من بين المهمات التي يحملها الأدب على عاتقه أن يتصور المستقبل. لكن هذا التصور يتصل بالمعرفة التي يحصلها الكاتب من مراقبة ما يحدث حوله وما تؤول إليه الأمور في مجتمع من المجتمعات. هذا ما يفعله الكاتب الإسرائيلي عاموس كينيان (1927- 2009)، اليساري المنشق الذي كان عضواً في شبابه في الجماعة الكنعانية، التي دعت إلى عدم الدخول في صراع مع الفلسطينيين، كما كان شريكاً للكاتب الإسرائيلي المنشق الآخر أوري أفنيري في جماعة دعت في وقت مبكر (1957) إلى قيام دولة فلسطينية تقيم مع إسرائيل علاقة فيديرالية. لكن مسيرة كينان المتعرجة وحياته العملية والأدبية والفنية المضطربة، إذ كان رساماً ونحاتاً وممثلاً وكاتباً مسرحياً وكاتب مقالة ساخرة وروائياً، جعلته ينتقل من معسكر اليمين إلى اليسار، إلى اليسار الفوضوي، فاليمين وصولاً إلى تأليف حزب مع أرييل شارون. وقد اعترف أنه شارك في مذبحة دير ياسين لكنه يقول إنه لم يعرف ما حدث بالضبط وإن المذبحة لم يكن مخططاً لها! ومع ذلك جعلته هذه التجربة الحياتية الغريبة، التي دفعته إلى ترك إسرائيل في نهاية خمسينات القرن الماضي ليعيش في باريس بعد أن برأته المحكمة من محاولة قتل وزير ينتمي إلى اليمين الإسرائيلي، إلى كتابة أعمال مسرحية وروائية تحاول التنبؤ بمستقبل الدولة الإسرائيلية. في روايته «الطرق إلى عين حارود» (1984)، التي ترجمها عن العبرية الكاتب الفلسطيني أنطون شلحت وقدم لها الشاعر سميح القاسم، يصور كينان رحلة شخصياته في طريقها إلى نقطة النهاية بعد حدوث انقلاب عسكري يغير من مصائر العرب واليهود، ويدفع الفلسطينيين والإسرائيليين المعارضين للانقلاب إلى النجاة بأنفسهم من قبضة الدكتاتورية الإسرائيلية الوليدة. إنها رواية تتفق مع أسلوب عاموس كينان الهجائي وتيار أدب العبث الذي اعتنقه منذ كتب أعماله المسرحية الأولى، كما أنها تسعى لاختزال حبكتها في الرحلة التي تقوم بها شخصياتها ناجية من عمليات التصفية الجسدية التي لا ترحم. الشخصيات العربية في الرواية خفيضة الصوت، لكنها لا تختلف في مصيرها عن الشخصيات اليهودية التي تعترض على التحول الدراماتيكي من النظام الديموقراطي إلى ديكتاتورية عسكرية تشبه دكتاتوريات أميركا اللاتينية في ستينات وسبعينات القرن الماضي. لا شيء في الرواية يوحي بالأمل، والشخصيات القليلة الناجية بجلدها تسعى إلى عين حارود (هل هي عين جالوت؟) في طريقها إلى الشمال. تبدو الرواية في هذا السياق وكأنها تذكر بمعركة عين جالوت التي دارت رحاها عام 1260 في منطقة بالاسم نفسه تقع في السهل الواصل بين مدن جنين وبيسان والناصرة وانتصر فيها المماليك على المغول واضعين حداً لاحتلال أحفاد جنكيز خان لبلاد الشام. قد لا تكون هذه الإشارات التاريخية في ذهن عاموس كينان عندما كتب روايته، وربما نشطح في التأويل عندما نقوم بتحريف عنوان هذه الرواية شديدة الأهمية في الأدب الإسرائيلي الذي أهمل عملاً تنبؤياً من هذا النوع لأسباب تتصل بتبعية النحال الثقافي الإسرائيلي للدولة. لكن الجدير بالتأمل هو القراءة المستقبلية لتحولات الكيان العبري على أرض فلسطين، ولربما للمآل الأخير لدولة تعد الدين قومية، وتقوم، على رغم دعاوى الديموقراطية، على التمييز العنصري، وتطبق على مواطنيها قوانين مزدوجة فتعامل اليهود بغير ما تعامل به العرب الفلسطينيين. يقرأ عاموس كينان في «الطريق إلى عين حارود» (هذه الرواية اللافتة التي ينبغي إعادة طبع ترجمتها العربية، فهي نفدت منذ زمن طويل من الأسواق) مستقبل الدولة العبرية في ضوء التحولات السياسية الجارية، وصعود اليمين المستمر، وعجز اليسار الإسرائيلي ونفاقه، وازدياد سلطة الحاخامات، وبعد أن أصبح المستوطنون قابضين على صندوق الانتخابات يلجأ إليهم اليمين الإسرائيلي المتطرف للوصول إلى السلطة. ويبدو أن الأحداث الأولى من هذا الحلم الكابوسي الذي حلمه كينان في رواية قد بدأت في التحقق. فها هي إسرائيل تقر قانون يهودية الدولة، وتهدد الفلسطينيين الذين يحملون جنسيتها بإلغاء المواطنة والترحيل الجماعي إن لم يعترفوا بيهودية الدولة، أي شطبهم تماماً من المعادلة السياسية وتحويلهم إلى لا مواطنين، إلى بدون. كما أن استطلاعات الرأي تظهر تأييداً ساحقاً لقرار الكنيست في الأوساط الإسرائيلية الدينية والعلمانية. ألسنا قريبين، بل على مرمى حجر، من دكتاتورية دولة إسرائيل المرعبة؟ هكذا حدس كاتب إسرائيلي شهدت حياته مساراً متعرجاً يعكس حيرة المثقف اليساري الإسرائيلي العاجز عن رفع صوته عالياً في وجه الظلم التاريخي الذي مارسه بنو جلدته في حق الشعب الفلسطيني.