تصدر خلال أيام عن "المركز الثقافي العربي" بيروت، الدار البيضاء رواية ربيع جابر التاسعة "رحلة الغرناطي". تحكي الرواية مغامرات الرحالة أبي حامد الغرناطي الأندلسي بين أوروبا وافريقيا وآسيا في القرن الثاني عشر للميلاد. هزّه أخوه من كتفه لكنه لم يستيقظ. الليلة الماضية لم ينم جيداً. رأى مناماً أخافه. لا يذكر المنام. لكنه استيقظ خائفاً. بعد ذلك لم ينم. شخير الأب وراء الجدار وطنين البعوض في ناموسية أخيه. لم ينم. ظل يتقلب طوال الليل. وحين غفا أخيراً، قبيل الفجر، لم يهنأ بالغفوة. أذّن المؤذن خارج النافذة شيخ عبدالواحد، وردّ عليه مؤذن آخر من الجامع المقابل، فأيقظاه تماماً. الآن، نائماً في ظلال التينة، وهواء ناشف يجفف العرق عن جبهته، تذكر جزءاً من المنام. كان يمشي في مدينة غريبة، ورأى رجالاً مقيدين بالسلاسل، ثيابهم ممزقة، وأجسادهم مدماة ومتربة، يمشون أمام جنود أفارقة يحملون رماحاً طويلة. هزّه أخوه من كتفه لكنه لم يستيقظ. حين لم يستيقظ صرخ به: محمد! فتح عينيه وكان يتوقع رؤية هؤلاء الجنود. رأى أخاه الربيع ينحني فوقه أبيض الوجه. في البعيد كانت الأسوار غارقة في ظلال مثلجة. دخل البرد في مجرى دمه. مثل قطع جليد. لون أحمر يغطي السماء والبرية. وهواء محمل برنين أجراس يهبّ من جهة النهر، من جهة غرناطة. كيف مضى النهار؟ قال أخوه: ضاعت خمسة خراف. أنهضْ! انهض وابحثْ معي! بين الصخور، الى الجنوب، وراء حقل صبّارٍ، عثرا على ثلاثة منها. الخروف الرابع كان يتلكأ عند حافة الغابة مخفياً في ظل سنديانة فلين عملاقة. لم يجدا الخامس. قال محمد: "الأسود المبقع"؟ قال الربيع: "الأسود الملعون". ماذا نعمل الآن؟ كان عليك أن تنام؟ قال محمد: الشمس تغيب. أين يكون ذهب؟ قال أخوه: الغابة. نظر محمد الى الغابة. أشجار سنديان ضخمة ملزوز بعضها الى بعض. عتمة تلتف بين جذوع قاتمة. الورق الكثيف يمنع دخول الضوء. الهواء ذاته يعجز عن ولوج هذه الغابة. قال محمد: ضاع إذاً. قال أخوه: الظلام لم يهبط بعد. السماء رمادية تفقد ما بقي من نورها البرتقالي. فوق الغابة بدت منخفضة كأنها تلتصق بقمم السنديان. الغيوم المبعثرة في الأفق اسودت حوافها. حلّ المساء وتعالى ثغاء الخراف. قال محمد: تأخر الوقت. قال أخوه: لن يدخل عميقاً في الغابة. ما زال صغيراً. ودخل بين أشجار السنديان. التفت محمد نحو الأسوار البعيدة. ضوء أحمر يلمع على أبراجها. استدار ونادى أخاه: لا تدخل الغابة. سمع الكلب ينبح، وجرس الكراز يرنّ في البرية الساكنة. كان وحده الآن، عند حافة العالم. تململت الخِراف تحت السماء المعتمة، وتلاصقت ترتجف أمام زحف الظلام. تكاثف الليل مثل حبر أسود يسيل من قارورة. في بيروتغرناطة توهجت القناديل، صفراء تملأ النوافذ المستطيلة. رآها محمد من البرية. كانت النجوم تملأ السماء الآن. بيضاء وتشبه ثقوباً. عوى ذئبٌ عواءً طويلاً. رفعت الخراف رؤوسها دفعة واحدة. وتحركت موجة خوف في صوفها. الكلب تجمد منتصب الذيل والأذنين، وعيناه مفتوحتان على وسعهما ومسددتان صوب الغابة. خرج هواء من الغابة محملاً بحفيف الأوراق ورائحة التراب الرطب. انتظر محمد دهراً، ينادي أخاه ولا أحد يرد عليه. لم يرجع