يعد محمد مستجاب من الكُتاب الذين لا يخطئ القارئ في معرفة اسلوبهم من الجملة الأولى. فهو الساخر والحكاء والمستبطن للأمور. وهو شاعر الربابة الجوال في كل الأقاليم يعزف على ربابته ملاحم السخرية من الأوضاع الاجتماعية المؤلمة. وهو المنحاز دائماً الى المهمشين وصاحب "بوابة جبر الخواطر" و"حرق الدم" و"قيام وانهيار آل مستجاب" وصاحب "التاريخ السري لنعمان عبدالحافظ" روايته الأولى، وقد انتظر الكثيرون جزءاً ثانياً لها، لكنه فاجأ الجميع بروايته التي صدرت حديثاً عن الهيئة العامة لقصور الثقافة - سلسلة أصوات أدبية - بعنوان "إنه الرابع من آل مستجاب" وفيها يكمل ما بدأه في مجموعته القصصية "قيام وانهيار آل مستجاب" من حس ساخر ورؤية فانتازية للموروث الثقافي ورمزية سياسية تنتقد الدكتاتورية. رواية "مستجاب الرابع" تدور في إطارها الكلي حول بدوي رأى في المنام أنه يذبح ابنه، ولكن ما إن يمتثل للأمر حتى يفاجأ أن لا ولد له، فقد رحلت كل زوجاته بعد معاشرته بيومين أو ثلاثة على الأكثر. ولم يعرف المستجابيون السر إلا بعدما تزوج بنتاً من الفلاحين يرعاها عمها بالكاد. فحين هربت ذهبوا جميعاً كي يعيدوها وليعاقبوها بطريقتهم. لكنها قطعت عليهم مشاوراتهم وأعلنت السر بأن عفونته لا تطاق، ومن ثم قال لها كبيرهم: "اذهبي الله يستر عليك". هذه الزوجة التي تعود إليها الأحداث في نهاية الرواية حين يخرج "الرابع" بقومه ليبحثوا عن زوجاته فربما يجد ابنه الذي أُمر بأن يذبحه فيجدها انجبت ابناً والابن انجب أولاداً كثيرين حتى إن واحداً منهم يرفض الأمر برمته ويسخر منهم. لكن والده - الذبيح - يصفعه ويمتثل لأمر والده الذي يشير عليه حكماء القوم بوضع كبشٍ إلى جانبه ثم يذبح الكبش بدلاً منه. هذا الإطار العام الذي لا يخرج عن القصة المعروفة سوى بفانتازيا ساخرة صنعها الكاتب حول مستجاب الرابع ذي الرائحة العفنة والذي يلتصق بزوجاته مثلما تلتصق الكلاب أثناء الجماع. فانتازيا لا تكاد تخلو صفحة من الصفحات المئة - عدد صفحات الرواية - منها، حيث المشاهد المتواترة كالمحفة التي حمل عليها "الرابع" وتسميتها بالعرش ثم العُريش. ومشهد سقوط الرابع عن جواده، وإمساكه بالسكين وهو على المحفة، والاختلاف في إمكان الذبح بالسكين أم السيف وأيهما شرعي، معتمداً طوال السرد تيمة الراوي العليم والمبين للأمور كلها. فيقول دعك من كذا فلم يرد سوى كذا، ومستجاب الفلاني الذي قام بكذا لا نعرف ترتيبه في آل مستجاب، وهكذا... هذه التيمة التي جعلته أقرب الى الشعراء الجوالين بين القرى يحكون السير الشعبية كأبي زيد الهلالي، أو الظاهر بيبرس أو عنترة. وإذا دققنا قليلاً في العمل الذي لا يزيد على قصة قصيرة طوّلها الكاتب قسراً سنجد أنه لم يضف شيئاً إلى القارئ، فعلى مستوى الأسلوب والسخرية البلاغية المصنوعة بفانتازيا صاخبة، سنجد الاسلوب نفسه الذي اعتدناه من مستجاب حتى أنه جعله مجانياً من كثرة استخدامه في مقالاته وزواياه في الجرائد والمجلات، ومن حيث المحاورة الثقافية مع التراث سنجده لم يختلف معه ولم ينتقده. فقط جعله مطية لما اعتدناه من حس ساخر لديه، حتى إنه أفقد القصة التي كان يمكن أن يتناولها بفنية مكثفة - ابراهيم واسماعيل - مثلما تناول في "قيام وانهيار آل مستجاب" قصة سليمان وبلقيس، فجاء العمل حافلاً بالحكي والسرد الزائد الذي لا يهدف إلى شيء سوى السخرية والفانتازيا وق وقعتا في المجانية وبلا هدف فني. يبقى أن نشير إلى أن تيمة الراوي العليم بالأحداث والمتعالي عليها أحياناً أفقدت العمل الكثير من الحيوية التي كان يجب أن تنبع من درامية البحث عن الزوجات ثم الابن ومشهد القتل الذي جاء فاتراً لأنه لم يخرج عن النص الأساس قيد شعرة سوى أنسنته وانزاله من قداسته الى الواقع الآدمي. لا أدري ما الذي أراد أن يخرج به مستجاب بعد روايته الأولى "التاريخ السري" والتي كان الجميع ينتظر جزءها الثاني بعد ما احدثت من جدل فني. ونرجو ألا يعدد أحدنا مقالات مستجاب التي صدرت في كتب ك"نبش الغراب" أو "بوابة جبر الخواطر" وغيرها، فإن نكتسب كاتباً مبدعاً خير من هذا كله. ولعل لجوء محمد مستجاب الى مثل هذه الاجواء الطريفة والفنتازية استطاع ان يعوض عن تلك الهنات الصغيرة التي اعترت الرواية.