة لما يرتكبه جنرالات "العالم الثالث" من تعطيل للبرلمان، وإغلاق للصحف، وعزل لإسرائيل عن العالم الخارجي، ناهيك عن رفض نظام حظر التجول. ويدرك هذا الإسرائيلي الساعي الى "نقطة الضوء" الأخيرة، في وعيه، انه لا يستطيع بلوغ عين حارود إلا بمساعدة الفلسطيني محمود "يتعين عليّ ان اجد عربياً... كل خطتي للهرب مبنية على العرب"، لكونه يعرف مسالك الطريق. في السياق اللاحق للرواية يعثر الكاتب على "محموده". وتجري بين الاثنين مواقف، وتدور حوارات مختلفة ليست خالية، بدورها، "من الأخطاء العظيمة". بيد انها لا تحجب حقيقة كون الإدراك السالف هو بمثابة "وعي مبكر" لدى عاموس كينان تحديداً بأن بلوغ عين حارود، وهي كما ذكرنا البقعة النظيفة الباقية، المحررة الإنسانية وغير العنصرية، وبكلمات اخرى بلوغ الحل الديموقراطي والإنساني الشامل، لن يتم إلا بمساهمة العرب الفلسطينيين كشركاء على قدم المساواة. لقد اعتبرت هذه الرواية في حينه ضرباً من الخيال او الكابوس الذي ينوء الكاتب تحته لأسبابه المخصوصة. وذهبت بعض المقتربات السياسية للرواية الى أبعد من ذلك، الى حد القول، بإطلاقية، إن إمكان حدوث وقائع الرواية في الواقع مستحيل، لأن إسرائيل دولة ديموقراطية مكينة تمتلك من الضوابط ما يكفي لكي تسد الطريق على وصول العسكر الى سدة الحكم، كما يحدث في الدول النامية العالمثالثية. لكن ما الذي يمكننا قوله الآن عن هذه الرواية؟ إذا شئنا اختصار المواصفات نستطيع القول إن رواية "الطريق الى عين حارود" كانت بمنزلة "نبوءة" عاموس كينان، في 1984، عن إسرائيل في 2001 التي اصبح فيها آريئيل شارون الجنراليسمو رئيساً للحكومة. وليس هذا فحسب، وإنما اصبحت اجراءاته غير الديموقراطية مسوّرة ايضاً ب"جدار واق" من شبه "إجماع قوميّ" أصمّ يشكو من ندرة اصحاب المواقف الليبرالية، أو يشكو من ندرة تأثير اصحاب هذه المواقف الليبرالية على المناخ السياسي الرائج وما يستجرّه من موبقات كما في مسألة نزع الحصانة البرلمانية عن النائب عزمي بشارة تمهيداً لمحاكمته ب"تهمة" التعبير عن رأيه، على سبيل المثال. بعد رواية كينان صدرت اعمال إسرائيلية باللغة العبرية تندرج في إطار الأدب "الأبوكاليبتي". ومن أبرز هذه الأعمال رواية "فندق يرمياهو" لبنيامين تموز، ورواية "الملائكة قادمون" ليتسحاق بن نير. وربما يكون ضرباً من المبالغة والمجازفة النظر الى هذه الأعمال باعتبارها ظاهرة في الأدب الإسرائيلي الحديث. لكن تلك النماذج القليلة من الأدب العبري القياميّ تلتقي عند مفترق واحد يتمثل في كونها تشكل تأويلات للوجود. وينسجم مع هذا، ولعله الأمر الأهم، ان هذه الأعمال تشكل الدلالة المضادة، يمكن القول المستحقة للنماذج اليوتوبية في هذا الأدب، هو كان حافلاً بها منذ نشوء الحركة الصهيونية ومشروعها الاستعماري في فلسطين. وجاءت بعض كتب ثيودور هرتسل "الطنويلاند" و"دولة اليهود" مثلاً اشبه بإنباءٍ مدوٍّ بما تلاها. ومسألة كونها مستحقة تكمن مشروعيتها فحسب في ما بدأ التعبير عنه بعض الكتاب والمثقفين الإسرائيليين بعد الحرب على لبنان، وكانت إسرائيل البادئة بشنّها في حزيران يونيو 1982، من تشكيك بالممارسة والمسلمات الصهيونية. ويسعف ما كتبه اهرون بخار، مثلاً، ضمن احدى حلقات زاويته الأسبوعية "بروفيل" ملامح شخصية، التي ظل ينشرها في "يديعوت احرونوت" حتى وفاته في اواسط الثمانينات، في توضيح ابعاد ما نقصده. حملت هذه الحلقة ظهرت في 10/12/1982 عنوان: "صهيونية ليست بين مزدوجين"، وحاول بخار من خلالها ان يستنطق مجايليه ممن شنفت آذانهم بسماع فكرة "الوطن القومي اليهودي"، فسبقت عواطفهم عقولهم إليه، في لهجة هي مزيج من العتاب ومحاسبة الذات وإسقاط هموم الحاضر على الماضي. ويستطيع القارئ ان يشعر بأزمة هذا الكاتب من بين ركام الهواجس التي طرحها تحت تأثير الحرب السالفة وعلى هامش وقائع "المؤتمر الصهيوني الثلاثين" الذي عقد في القدس في ذلك الوقت. ومهما تكن هذه الهواجس فإن الخلاصة التي يتوصل إليها تحمل الاستنتاج التالي: "إذا كانت الصهيونية تعني ضم المناطق المحتلة منذ 1967، والاستيطان فيها، وتكريس الكراهية الأبدية بين إسرائيل والعالم العربي، فأعتقد انه يتعين عليّ ان أتخلى عن هذه الحركة... لقد جئنا الى البلاد لكي نبنيها ونبني أنفسنا، وليس لتشريد شعب آخر والعيش على خرائبه القومية. وأسسنا القوة الدفاعية العبرية حتى لا نعيش على أسنّة الحراب... عندما أتفحّص واقع حياتنا أجدني متسائلاً، بالأساس بيني وبين نفسي، هل ما زلت صهيونياً؟ وماذا تعني الصهيونية، وما هي ماهيتها في الربع الأخير من القرن العشرين؟". ازمة بخار تحيل، في الوقت ذاته، على خفة التفكير لدى أمثاله ممن يفترض فيهم ان يكون تفكيرهم اكثر عمقاً، خصوصاً أنه اكتفى من الاستنتاج الأخير بمجرد التساؤلات السالفة، التي أوردناها كما هي، بعد ان وضع يده في سياق مقالته على حقائق توضح انه ما كان من الممكن ان تعني الصهيونية، في واقع الأمر، سوى "ضمّ المناطق والاستيطان فيها" و"تكريس الكراهية للانسان العربي لمجرّد كونه كذلك". وتوضح كذلك ان الصهيونية قد خططت ونفذت عمليات تشريد الشعب الآخر لبناء "الوطن القومي العبري" على انقاض خرائبه القومية. على أن أهمَّ جذر للاخفاق، الذي يهجس في صدر بخار، يكمن في جملة التناقضات بين مزاعم الصهيونية التضليلية والمعطيات الأكيدة على أرض الواقع. أول هذه المزاعم التضليلية ان فلسطين خالية من السكان، عاجّة بالقفار والمستنقعات، وأن هجرة اليهود اليها لن تكون سوى "هجرة شعب بلا أرض الى أرض بلا شعب"، بحسب ما زعم هرتسل. وبخار نفسه يقرّ بذلك. فيكتب قائلاً: "مثل كثيرين آخرين وصلوا الى البلاد من دون أن يعرفوا عنها كثيراً كان غريباً عليَّ أن أواجه عرباً هنا. لم أفهم عما كانوا يبحثون. لقد غسلوا مخّنا، طوال سنوات بالادعاء الأحمق ان هذه البلاد انتظرتنا