مثّلت تجربة الكاتب الراحل محمد مستجاب؛ الذي غاب عن دنيانا مساء الأحد الماضي 26 يونيو عن 67 عاماً؛ مساراً فريداً في الكتابة القصصية في مصر، ومساراً إنسانياً بالغ التميز والخصوصية في الواقع الثقافي. فالأديب محمد مستجاب، الذي خاض بقلمه ميادين السخرية والخرافات والأساطير والحكايا الشعبية والقروية وتطرق في قصصه لحياة أهل الصعيد في جنوب مصر وتناول القضايا المجتمعية الحساسة واستخدم لغة متوهجة تجذب المتلقي إلى معترك العمل الفني، هو نفسه ذلك الإنسان الجنوبي الساخر، الضاحك والباكي في آنٍ، المقتحم، سريع البديهة، ذو اللهجة الصعيدية، الذي يرتدي في معظم الأحوال (حتى في الندوات والمؤتمرات والمهرجانات) جلبابه الأبيض النقي الدال على تشبث قوي وحقيقي بالجذور، وتعلق وثيق بتربة المنشأ. ومحمد مستجاب؛ المولود في محافظة أسيوط في عام 1938؛ هو أحد أبناء جيل الستينات في مصر، ذلك الجيل الذي اقترن في بداياته بمجلة «المجلة» التي كان يرئس تحريرها يحيى حقي في ذلك الوقت، وشكّل مستجاب مع رفقائه من أمثال يحيى الطاهر عبد الله ومحمد البساطي والبهاء طاهر وجمال الغيطاني وأبو المعاطي أبو النجا وغيرهم نقلة نوعية في الكتابة القصصية والروائية في مصر، إذ صارت الحكاية المؤلّفة قريبة من الواقع، وثيقة الصلة بتنهدات البشر وأنات المكلومين المطحونين، وباتت اللغة راضعة من ألسن البسطاء الشعبيين، العمال والقرويين والكادحين، وامتزجت الأخيلة الفنية والتصورات الذهنية بالأحداث الواقعية والأساطير والحكايا الشعبية داخل بوتقة غنية متشابكة الخيوط متعددة المستويات. قدم مستجاب مجموعة من الأعمال الروائية والقصصية، منها: «من التاريخ السري لنعمان عبد الحافظ»، «إنه الرابع من آل مستجاب»، «مستجاب الفاضل»، «ديروط الشريف» «قيام وانهيار آل مستجاب»، «الجبارنة»، «الحزن يميل للممازحة»، وغيرها. وترجمت بعض قصصه إلى الهولندية واليابانية والفرنسية، وقد حصل مستجاب على جائزة الدولة التشجيعية في عام 1984، وعلى وسام الفنون والآداب من الطبقة الأولى في عام 1986. تلقى مستجاب تعليماً متوسطاً في بلدته بصعيد مصر، وامتهن بعض المهن البعيدة عن مجال الكتابة والأدب، وفي عام 1964 عمل في بناء السد العالي، وفي عام 1969 أرسل قصة إلى مجلة الهلال بعنوان «الوصية الحادية عشرة»، فنشرتها المجلة على الفور، وكان ذلك بداية التحول في حياته، وتوالت بعدها أعماله الأدبية في الظهور على صفحات مجلة «المجلة» وغيرها. وقد عين مستجاب عضواً في مجمع اللغة العربية بالقاهرة في عام 1970، وترقى في المناصب إلى أن وصل إلى وظيفة رئيس إدارة بالمجمع، حتى أحيل إلى التقاعد. مما يحتسب لمحمد مستجاب ككاتب قصصي؛ خصوصاً في أعماله التي دارت عن «آل مستجاب»؛ قدرته على ابتكار أنماط جديدة من السرد جمع فيها بين السيرة الشخصية وكتابة اليوميات واستدعاء أحداث واقعية بعينها مع دمج ذلك كله بالحكايا الشعبية والخرافات والأساطير، أما لغته فجاءت ساخرة جزلة غير منقطعة الصلة بالتراث؛ مازجة بين الفصحى والعامية؛ مليئة بالمفارقات والمفاجآت التي تعري الواقع وتفضحه، قادرة على التطرق إلى تناول القضايا الحساسة والغيبيات ورصد حركة البشر في القرى والأحياء الشعبية على وجه الخصوص. يقول مستجاب في قصته «الثعالب»: «بمجرد أن أثمرت الكرمة، وظهرت عناقيد العنب بين الأوراق، أصبح أبي شديد العصبية، فقد فتكت الثعالب بعناقيد العام الماضي، ظلت ترقبه حصرماً ثم داهمته ناضجاً، وسخر الأهل من أبي فليست الثعالب جراداً أو دود قطن يصعب اتقاؤها، ولذا فقد كان أبي متحفزاً هذا العام كي لا يصبح أمثولة في الإهمال والكسل، وأمر أخي الأكبر أن يقيم الفراش تحت التكعيبة حتى يحرس الثمر طوال الليل، منبهاً إلى أن العنب ما يكاد يصبح في طور الحصرم حتى يسرع نحو النضج، وبعد ليلتين وجدنا حبات العنب مفروطة في الأرض وقد تهتكت أربعة عناقيد كبيرة، واعتدى أبي على أخي فوق ظهره بالعصا لأنه ترك الكروم وذهب إلى السينما، وأمرني أبي أن