أخوه. كان الليل ينتصف. قبل ست سنوات، في 1085، استولي ملك قشتالة على مملكة طليطلة الاسلامية. كان يُدعى ألفونسو السادس، وبدأ يستعد للسيطرة على الأندلس كلها. المعتمد بن عبّاد، صاحب إشبيلية، طلب نجدة المرابطين، أصحاب الدولة الأقوى في افريقيا. المرابطون، بعد أن حلّوا في الأندلس وألحقوا هزيمة بالاسبان في الزلاّقة، اختلفوا مع أمراء البلاد المسلمين، فانقلبوا عليهم. سيطروا على غرناطة. سيطروا على مالقة. سيطروا على قرطبة. وأرسلوا أمراء هذه المدن أسرى الى مراكش. بعد ذلك ضربوا الحصار على اشبيلية. في 9 أيلول سبتمبر 1091، دخلوا المدينة، وأسروا المعتمد بن عبّاد وجميع أهل بيته. هذه كانت الأخبار القادمة من الغرب. غرب غرناطة. من الشرق أيضاً، من وراء الغابات، أتت أنباء حروب أخرى. السيد كامبيادور، أحد نبلاء قشتالة، غادر مدينة بلنسية على ساحل المتوسط، وزحف صوب مرسية. قطع نهر سفورة، وحاصر قرطجنة، وكاد أن يقتحم ألمرية. في طريق عودته الى بلاده أحرق مزارع، وأخذ أسرى، وسرق محاصيل وماشية. إحدى الفرق في جيشه بلغت غابات غرناطةالشرقية. صادت ثعالب وأيائل ودببة وخنازير برية. خيمت ليلة في السهل شرق مُخاكر ثم لحقت الجيش المتراجع الى بلنسية، وراء نهر خوكار. في غرناطة، كان المرابطون يمدون الموائد احتفالاً بسقوط إشبيلية. مواعين قش من سعف النخل، مملوءة خبزاً ساخناً، توزعت بين الصواني والأطباق. بايِلا، طبق بلنسية الشهير: أرز ولحم دجاج وكركند وقريدس ومحار وبازيلا. فابادا: فاصوليا من جْيّان باللحم. كروش مدريدية: مصارين منقوعة بالخل الأبيض مع فلفل حار وبصل، محشوة بفليفلة حمراء مجففة وحمص ولحم. سردين مشوي وسلطة هليون. أرانب سلمنكية محمرة على الفحم. حجال من مالقة متبلة بالصعتر والزعفران والليمون. قراقير من شقوبية وآبلة، مطلية بزيت طيب نقعت فيه أوراق اكليل الجبل، ومشوية على نار بطيئة. خراف حُمِلت من كونكة، الدهن يقطر منها، أسمر كثيفاً، رائحته تشبه المسك، محشوة بالأرز والصنوبر والبندق. سراطين من وادي الحجارة. ثمار بحر أُعدت وفق وصفات من قطالونية مع صلصات حارة. زيتون اشبيلي محشو ومكبوس في الزيت والليمون. كان ضجيج الولائم يعلو فوق البيوت والأشجار. يعلو ويسبح مع الهواء حتى يبلغ البيت الأبيض المنكوب على ضفة نهر شنيل. ضاع الربيع، الابن البكر لعبدالرحمن أبي الربيع بن سليمان المازني القيسي الغرناطي. عشرة أيام وهم يبحثون عنه، ولم يقعوا له على أثر. لا هو، ولا الخروف الملعون. فقط وجدوا قطعة من مئزره. قماشة حمراء مزقها جبّ عليق بين سنديان الغابة. الأب عبدالرحمن، في فرشته، والمصحف الكريم مفتوح على سورة البقرة. لا يحس بثقل المجلد على فخذيه. ضجة تأتي من وراء المشربية. بكاء يتصاعد من البهو الداخلي. ويقرأ: "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به واعفُ عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا". بعد ثلاث سنوات، في منتصف الخريف، مات الجد سليمان. كان خرج كعادته، بعد تناول الغذاء، عند الظهيرة، ليمشي. على رأسه عمامة زرقاء، وعلى كتفيه مئزر كحلي. في يده عصا طويلة، وفي حزامه الحريري الأحمر العريض خنجر بقبضة مذهبة. قضى