بقفارها مدة ألفي سنة، وانها كانت خالية ومهجورة. وأصابت الدهشة الكثيرين منّا بعد أن وجدنا فيها الشعب الشقيق. ولم يتعودوا عليه حتى يومنا هذا تقريباً. لكنهم هنا. وهم مغروسون جيداً في أرضهم وموثقون بها بتلك السلاسل التي تربط الانسان بأرضه ووطنه. واذا لم تعرف الصهيونية كيف تتأقلم مع حقيقة وجودهم هنا فإنها تضع كل مشروع الانبعاث اليهودي في أرض اسرائيل في خطر مستمر". والزعم التضليلي الثاني هو ما بشَّر به هرتسل في روايته "الطنويلاند" حين ذكر "إننا نرى هنا يقصد في فلسطين صورة جديدة لحياة مجتمع جديد منظم لإسعاد الناس أكثر مما كانوا عليه في السابق". فأين من هذه "البشرى" حقيقة الواقع الكابوسي في هذا "المجتمع الجديد"؟ نجد الاجابة لدى بخار على الوجه الآتي: "أراد آباء الصهيونية أن يمنحوا الشعب اليهودي الأمن المطلق، لكن ها هي ذي البلاد، حيث تحقق الحلم الصهيوني واستحال الى واقع سياسي ملموس، المكان الأقل أماناً لليهود. ففي أي مكان في العالم، بما في ذلك الأقطار ذات الأنظمة الثيوقراطية المتطرفة، لم يسفك في العقود الثلاثة الأخيرة دم يهودي بالمقدار الذي سفك فيه في أرض اسرائيل؟". على النسق نفسه الذي سار بخار على منواله، فإن العودة الى اليوتوبيات الصهيونية الأولى تتيح للقارئ الموضوعي ملامسة الجذور الحقيقية للأدب القيامي دونما حاجة حتى الى عناء التنقيب. وإن واحداً من هذه الجذور يبقى شديد الأهمية - ذلك الجذر الذي يحيل على أن "التفكير بفلسطين" كعنوان مشتهى لإنشاء "الوطن القومي" لليهود لم ينصب، ضمن الأشياء التي انصب فيها، على النتيجة شبه الحتمية التي تعادلها في اللغة العبرية عبارة ترجمتها الحرفية: "العنوان على الجدار" لتحقيق تلك الغاية، وهي سلب البلاد من أهلها الأصليين. عند هذا الحد يجدر استعادة ما قاله أكثر من باحث في تاريخ الصهيونية من منظور اجتماعي - ثقافي حول انعدام بديل راديكالي أو ثوري لما تم طرحه من غايات قصوى لعملية استعمار فلسطين. وبما اننا نتناول الأدب اليوتوبي فإن ما ينبغي الالتفات اليه، اكثر من غيره، ان المناظرة حول السمات الاساسية لليوتوبيا الصهيونية جرت منذ البداية بين فريقين غير متكافئين: - الفريق الأول ضم أولئك الذين شرعوا، على هدي من أفكار هرتسل حول عملية الاستعمار في فلسطين واعتماداً على الامبراطورية القائمة وقتئذ وصلاتهم بها، في تحقيق اهدافهم في أقصر فترة ممكنة. وعلى رغم وجود اختلافات لا يمكن إنكار أهميتها بين الصهيونية اليمينية واليسارية حول الأولويات والوسائل، إلا أنهما شكلا جزءاً من هذا الفريق الأول وكانا على اتفاق حول العقائد الأساسية للصهيونية السياسية. - الفريق الثاني ضمَّ طاقماً متنافراً من الليبراليين والاشتراكيين والشيوعيين، الذين وجدوا طريقهم الى فلسطين بسبب العداء للسامية في أوروبا وليس بسبب العاطفة الصهيونية المشبوبة. ويؤكد حاييم بريشيت راجع دراسته حول "صورة الذات والآخر في الصهيونية - فلسطين واسرائيل في الأدب العبري الحديث"، التي ظهرت ترجمتها العربية في كتاب "هوية الآخر"، من إعداد اسرائيل في الأدب العبري الحديث"، التي ظهرت ترجمتها العربية في كتاب "هوية الآخر"، من إعداد الكاتب الفلسطيني حسن خضر - 1995 ان الصراع بين الفريقين المذكورين لم يكن صراعاً حول الاتجاه بين السائد والبديل، إذ كان على البديل ان يوجد، بالضرورة، خارج الصهيونية، وألا يقدّم معارضة لها فحسب بل برنامجاً بديلاً. لكن ذلك البديل لم يوجد داخل الطائفة اليهودية في فلسطين، أو لم يوجد على الأقل كجماعة تحظى بأدنى نفوذ سياسي وثقافي حقيقيين،. ولذلك جرت المناظرة بين أشكال عدوانية صهيونية مهيمنة، وبين فريق من النقاد الذين كانوا اصلاحيين ولم يكونوا راديكاليين، بدلاً من الابتعاد بأنفسهم عن الاتجاه الصهيوني ومحاربته على طول الخط. وقد نطلق على نقد من هذا النوع تسمية النقد التجميلي، لأن خلافاته دارت على الطرق والوسائل وليس على الغايات. وثمة عرض واضح وصريح جداً للعلاقة غير المتضادة بين الاتجاه المهيمن ونقاده في كتاب عاموس عوز "في ضوء السماء الساطعة الزرقة" 1977، الذي راح في احد مقالاته يشرح كيفية قيام شراكة من نوع ما بينه وبين دعاة "أرض اسرائيل الكبرى"، وخصوصاً "في العداء لأولئك الذين يترقبون الجهة التي ستهب نحوها الريح". ويرى بريشيت ان فعلة عوز هذه تعبر عن وضع فريد حقاً لكل شخص يريد الايهام بأنه حركي على جبهة اليسار. زد على ذلك انه بالنسبة الى عوز وآخرين مثله في الجماعات اليسارية الصهيونية في حزب "العمل" وفي حركة "السلام الآن" تبدو المشاعر التي تربطهم باليمين اليهودي المتطرف أقوى من أية ممول ايجابية لديهم تجاه الفلسطينيين. وهذا الاحساس بالانتماء ليس الى اليسار بل الى تقاليد خلقتها قوى رجعية ويسيطر عليها الآن اليمين المتطرف، قد يفسر صور فلسطين والفلسطينيين التي ينشئونها. وهذه العنصرية الكامنة هي التي تفسر لماذا لا يستطيع كفاح الاصلاحيين التجميليين، على رغم انه الأكثر مدعاة للتعاطف والقبول في منظومة قمعية، تقديم أي خيار حقيقي أو مقاومة ثابتة للفكر المهيمن. مثل هذه السيرورة ليست مستمرة الى يومنا هذا فحسب، بل انها ايضاً تراكم المزيد من "نقاط القوة" منذ عام ونيّف، حيث يمكن ترجمة المعادلات السالفة الى "حقائق سياسة كاملة". ولعل هذا ما يفسر ان القلق المنثور بتورية ما في نماذج الأدب "الأبوكاليبتي" الاسرائيلي، بسبب فقدان "اليوتوبيا الصهيونية"، لم يتجاوز سقف افتراض "وجود حلم صاف وبريء أصبح بطريقة ما ملطخاً". ولذا لا يتم، عادة، إلقاء اللوم على ذلك الحلم وإنما على طريقة تحقيقه "التي لم تكن في مستوى الجنة الموعودة". بينما الحقيقة البسيطة تقول ان ذلك الحلم ولد ملطخاً لأن فيه صدعاً مميتاً في صميم تكوينه يقوم على إنكار الآخر. * مسؤول القسم الأدبي في صحيفة "فصل المقال"، بالناصرة.