أرافق أخي في حراسته ليلاً، وبعد ليلتين وجدنا حبات العنب مفروطة في الأرض وقد تهتكت سبعة عناقيد كبيرة فلطمني أبي على وجهي لأني ذهبت إلى فرح بنت سمعان، ثم عاد إلى البيت فاعتدى على أمي لأنها أنجبت هؤلاء الذين لا يصلحون إلا للمساخر والأكل والشرب، ثم لم يلبث أبي - بعد أن عزلنا من مهام حراسة العنب - أن أقام هو تحت الكرمة. لم يعد يذهب إلى أي مكان خشية أن تتعرض الأعناب للتلف أو السرقة. أخي الأصغر يحضر له مهامه من البيت في القرية، وأنا وأخي الأكبر محرومان من الاقتراب منه حتى لا نثير غضبه، وأبي ينام طوال النهار ثم يظل طوال الليل، غير أنه لم يستطع أن يقاوم إغفاءة سريعة في الليلة الخامسة، فقام بعدها ليطارد أربعة ثعالب نهشت نصف العنب. واجتمع أبي بنا، كان واضحاً أنه مرهق ومجهد وشديد التعب، وقال في صوت خفيض إن اليوم أربع وعشرون ساعة ونحن أربعة بالإضافة إلى والدتنا وأختنا، ولذا فهو يرى - إنقاذاً لباقي العنب - أن نقتسم حراسة العنب بيننا جميعاً وأن كل واحد يجب أن يتولى الحراسة أربع أو خمس ساعات وأنه يرى أن ذلك أجدى من سهر واحد بمفرده. وبدأت الليالي الأولى مطمئنة، أخذ أخي أول الليل والثاني منتصفه، والثالث آخره، وقمت أنا مبكراً لأتولى الحراسة حيث استلم أبي - أو أمي - الأمر من بعدي. ولظروف تحول دون أن يظل أخي الأكبر يقظاً مدة خمس ساعات، استعان بأصدقائه، وفي الليلة الرابعة لعبوا الورق (الكوتشينة) خارج الكرمة نظراً لضعف النور تحتها، وفي الليلة الخامسة استضاف أخي الأوسط أترابه ولعبوا الكرة خارج الكرمة ورأى أبي أن ذلك لا يعوق عملية الحراسة فغض البصر عما يحدث، لكي يستطيع أن يظل في كامل لياقته الأبوية عاد إلى المنزل في القرية، تاركاً الكروم محروسة بأكبر قدر من الضجيج. ولذا فقد أصبح من المألوف أن نجتمع نحن الإخوة تحت الكروم كل ليلة، ونبدأ الحراسة. واحد يلعب مع أصدقائه وواحد يتسلى مع أترابه، وواحد ينام أو يلعب أو يذهب إلى القرية كي يشتري السجاير والمأكولات، وفي النهار نهرب جميعاً من الحرارة تاركين الكروم لكي يرعاها أبي. وكان لافتاً للنظر أن الثعالب توقفت بالفعل عن مهاجمة الكروم، تلك التي ظلت أوراقها تلهث من الحرارة دون عنقود واحد من العنب». وقد آمن محمد مستجاب بأن «البؤس» و«الجمال» وجهان لعملة واحدة، وأن البؤس من الممكن أن يكون دافعاً للإبداع، وفي هذا الصدد يقول: «لا يعترف علماء النفس اعترافاً واضحاً بحالات البؤس، لكنك في مؤلفاتهم تواجه ألفاظاً ومصطلحات مثل عدم التوافق، الإحباط، عدم التحقق، الاكتئاب، إثبات الذات، الفشل، الإفلاس النفسي أو الخواء، عدم الثقة، الجبن، التعسف، الإحساس بالظلم، حمى الانتقام، الإسراف، الفقر، والخوف من العناصر السابقة أيضاً يدفع للبؤس المبكر، ويقف الآخرون على الطرف المواجه لمعادلة الأنا أو الذات ليقيموا لنا معسكراً من البؤس! وأي شيء في العالم يمكنه أن يصنع بؤساً حتى لو كان تحقيقاً للأمنية الغالية، وكثيرون يخلطون بين الكتابة وكاتبها، الكتابة يمكنها أن تكون تشكيلاً متألقاً وضاء مع أنها تتعرض للبؤس، وكاتبها بائس أيضاً، وكثيرون من كتاب التهكم والسخرية يعانون من البؤس! وقد قامت المذاهب والمدارس الوجودية الفلسفية بإضفاء البؤس على من لا يدرك حدود وجوده وقيام كيانه، وأشهر شاعر بائس في العصر الحديث هو محمود الديب، وأشهر مضحك بائس هو الممثل عمر الجيزاوي، وأشهر ممثل عبر عن البؤس المنير هو نجيب الريحاني، وكانت فاتن حمامة الشهيرة قد وقعت فترة في دائرة أفلام البؤس الطاحن مع حسن الإمام، وأكثر النهايات المعروفة بؤساً شاه إيران الأخير وهو يبحث عن ملجأ ينهي فيه حياته، وتعد الفترة من 1967 إلى 1970 ذات بؤس مركز على الزعيم جمال عبد الناصر، وأقسى نهاية سريعة للبؤس الطريقة التي قتل بها الشاعر أبو الطيب المتنبي، أما أكثر المشاهد بؤساً في الوجود اختناق القمر في ليالي الشتاء الباردة، وآخر بيان يلقيه حاكم مخلوع، ثم ناهيك أن يداهمك بؤس وأنت غير مستعد له!».