السنوات الثلاث الماضية يكرر النزهة ذاتها. يقطع سهول الموز ويخرج الى البرية. يمشي حتى التينة الضخمة. يجلس في ظلالها قليلاً ثم يتابع رحلته. يدخل الغابة. يدور في ارجائها محاذراً تمزيق ثيابه بالشوك والأغصان. حين يبدأ الفضاء فوق الورق الكثيف كالمظلات، يفقد بياضه، متحولاً الى الرمادي، يدور عائداً من حيث أتى. يخرج من الغابة حاملاً بعض الأعشاب أو الفطر. ثم يمشي محني الرأس نحو سهول الموز. بين حين وآخر ينظر الى اليمين. الى أشباح الأسوار تتعالى فوق التلال وترافقه نصف الطريق. حين يدخل غرناطة، ويرى القناديل تشتعل في النوافذ عن جانبي الزقاق، يتجمد الدم في عروقه: يفكر في الغابة، في الربيع، حفيده، ضائعاً في الغابة، والليل قد هبط. يدفع البوابة. ثقيلة. خشبها مشبع بالماء. السوس يأكلها. لكن السوس يُثقلها أيضاً. ثقيلة البوابة. وثقلها يزداد بمرور كل يوم. يصعد السلالم الخشب الى غرفة ابنه المفلوج. كي يجلس قربه ساعة. يجلس ساكتاً ولا يعرف ماذا يقول. قال له عبدالرحمن ذات مساء: فقط لو لم أكن مفلوجاً! منذ ثلاث سنوات يجلس قربه ساعة كل مساء. يخيل اليه ان عبدالرحمن لم يعد ابنه. منذ فُلج، لا، منذ ضاع الربيع، جاوز عبدالرحمن أباه سليمان في العمر. سليمان المازني، الستيني الهرم، الذي شارك في معارك بجاو ولاميفو وقُلمُرية قبل سنوات بعيدة، بات يقعد قرب ابنه المفلوج الذي لم يتجاوز الثانية والأربعين بعد، فيحس انه قاعد مع المرحوم أبيه، لا مع ابنه. حلّ المساء ولم يرجع الجد سليمان الى البيت. أم الربيع، واربت البوابة، ووقفت في الظل تنتظره. يخطر له أحياناً أن يصلي العشاء في الجامع. في هذه الحال يتأخر كي يعود. سمعت أم الربيع صوتاً في أعماق البهو الداخلي. كان الفضاء ما زال منيراً بعض الشيء في الأعالي، أما هنا في الأسفل، فكانت العتمة تغطي أرض البهو، وأحواض الورد حول البركة، ومياه البركة. في الظلام تبينت محمد جالساً على البلاطة قرب شجرة البرتقال. نادت عليه: محمد. رأيت جدك؟ فزعت من صوتها. في سكون المساء خرج النداء من حنجرتها عالياً. خافت ان يكون أبو الربيع سمعها في الأعلى. نادت على محمد بصوت خفيض: تعال. تعال هنا. اقترب منها. سألته: تعرف أين جدك؟ قال: في الغابة. كل يوم يذهب الى الغابة. انسحب اللون من وجهها. في العتمة رأى وجهها يشحب. يصير بلون الشمع. تذكر ذلك اليوم، قبل ثلاث سنوات، وهو يفتح عينيه تحت التينة. الشمس تغيب، وجه الربيع أبيض، والخِراف ترعى في الظلال. رفع يده، تلمس الحرز في عنقه: حرز مربع من الحرير الأبيض، في داخله ورقة عليها آيات كريمة، ومع الورقة قماشة حمراء عثر عليها جده سليمان على شوك الغابة قبل سنوات. سمع أباه ينادي من أعلى بصوت عجوز: محمد. محمد. أحس بضعف في ساقيه. لن يصعد السلالم. لن يذهب الى غرفة أبيه. قال لأمه: سأذهب وأبحث عنه. ربما يكون في السوق. قالت الأم: لا. كانت تخاف أن يضيع. في الصباح عثروا على الجد في الغابة. كان جالساً على الأرض، وظهره يستند الى شجرة. عيناه مفتوحتان. يده اليمنى تقبض حفنة تراب وورق سنديان يابس. والنمل يغطي وجهه. كانت يده زرقاء كأنها نُقِعت في حجر نيل. وفي باطن كفه علامات من أظافره.